Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الموسيقي اليهودي المطارد في وارسو الجريحة يكتب حكايته في "موت المدينة"

المخرج البولندي الأصل يؤفلم الحكاية في "عازف البيانو" ويحقق فوزاً كبيراً

مشهد من فيلم بولانسكي المقتبس عن الكتاب (موقع الفيلم)

ذات عام حين قرأ، السينمائي البولندي الأصل رومان بولانسكي، بعد تردد طويل، الكتاب الذي وضعه عازف البيانو البولندي فلاديسلاف شبيلمان، عما حدث له خلال الحرب العالمية الثانية، أدرك فوراً أنه عثر على موضوع فيلم جديد كبير له، وهو بالفعل حول الكتاب فيلماً جعل عنوانه "عازف البيانو" سيكون من أقل مكافآته فوزه حينها بـ"السعفة الذهبية" لمهرجان "كان" السينمائي. فموضوع الكتاب، وعنوانه الأصلي "موت المدينة"، هو الحياة الغريبة التي عاشها شبيلمان متخفياً، وهو وسط الأخطار خلال سنوات الحرب العالمية الثانية المرعبة. لقد روى شبيلمان في الكتاب تجربته الخاصة، من دون أن يسعى إلى إلباسها أي طابع أيديولوجي، روى مجابهته للحرب ببراءته وهروبه من مكان في وارسو إلى آخر بعد أن رحل النازيون قومه، بمن فيهم أفراد عائلته إن لم ينكلوا بهم.

روى كيف أنه لم يكن لا بطلاً ولا شجاعاً، وروى خصوصاً كيف أنه شاهد أحداثاً كثيرة إما من فجوة في الجدار، وإما من نافذة غامضة من بناء خفي، وإما في مطبخ مستشفى دمّره القصف، ثم روى كيف أنقذه ضابط ألماني اكتشف وجوده، ولم يأبه لكونه يهودياً طالما أنه يعزف البيانو، وروى كيف قام أبناء دينه من اليهود المتعاونين مع الألمان بتسليم آلاف اليهود إلى النازيين يفتكون بهم.

لا دروس تُستخلص

روى شبيلمان هذا كله من دون تعليق، ومن دون أن يستخلص أي درس. وواضح أن هذا ما فتن السينمائي بولانسكي ودفعه إلى اختيار الكتاب موضوعاً لفيلم "عودته" إلى بولندا، وواضح أيضاً كم أن فيلماً من هذا النوع، وله هذا الخطاب، من شأنه أن يسبب إحراجاً لإسرائيل والمتعاطفين معها، ترى، أفلم يكن هذا أحد أسباب ذلك الصمت والتأفف حتى، اللذين أحيط بهما فوز الفيلم بالسعفة الذهبية؟ وأليس الأدهى من هذا أن يكون الفيلم حرص على أن يؤكد لنا، في النهاية، أن بطل الفيلم، الموسيقي شبيلمان، مات في بولندا، من دون أن يبارحها، في عام 2000 عن عمر يناهز الـ88؟ وليس في إسرائيل كما كان "يجدر به" أن يفعل؟

تبدأ الحكاية إذا بالموسيقي الشاب فلاديسلاف شبيلمان وهو يعزف في استديو الإذاعة البولندية، عام 1939، "ليلية من مقام أوت دياز صغير" لفريدريك شوبان، غير أن القصف الألماني إذ يبدأ معلناً، بصخب، بداية الحرب العالمية الثانية، يقطع عليه عزفه، ما يضطره والآخرين إلى الهروب نحو الملاجئ. بعد ذلك بست سنوات، حين ينهزم النازيون ويحرر السوفيات بولندا، يكون أول ما يفعله شبيلمان، في مجال العزف، أن يكمل عزف مقطوعة شوبان، من حيث كان توقف تماماً. طبعاً، هذا الأمر قد يكون من قبيل المغالاة، لكنه يتخذ كل دلالته في هذا السياق، ومن أولى الدلالات بولندية شبيلمان ورهافة ذوقه الموسيقي، ثم اعتباره الحرب وما جرى له فيها، أمراً عارضاً على خطورته ومآسيه، في سياق حياة كرسها كلها للموسيقى، وما جرى بين عزف القسم الأول من "ليلية" شوبان، وعزف القسم الأخير، هو ما يرويه لنا العازف في كتابه الذي كان صدر للمرة الأولى في عام 1946 على أثر انقضاء الحرب، ثم منعته السلطات الشيوعية لأسباب قد يصعب فهمها، ليعود ويصدر في عام 1998، بعد أن يعثر ابن الموسيقي على نسخة منه بين أوراق أبيه.

من الكتاب إلى الشاشة

وأحداث الكتاب هي، بالطبع، أحداث الفيلم، يرويها لنا بولانسكي، في شكل سينمائي يتسم بكلاسيكية تقترب من الملحمية، ولكن دائماً من وجهة نظر شبيلمان، فهذا الأخير لا يغيب عن الحكاية إلا لماماً، إنه حاضر في كل مشهد، وأحياناً في كل لقطة: يراقب بحيادية تغيظ أحياناً، وحين يتدخل، يتدخل على طريقة "مُكره أخاك لا بطل"، إن الأحداث تعبر به، تمسه، تدمره، تسحب منه أهله وعيشه الهادئ، تقتل أصدقاءه ورفاقه، تمنعه من الموسيقى، تحوله من إنسان إلى شبح، تسرق منه حبه وحيه، لكنها لا تسرق منه شيئين: إنسانيته وحبه للموسيقى، وهذه الأخيرة هي التي تنقذه في واحدة من لحظات الحكاية، حين يعثر عليه ضابط ألماني، متخفياً في قاعة، ينظر إليه ملياً ثم يسأله بهدوء وقد أدرك يهوديته من سماته، "ما هي مهنتك؟" فيجيبه، من دون خوف أو عداء، "أنا موسيقي"، ولما كان في المكان آلة بيانو، يطلب منه أن يعزف، وتحدث المعجزة، فالضابط حساس تجاه الموسيقى، والموسيقى تبعث لديه إنسانيته، فيعاون شبيلمان على البقاء ويحمل إليه بين الحين والآخر شيئاً ليأكله، بل يعطيه، قبل الانسحاب الألماني، معطفه العسكري يقيه من البرد، ما يعرضه بعد التحرير إلى خطر القتل على أيدي الجنود السوفيات الذين يعتقدونه ألمانياً.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

من الإنسان إلى الشبح

في تلك اللحظة كانت مغامرة شبيلمان جعلته أقرب إلى الشبح منه إلى الإنسان، وكان قد أمضى السنوات الأخيرة وحده عملياً، يهرب من مكان إلى آخر، همه البقاء، والبحث عن أكل ونوم، وهو في أثناء ذلك يراقب الأحداث، من دون أن تظهر ملامحه ما يشي بموقف ما، صحيح أنه قبل ذلك كان ساعد بشكل أو بآخر على اندلاع انتفاضة "غيتو" وارسو، ولكن من دون أي موقف سياسي مسبق، ولم يكن هذا جديداً عليه، إذ منذ البداية يبدو لنا واضحاً اندماجه في المجتمع واستغرابه، حتى حين يجد أن ثمة من الأماكن ما بات ممنوعاً على اليهود ارتياده على أثر الغزو الألماني، غير أن ذلك الاستغراب لا يمنعه من أن يواصل حياته وكأن شيئاً لم يكن: لا يغضب من شيء، لا يتمرد على شيء، وحتى حين تساق عائلته إلى المنفى (ومنه إلى القتل على الأرجح) يصعب تلمس موقف، غير الحزن، يبدو عليه، إنه باختصار، الإنسان البريء إزاء أحداث العالم وشروره.

السينما حين تجرؤ

واللافت أن بولانسكي، جرؤ هنا، ومن خلال كتاب شبيلمان وشخصيته، على ما لم يجرؤ عليه سينمائي من قبله: لم يحصر الشر في الألمان النازيين وحدهم، واضعاً الخير والطيبة في كفة اليهود، الضحايا بامتياز، فعند الألمان، وحتى النازيين منهم ولدى العسكر، أشرار ولكنَّ هناك طيبين، يمثلهم هنا طبعاً ذلك الضابط الذي ساعد شبيلمان، الضابط الذي حين أسره الجنود السوفيات، ووجد يهودياً مطلق السراح يشتمه، سأله عما إذا كان يعرف العازف، وحين رد عليه هذا بالإيجاب، سأله بكل بساطة أن يطلب منه مساعدته، وفي هذا الطلب وحده قدر من الإنسانية يقول الكثير، طبعاً يقول لنا شبيلمان، إنه حاول مساعدة ملاكه المنقذ، لكنه فقده، بينما يفيدنا الفيلم نفسه بأن الضابط مات بعد ذلك بسنوات وهو في الأسر السوفياتي. وهناك طبعاً يهود طيبون بين الضحايا، لكن هناك أيضاً يهود أشرار تعاونوا مع النازيين، وهو أمر ندر أن اعترفت إسرائيل به، وهؤلاء يصورون لنا هنا بكل هدوء ووضوح. وهناك، بعد ذلك، بولنديون طيبون وآخرون أشرار، والبولنديون هم الذين يساعدون شبيلمان حين يبدأ رحلة اختفائه وتشرده، لكن واحداً منهم لا يتورع، وهو مندوب المقاومة، عن جني ثروة إذ يجمع من أقرانه أموالاً يدعي أنه يريد بها أن يساعد الموسيقي المطارد، ولئن كان كتاب شبيلمان صور في قسمه الأول انتفاضة يهود "غيتو" وارسو على الوضع المُزري الذي عيشهم فيه النازيون، بعد أن جمعوهم في حي واحد، وراحوا ينكلون بهم، فإنه صور، وأيضاً في شكل نادر، ثورة البولنديين أنفسهم ومقاومتهم ضد النازيين.

من وجهة نظر الإنسان البسيط

لكن قوة الحكاية الأساسية، تكمن في أن الكاتب يصور هذا كله، ودائماً من وجهة نظر ذلك الإنسان البسيط الهادئ الذي كانه، إنه حاضر في كل الأحداث، متفرج على كل الأحداث، والأروع من هذا والأكثر فاعلية، هو أن شبيلمان شغل وحده، في تنقلاته والأخطار التي تحيق به، النصف الثاني من الفيلم، ملتحياً جائعاً يدور كالشبح من مكان إلى آخر، يبدو كالفاقد ذاكرته، يائساً من أي لقاء جديد مع أهله، غير عابئ إلا ببقائه، وعلى الرغم من أحادية الوجود الشخصي هنا، فإن الحرب تصور بأبشع ما تكون، بأقسى ما تكون، وعلى جميع المشاركين فيها، معتدين كانوا أو مظلومين، أبطالاً أو متعاونين، مهما يكن من الأمر، من الواضح أن فوز "عازف البيانو" المأخوذ عن هذا الكتاب الاستثنائي والمفعم بالإنسانية، بـ"السعفة الذهبية" في "كان" يومها، كان إشارة إلى المكانة المتزايدة التي باتت تحتلها سينما لا يفوتها أن تكون شعبية، حتى وهي تقدم موضوعاً شديد الخصوصية والدلالة، وفي هذا الإطار، يعتبر انتصاراً للسينما حين تريد أن تكون ذكية وإنسانية وتستند إلى نص لا يقل عنها ذكاءً وإنسانيةً.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة