Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

إنيو موريكوني موزارت الأزمنة الحديثة خاطب الملايين

70 مليون إسطوانة وموسيقى ل500 فيلم ورفيق دربه سرجيو ليوني

الموسيقي الإيطالي العالمي إنيو موريكوني (موقع الفنان)

ملايين حزنوا أمس على رحيل الموسيقي الإيطالي الكبير إنيو موريكوني عن 91 عاماً في مسقط رأسه روما. المؤلف الأشهر عالمياً في مجال الموسيقى التصويرية اشتغل على أكثر من 500 فيلم سينمائي وباع 70 مليون اسطوانة خلال فترة امتدت على أكثر من 60 سنة، صنع فيها مع رفيق دربه سرجيو ليوني مجد أفلام الوسترن السباغيتّي. ولكن لا يُمكن حصره في هذا الاطار فحسب، فهو قارب الموسيقى في أكثر من نوع وفرع: كتب أغاني منوعات، وتراتيل دينية، وأعمالاً أوركسترالية ضخمة. 

كان موريكوني قليل الكلام، لا يجري مقابلات الا نادراً، اطلالاته في الإعلام استثنائية. أمر يمكن تفهمه من دون بذل جهد كبير، اذا أخذنا في الاعتبار أن الموسيقى لغة كونية، وهو خاطب من خلالها كلّ الناس على اختلاف ثقافاتهم وأعراقهم ولغاتهم وأديانهم. واليوم، بعدما "أطربهم" لعقود، يستطيع أن ينام مطمئناً إلى فكرة أن الرسالة، رسالة الحبّ والجمال والمشاعر الإنسانية التي بعثها، قد وصلت إلى أكبر عدد، وليس تناقل الناس لأعماله على وسائط التواصل الاجتماعي بعد انتشار خبر موته، سوى دليل على ذلك. وعليه، فإن اعتباره الموسيقى تجسيد للمسكوت عنه في الأفلام، يقول الكثير عن شخصيته والكاراكتير الذي طبع عمله. 

شرق العالم وغربه

موسيقى موريكوني غزت العالم من غربه إلى شرقه، ودقّت على أبواب الملايين من الناس الذين لم يعرفوا شيئاً عن صاحبها الكتوم المتحفظ. يكاد لا يوجد شخص لم يسمع لحناً له، ولو عن طريق المصادفة. هذا الموسيقي الأسطورة الذي يعتبره كوانتن تارانتينو موزارت الأزمنة الحديثة، كان شريكاً أساسياً في تشكيل لحظات سينمائية كبيرة في الأفلام التي عمل عليها. لحظات لا تزال ماثلة في وجدان كلّ هواة السينما. هو الذي يتحدّر من ثقافة بلاد منحت السينما ملحنين عظماء، من مثل نينو روتّا الذي تعاون مع فيلليني تعاوناً وثيقاً، لم يكن مجرد ملحناً يزين الأفلام بنوتاته، بل أضحى رسّاماً للمشهد، ضابطاً لايقاعه. ومن شدة قوة شخصية موسيقاه، كان المتفرج يراها أكثر ممّا يسمعها. بعض المخرجين، في مقدّمهم سرجيو ليوني، عرف كيف يستثمرها، ويبلغ بها ذروة التعبير.

بعد عمله مع ليوني على فيلم "لأجل حفنة من الدولارات"، ذاع صيته كمؤلف موسيقى ذو رؤية استثنائية، وفُتِح له باب التعاون مع كبار السينمائيين في إيطاليا والعالم. في المحصّلة، اشتغل على أفلام كبيرة لسينمائيين كبار: جون هيوستن، جون بورمان، برناردو برتوللوتشي، جيوسيبّي تورناتوري، بيار باولو بازوليني، ترنس ماليك، هنري فرنوي، إليو بتري، براين دي بالما، كوانتن تارانتينو، ماركو بيللوكيو، داريو أرجنتو. مجرد نظرة خاطفة على سجله الفنّي، يجلعك تشعر بالدهشة. لا شيء سوى تحف سينمائية أو أفلام لا تُنسى. 

إلا أن تعاونه مع ليوني يشكّل قمّة فنّه، لأسباب عدة يصعب عرضها كلها في هذه العجالة، ولكن يمكن القول اختصاراً بأن كليهما، ليوني وهو، كانا طليعيين، واستطاعا إنجاز سينما عظمتها في هذه الكيمياء التي تولدت بين الصورة والموسيقى. وفي هذا الاطار، لا بد أن يتذكّر المُشاهد اللقطات المقربة على وجوه الممثّلين في أفلام ليوني، مع ذلك الزمن السينمائي الممتد الذي أشبعته موسيقى توتراً وريبة وتفخيماً.  

موسيقي السينما

يروي موريكوني لمجلة "لكسبرس" الفرنسية كيف تعرف على ليوني: "قصدني في منزلي. لم أكد أفتح الباب حتى رأيتُ فيه رفيقاً قديماً في مدرسة الفتيان الابتدائية الشعبية في روما. في ما بعد عثرتُ بين مجموعة صوري على صورة تجمع تلامذة صفنا. كلّمني عن فيلمه. قال أنه يتمنى أن أكتب له نشيداً عسكرياً مكسيكياً. أخرجتُ لحناً للصغار كنت كتبته لبرنامج تلفزيوني، قبل سبع سنوات، ولم يجد سبيلاً اليه. عرفته على الترومبيت. وهكذا ولد المحور الرئيسي لفيلم "لأجل حفنة من الدولارات". لم يعلم ليوني بحيلتي، إلاّ لاحقاً، ممّا جعله يختار لأفلامه بين التوليفات المرفوضة من المخرجين (...). المرة الأولى التي شاهدنا فيها سرجيو وأنا "لأجل حفنة من الدولارات"، وجدناه سيئاً. شيئاً فشيئاً تحسنت الأفلام، حتى كانت تحفته الشهيرة "ذات زمن في أميركا".

أدخل موريكوني في ألحانه آلات لم تكن مستخدمة، مثل المثلث والجرس والصفّارة، كما لجأ إلى صراخ الإنسان والحيوانات. ولكن يؤكد بأنه لم يفعل ذلك بهدف الاستفزاز، فهو في النهاية ابن الموسيقى الكلاسيكية التي درسها في كونسرفاتوار سانتا تشيشيليا وابن عازف جاز. لكنه فعل ذلك من أجل إدخال بعض الواقعية إلى سينما الوسترن السباغيتّي التي كانت تُعد انقلاباً على وسترن الغرب الأميركي التقليدي، ولطالما جوبهت بالرفض من قبل الأصوليين. يقول أيضاً بأنه لطالما استمع إلى الأصوات في أصغر ذراتها، وفي نظره أن الكثير من الأصوات ما هي سوى موسيقى، كعواء الثعلب مثلاً الذي نقله في "الطيب، الشرير والقبيح"، من خلال تسجيل صوت مغنيين طلب منهما أن يصرخا معاً، فدمج الصوتين مع صداهما، الأمر الذي نال إعجاب ليوني. أما الهارمونيكا التي لا يُمكن تخيل "ذات زمن في الغرب"، فكان عليها ان تعبّر عن المهانة التي تعرضت لها الشخصية التي يلعبها تشارلز برونسون، فنسمع الهارمونيكا تصرخ كالصراخ الناجم من الوجع.  

من بين أروع تأليفاته موسيقى أفلام مثل "معركة الجزائر" لجيلو بونتيكورفو، "سينما باراديزو" لجيوسيبّي تورناتوري، "1900" لبرناردو برتوللوتشي، “أيام الجنّة” لترنس ماليك، "عصابة الصقليين” لهنري فرنوي، "المحترف" لجورج لوتنير، وغيرها. هي ألحان تحمل كمّاً هائلاً من العاطفة والرقّة، تعرف كيف تستخرج من المُشاهد المشاعر المنسية. ألحان لعبت على الحنين الماضوي والميلانكولية والحزن. موسيقاه عصيّة على التصنيف، كان يسمّيها "أسولوتا" (مطلقة)، تجلّت على مستويات عدة، منها الإنفعالي والباطني.  

نال جوائز كثيرة، لكنه لم يفز بالـ"أوسكار" إلا بعد ستة ترشيحات في العام 2016، يومها كان في الثامنة والثمانين، وقد ربحها عن "الثمانية البغيضون" لكوانتن تارانتينو، علماً أنه كان قد نال "أوسكار" شرفية عن مجمل أعماله في العام 2007. لم يتعب موريكوني البتة، ظل يعمل حتى سنتين قبل رحيله، سواء كملحن لموسيقى الأفلام أو قائد أوركسترا يجوب عواصم العالم لامتاع جمهور واسع من محبّي الموسيقى. آخر جولاته التي أعلنها وداعية، اضطر إلى توقيفها بعد إصابته بوعكة صحيّة. 

طوال حياته، لم تتبدّل طقوسه اليومية: كان يستيقظ عند الفجر، يمارس القليل من الرياضة، ثم ينتقل من غرفة إلى غرفة في شقّته الفخمة، يقرأ الصحيفة، وفي تمام الساعة الثامنة يبدأ في العمل. لا يجلس أمام البيانو، بل يستخدم القلم والورقة، ولا يعتمد كلياً على الحدس. لم يؤمن بالإلهام، بل بالعمل المتواصل والعذابات. وبحسب تصريح له، لم يكن الوحي ينزل عليه بمجرد سماعه زقزقة عصفور. كرر مراراً ان الالهام "لا يفوق الواحد في المئة والباقي جهد وعرق".

 

المزيد من ثقافة