Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

تحدي أوكرانيا لروسيا سيعيد تشكيل التاريخ الحديث إلى الأبد

دمار وبؤس وتراجع لكن النتيجة النهائية لم تتبلور حتى بعد شهرين من بدء الحرب

أحد السكان المحليين يقف فوق مدرعات روسية مدمرة في بوتشا (أ.ب)

جسّد شارع "فوكزالنايا" في مدينة "بوتشا" مشهد بؤس ومجزرة، إذ امتلأ بالهياكل المهجورة لدبابات روسية مزقتها المدفعية والصواريخ الأوكرانية، مع جثث محطمة ومحروقة لجنود محاصرين في المعدن الملتوي.

قدم شارع "فوكزالنايا" صورة مصغرة للدمار الذي شاهدناه على الطريق إلى البصرة وخارج بنغازي، حينما علقت قوات صدام حسين ومعمر القذافي في العراء وسحقتها طائرات غربية في حرب الخليج الأولى و"الربيع العربي" [على التوالي].

جاءت المشاهد في العراق وليبيا بمثابة تذكير قاتم بالقوى القاتلة لجيوش العالم الأول حين تطلق على دول أضعف قوة.

بيد أن العلامات الحية والعنيفة للخسائر الروسية في "بوتشا"، وكذلك في "إيربين" و"ماكاريف"، و"هوستوميل"، و"بروفاري"، و"تشيرنيهيف"، شكلت دليلاً على فشل قوة عظمى في فرض تغيير النظام على بلد أصغر حجماً منها.

لقد استعاد الأوكرانيون هذه المدن التي كان من المفترض أن نشاهد فيها هجوماً صاعقاً يستهدف "كييف"، إذ إن الخطة المفترضة لفلاديمير بوتين لـ"قطع رأس" أوكرانيا بدءاً بالاستيلاء السريع على العاصمة، أحدثت قدراً كبيراً من الضرر، لكنها فشلت.

مثل ذلك الفشل نهاية بداية هذه الحرب غير العادية والمدهشة. ولم تتبلور بعد النتيجة النهائية المعارك في إقليم "دونباس"، بيد أن ما يتكشف الآن في أوكرانيا يتسم بأهمية زلزالية، بوصفه فصلاً جديداً في تشكل التاريخ الحديث يوازي في أهميته سقوط جدار برلين وهجمات 11/9 وما أعقبهما.

لم تكن الجغرافيا السياسية هي ما تحدث عنه النقيب نيكولاي، الذي لم يرد نشر اسم عائلته، في "بوتشا" بينما كان يشاهد الجنود الروس القتلى، وبعضهم بالكاد تجاوز مرحلة المراهقة، يرصفهم رجاله على رقعة من الأرض تتناثر عليها ذخيرة مستهلكة وثقوب مملوءة بزيت متسرب يلتمع.

وفق كلماته، "لا أشعر بأي شفقة عليهم، لا شيء. ربما سأتمكن من ذلك يوماً ما، لكن ليس الآن. لقد رأيتم ما فعلوه هنا كالقتل والاغتصاب. سيظهر مزيد من هذه الأفعال، صدقوني. كان المفترض بهم أن يكونوا جنوداً، لكن تصرفوا مثل المتوحشين".

كان أحد الأعضاء السابقين في الجيش السوفياتي هو من أظهر بعض الأمثلة عن الوحشية في "بوتشا".

إذ بدا سيرغي سيمولينسكي مقتنعاً بأن السبب الوحيد وراء نجاته كان الوشم الذي يحمله. وبحسب كلماته، "اعتقلوني بضع مرات. ذات مرة جعلوني أقف لأكثر من ثلاث ساعات ويدي على الجدار. وفي نهاية المطاف صوبوا مسدساً إلى مؤخرة رأسي، واستطعت أن أسمع صوت طقطقة قفل الأمان ينفتح، وعرفت أنهم سيطلقون النار، ثم رأوا وشمي وأدركوا أنني كنت من مشاة البحرية [السوفياتية]، أنني خدمت في تلك القوة البحرية، وسمحوا لي بالذهاب".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

خدم السيد سيمولينسكي (50 عاماً) في القوات السوفياتية في أوائل التسعينيات وأرسل للقتال في حرب جورجيا. والآن، إنه لا يشعر إلا بالغضب ضد القوات الروسية في أوكرانيا.

وأضاف، "لقد فعلوا بعض الأشياء الرهيبة. رأيتهم يعتقلون الناس، ويربطونهم ويطلقون النار عليهم في الرأس. كم عدد القتلى؟ أقول نحو 600 أو 700. وتركوا الجثث في الشوارع. وذات يوم، رأيت كلباً يأكل رأس رجل. هناك كثير من الكلاب في الشارع لأن مالكيها غادروا أو فقدوا".

إن بعض الذين قتلهم الروس قيدت أيديهم خلف ظهورهم، وبعضهم كان مغطى الرأس مع ثقوب رصاص في مؤخرة الرؤوس.

وبحسب ديميترو زاموهيلني في شارع "فوكزالنايا" بالذات، "لقد تركوا لكي يتعفنوا بعد مقتلهم، كأنهم أكياس من القمامة. في ذلك الوقت حطت أسراب من الغربان على الجثث، استخرجت العيون وأكلتها. لم أفكر قط بأنني قد أرى أي شيء مثل هذا يحدث، يحدث بالفعل بالقرب من بيتي. كيف يمكن لأي شخص حتى أن يتخيل شيئاً بهذا السوء في مكان كهذا؟".

أخذني السيد سيمولينسكي إلى أكبر مقبرة في المدينة، خلف "كنيسة سانت أندرو وبييرفوزفانوهو لجميع القديسين"، حيث تتراوح تقديرات أعداد المدفونين بين 60 و320 تقريباً أو حتى أكثر من ذلك.

تتكدس أكوام من التربة البنية فوق حفرة طولها 45 قدماً (13.7 متر)، حيث صفت الجثث في أكياس بلاستيكية سوداء. وانفتح بعض الأكياس فبرزت أرجل وأذرع. وانبثقت أطراف من المدفونين، فبرزت من التربة. وثمة كف نصف مفتوحة كأنها تتضرع.

ولا تزال هناك جثث في البيوت. إحداها لآلا مينورافا البالغة من العمر 89 عاماً، تستلقي على سريرها، مع بقع من الدماء على ذراعيها. قتلت في 25 مارس (آذار) 2022. أخبر الجنود الروس الذين استولوا على بيتها للجيران إنهم أطلقوا عليها النار.

وكان أحفاد السيدة مينورافا من بين أفراد العائلة الذين اختبأوا في قبو تحت الأرض حينما نهب الروس المكان. "كان المختبئون في القبو، ولا سيما الأطفال، مذعورين. كان بوسعهم أن يسمعوا الروس يثملون، ويحطمون المكان فوقهم"، بحسب سيرغي ماليك، أحد أولئك الأقارب. "لكنهم على الأقل لم يقتلوا، على غرار ما حصل مع آلا المسكينة".

يعتقد كثر بأن ما سيحدث في "دونباس" سيكون أسوأ حتى مما حدث في "بوتشا" أو "ماريوبول" أو "خاركيف". ويخشى أن يكون القصف المروع لمحطة السكك الحديدية في "كراماتورسك" الذي أسفر عن مقتل 50 شخصاً من بينهم أطفال، مثلاً عما ينبغي توقعه.

يملك النزاع المرير في الشرق عنصراً شخصياً، إذ جاء عديد من المقاتلين في الجانبين المتعارضين من المجتمعات المحلية الناطقة بالروسية نفسها، قبل الحرب الانفصالية التي أدت إلى تقطيع أوصال البلاد عام 2014.

ولم يكن النقيب نيكولاي راغباً في نشر اسم عائلته لأن والديه لا يزالان يعيشان في "سلوفيانسك"، وهي واحدة من أوائل المدن التي شاركت في التمرد الانفصالي، وأصبحت الآن هدفاً رئيساً تريد القوات الروسية الاستيلاء عليه.

وبحسب نيكولاي، "لم يرغب أمي وأبي في الرحيل. إنهما في منزلنا منذ 34 سنة، وقالا إنهما سيقاتلان هناك إذا جاء الروس. إنهما مسنان، ولديهما كثير من الفخر، واعتادا نمط حياتهما. طبعاً، ثمة قلق عليهما كونهما في شرق أوكرانيا".

التقيت نيكولاي للمرة الأولى في إقليم "دونباس" [شرق أوكرانيا] عام 2014 حينما شارك في معركة السيطرة على مطار "دونيتسك"، ثم التقيته بعد سنة في "ديبالتسيف"، بينما كان مستلقياً على نقالة في ضمادات ملطخة بالدماء، إذ كان واحداً من الجنود الأوكرانيين الذين أصيبوا بجروح في حين قتل 270 آخرون في معركة فاز فيها الانفصاليون بدعم من المدفعية الروسية.

وكانت المرة الأخيرة التي التقيته فيها في "كراماتورسك"، قبل بضعة أسابيع من بداية هذه الحرب. لم يكن هو وآخرون في وحدته متأكدين مما إذا كانت الحرب ستحدث. وحينما أشرت إلى إحاطات إعلامية استخبارية أميركية وبريطانية متكررة مفادها بأن بوتين لم يكن يعتزم مهاجمة البلاد فحسب، بل غزوها أيضاً، كان السؤال حول ما إذا كان الغرب سيقف بجانب أوكرانيا عبر إرسال قوات وأسلحة.

بعد أن كنت في أفغانستان الصيف الماضي حينما سمحت خيانة الغرب بقيادة جو بايدن لـ"طالبان" بالاستيلاء على البلاد، مع التخلي عن الحلفاء الذين حق لهم الإجلاء، حذرت من الإفراط في التوقعات، إذ سترسل الأسلحة بالتأكيد، وربما بأعداد كبيرة، لكن لن يكون هناك أي جنود على الأرض.

وكان هناك أيضاً سكان من المدن الناطقة باللغة الروسية، وقد اتهموا الغرب [آنذاك] بمحاولة تنظيم حرب مع روسيا.

في "خاركيف"، على بعد 25 ميلاً من الحدود الروسية، حيث يشكل المتحدثون الروس 74 في المئة من السكان البالغ عددهم 1.4 مليون نسمة، أعلن كيريل سيمينوف، ابن المدينة الغاضب، إنه "من غير المتصور لي ولأصدقائي حمل سلاح والبدء بمحاربة الروس. لقد عشنا معاً حياتنا كلها، والآن هناك أناس يحاولون تحويلنا إلى أعداء وإطلاق حمام دم".

وإذ تحدث السيد سيمينوف في "ميدان الحرية" الشهير بالمدينة، وهو موقع قصفه الروس لاحقاً، توقفت امرأة التي كانت تسير ببطء في الثلج كي تعبر عن رأيها، "إنهم يحاولون خلق انطباع بأن خاركيف مدينة مناهضة لروسيا، نحن لسنا كذلك. إن الروس أشقاؤنا ولن يضروا بنا أبداً، بل ولن يهاجمونا أبداً،هذا كله مجرد دعاية من الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي. ينبغي لأوكرانيا أن تكون محظوظة لأن يكون لها زعيم مثل بوتين".

في العاصمة، كان العقيد شيربينا ميخايلو، نائب رئيس الأمن في بلدية كييف، وهو إحدى الشخصيات الرئيسة التي تخطط للدفاع عن المدينة، يستعد للسيناريو الأسوأ المتمثل في هجوم روسي عبر الحدود مع بيلاروسيا.

وشارك العقيد، وهو محارب متمرس عمره 37 سنة، في بعض من أكثر المعارك دموية في الحرب الانفصالية، بما في ذلك معركة "ديبالتسيف". وذكر العقيد أن الدفاع عن كييف سيعتمد كثيراً على المتطوعين من المواطنين، وأعرب عن أسفه لأن الحكومة لم تستجب لندائه الذي دعا فيه إلى إدماج هؤلاء في وقت مبكر للغاية في "قوة الدفاع الإقليمية" التي تشكل إطاراً واسعاً.

بحسب رأيه، "هل يحاول بوتين أن يأخذ كييف؟ علينا أن نرى. قد يبدو الأمر مجنوناً، لكن، هل يعرف أي شخص حالته العقلية؟ من المشجع للغاية أن هؤلاء الناس يتطوعون، لكن هذا التهديد تتعرض إليه أوكرانيا من روسيا منذ سنوات طويلة، وكان من الواجب وضع خريطة طريق مدتها ثماني سنوات".

ومنذ عدة أشهر، يتدرب السكان المتطوعون على القتال في عطل نهاية الأسبوع في حدائق وغابات في أنحاء البلاد كلها، وأثارت بنادقهم الخشبية والبلاستيكية بعض المرح في صفوف وسائل الإعلام الدولية.

لكن المتطوعين سيثبتون جدواهم، ليس في دعم الجيش فحسب، بل في القتال الذي دار حينما وصل الروس إلى كييف بعد شهر.

ويندرج أولكسي بيدا ضمن المشاركين في التدريبات داخل كييف الذين شاركوا في المقاومة ضد الروس.

كان الانفصاليون قد اختطفوه وعذبوه في "لوغانسك" بالشرق الأوكراني. وإذ كان عارياً ومربوطاً بكرسي بينما تعرض إلى الركل واللكم مراراً وتكراراً، قيل له إن محنته ستنتهي بمجرد كشف عنه عن "أسرار الخونة" الذين كانوا يشاركون في الاحتجاجات.

وفق ما روى ذلك المتخصص في التصميم الغرافيكي الذي يبلغ من العمر 47 سنة، فيما هو يفكر ملياً، "لقد حدث ذلك قبل ثماني سنوات. وما ظللت أفكر به هو أنهم كانوا يعرفون أنني لا أملك أسراراً. كنا نتظاهر كما كان الناس يتظاهرون في كييف والعديد من المدن الأخرى في مختلف أنحاء البلاد. عرفت ذلك، وعرفوا ذلك. أظن أنهم أحبوا فقط إلحاق الأذى بالأشخاص الذين يكرهونهم هم [الروس]".

وأصر السيد بيدا، "لم أسارع إلى الانضمام إلى صفوف أي مجموعة ثأراً لما حدث لي. حاولت أن أتبع مسار اللاعنف. فكرت في هذا لفترة طويلة ويبدو ألا علامة على تحسن الوضع. تريد روسيا مهاجمتنا. أي خيار لدينا؟ يتعين علينا أن ندافع عن أنفسنا".

برزت إشاعات متزايدة بأن الهجوم سيقع في 16 فبراير (شباط) 2022، وأعقب ذلك نزوح محدود من المدن الرئيسة، بما في ذلك كييف.

لكن يبدو أن طفرة من العمل الدبلوماسي، حيث نجح زعماء الغرب ومسؤولون غربيون في الوصول إلى موسكو، نجحت في تجنب النزاع مؤقتاً، فقد سعى الروس إلى استغلال ما أطلق عليه الكرملين "خطاب المخاوف الغربي" بإزالة بعض الوحدات العسكرية من الحدود.

وبعد ستة أيام، اختفت أوهام السلام، إذ اعترف بوتين باستقلال "الجمهوريتين الشعبيتين" في "دونيتسك" و"لوغانسك" بعد جلسة متلفزة غير عادية عقدها "مجلس الأمن الروسي". وبوضوح، لقد شكلت تلك الخطوة تمهيداً للحرب. بالتالي، بات النزوح من كييف في تلك المرحلة كبيراً، إذ كانت الطرق إلى الغرب من أوكرانيا ونحو الحدود البولندية مغلقة باستمرار، مع هروب الناس. وأغلقت المحال والمكاتب أبوابها. وتحولت العاصمة إلى مكان يفرغ ساعة تلو أخرى.

وغادر عدد كبير من الصحافيين الدوليين على عجل، وأعاد معظمهم الاستقرار في مدينة "لفيف" [في الغرب الأوكراني]. وأصبح الجو بين وسائل الإعلام الباقية أكثر هدوءاً، مع وجود صحافيين قرروا البقاء على أهبة الاستعداد لفترة طويلة. لقد غطى معظمنا نزاعات عدة، لكن علينا أن نذكر أنفسنا بأننا لم نحضر سابقاً حرباً بين دولتين أوروبيتين، إحداهما مسلحة نووياً.

كانت كييف تقصف كل يوم وكل ليلة. وتمكنت الدفاعات الجوية الأوكرانية من إسقاط عدد كبير من الصواريخ الآتية إليها، لكن صواريخ أخرى تمكنت من الوصول وضربت مباني سكنية ودمرت منازل وقتلت أشخاصاً وشوهت آخرين.

وحاولت فرق مغيرة روسية مراراً دخول المدينة. وصدت في اشتباكات في الضواحي. وزعم أن المتسللين، بمن فيهم فريق من الشيشانيين، كانوا في العاصمة لاغتيال الرئيس فولوديمير زيلينسكي وأعضاء في حكومته. ورأينا جثث بعض هؤلاء القتلة المأجورين المزعومين، مع آخرين، أثناء اعتقالهم. وكان من الصعب فهم ما يجري.

واستمرت الاشتباكات العنيفة خارج العاصمة مباشرة. وأصبحت تغطية تلك المعارك أمراً محفوفاً بالمخاطر على نحو متزايد، فقد قتل خمسة صحافيين في الشهر الأول من القتال. وكان من بينهم بيار زكرزوسكي وبرنت رينو، وكلاهما من معارفي، اللذان قتلا في "غورنكا" وإيربين. وكان فريق من "سكاي نيوز" يتألف من ستيوارت رامسي ودومينيك فان هيردين ومارتن فويلز وريتشي موكلر، وجميعهم من أصدقائي المقربين، ومنتجهم الأوكراني أندري ليتفينينكو، محظوظين إذ نجوا أحياءً، بعد تعرضهم لكمين في "بوتشا" تعرض فيه ستيوارت وريتشي إلى إطلاق للنار.

وفي سياق متصل، شكلت "إيربين"، الواقعة على بعد 12 ميلاً إلى الشمال الغربي من كييف، هدفاً للهجمات الروسية في شكل خاص، ذلك أن احتلالها كان ليترك القوة الغازية على بعد 30 دقيقة بالمركبات من قلب كييف.

لقد رافقت فريقاً من المتطوعين الذين ذهبوا إلى "إيربين" لتسليم الأغذية وإخراج السكان. وكان الإجلاء جارياً حينما اندلعت نيران المدفعية، صاخبة وقريبة، ما أدى إلى انتشار الذعر في حين بدأ الناس في الخروج من حافلة كان من المقرر أن تأخذهم إلى مكان آمن.

وتوسلهم الناشطون أن يعودوا إلى الحافلة، وقالوا لهم إنهم سيعلقون خلف خطوط العدو، إن فعلوا خلاف ذلك، لكن العائلات، إذ تنادت، في حين كان أطفال يبكون وكلاب أليفة تنبح، سارعت إلى كنيسة قريبة. وسرعان ما فاتها وقت الفرار.

وقتل اثنان ممن فشلوا في الفرار، وهما الأخوان يوري وفالنتين أوستابنكو، ووجدت جثتاهما بعد أن انسحب الروس.

لكن بعد ظهر ذلك اليوم، اعتقدوا أن من الأكثر أماناً ألا يخاطروا باللجوء إلى الطرق خارج مقاطعة "سلايفو".

وسارع الناشطون الذين خشوا الأسوأ إذا وقعوا في أيدي الروس، إلى المغادرة في سياراتهم، مخلفين الحافلة. وجلس السائق مذعوراً وهو يمسك بيديه عجلة القيادة. وفي غضون دقائق، تعرضت سيارتان محليتان أمامهم إلى نيران مدافع الهاون، ما دفعهما إلى الالتفاف وهما يحدثان صريراً. وعثر على ثلاثة أشخاص، أحدهم طفل، في حطام السيارتين المشتعلتين.

وخلال مغادرة مقاطعة "سلايفو"، مع اقتراب القصف الروسي، سلكنا المسار الخلفي نحو كييف في سيارتنا قبل أن يجبرنا انفجار أمامنا على التوقف، لقد تعرضت مركبة عسكرية إلى هجوم واشتعلت فيها النيران. وقال جنود أوكرانيون خرجوا من حولنا من خنادق بجانب الطريق، إنها ناقلة جنود مدرعة روسية من طراز "أم تي - أل بي" كانت تقود القوات.

وفي نهاية المطاف تركنا "إيربين" ونحن نمشي فوق أنقاض عبر نهر ضحل وتحت جسر نسفه الأوكرانيون لوقف التقدم الروسي، تاركين سيارتنا إلى جانب عشرات غيرها على الطريق السريعة.

وحصل تناوب على مواقع استراتيجية. وأوضحت زيارتان إلى "ماكاريف" وتيرة التدمير. لقد اندرجت تلك المدينة ضمن أوائل المدن التي حررها الأوكرانيون بعد أن استولى عليها الروس، في ضربة كبرى لخططهم الرامية إلى الاستيلاء على "كييف" التي تبعد 32 ميلاً.

وعند نقطة التفتيش، قال الجندي، "مرحباً بكم في الجحيم"، مشيراً إلى مشهد الدمار. كنا هناك في وقت سابق حينما تعرضت المدينة والمناطق المحيطة بها إلى قصف عشوائي. وقد اختفى معظم ما تبقى من وسط المدينة.

كان لا يزال ثمة وجود عسكري روسي في الريف حول "ماكاريف". وعبرت قنابل صاروخية موجهة إلى موقع أوكراني، أطلقت من حقل من العشب الطويل، عبر الطريق بينما كنا ننتقل من قرية "ياسناغورودكا" إلى "ماكاريف".

كان كل مبنى تقريباً مصاباً بأضرار وقتل نحو 200 شخص. وفي ما بعد، عثر على نحو 135 شخصاً قتلوا رمياً بالرصاص، في ما بدا أنها عمليات إعدام.

وكذلك زعم مسؤولون محليون أن محاولات متعمدة جرت للقضاء عليهم. كان إيفان يوسيوفيتش، رئيس المناطق الـ16 في المجلس الريفي لـ"ماكاريف"، يعقد اجتماعاً مسائياً للجنة الطوارئ حين انطلقت موجة من الصواريخ. وألقى الانفجار به من فوق كرسيه إلى الجهة المقابلة من الغرفة. وتلطخ بيت الدرج خارج مكتبه ببقع دم من جروحه.

وبحسب وصفه، "كانت الضوضاء عالية للغاية وانفجرت النوافذ، وانتشر الدخان والغبار في كل مكان. كان بوسعي أن أشعر بالدماء على وجهي، وكنت أعرف أنني جرحت، لكنني لم أعرف مدى سوء جروحي. كنت محظوظاً جداً، إذ بقيت على قيد الحياة، فقد مات آخرون. لقد حاولوا قتل الناس وتدمير مؤسسات مجتمعنا".

كانت كنيسة "سانت مايكل" الأرثوذكسية الروسية من بين الأماكن التي نالت قدراً كبيراً من الضرر في ضربة صاروخية.

ووجدت الأب رومان الذي التقيته بعد الهجوم مباشرة، يزيل من حديقة كنيسته الحطام الناتج عن القصف العشوائي الذي وقع ذلك اليوم. لقد بقي في بيته الصغير، يعيش هناك من دون كهرباء أو ماء، على الرغم من نداءات متكررة من عائلته بالمغادرة إلى مكان أكثر أماناً. صرح بأنه لا يريد التخلي عن أفراد رعيته القلائل الذين بقوا، وأغلبيتهم من المسنين الذين يعتمدون عليه.

وكذلك أوضح الأب رومان الذي كان يخطط لخدمة عيد الفصح أن أموراً مريعة حدثت، لكن الوقت حان للتطلع إلى الأمام. "آمل أن يبدأ الناس الذين غادروا في العودة إلى منازلهم بعد أن استعيدت "ماكاريف". ولا شك في أن عيد الفصح هو وقت الولادة الجديدة، وسيكون وقتاً مناسباً لإعادة مجتمعنا المحلي إلى الحياة من جديد". لقد شكل ذلك كل ما أراد التأكيد عليه.

في ذلك الوقت، احتفل أهالي "تشيرنيهيف" أيضاً بانسحاب القوات الروسية. كانت البلدة، التي تبعد 45 ميلاً عن الحدود مع بيلاروس، موقعاً استراتيجياً رئيساً كان الكرملين في حاجة شديدة إلى الاستيلاء عليه من أجل تأمين خطوط إمداداته وشن هجوم شامل على كييف، التي تبعد 91 ميلاً إلى الجنوب.

وصمدت "تشيرنيهيف" وسط الحصار والقصف، وعادت إلى الأيدي الأوكرانية، لكنها دفعت ثمناً باهظاً لمقاومتها. يقدر أن نحو 550 مدنياً قتلوا، ويعتقد أن مئات آخرين دفنوا تحت الأنقاض.

لقد دمر 70 في المئة من المدينة، بتراثها التاريخي والديني العظيم، بعد أيام وليالٍ من القصف. وفرّ أكثر من نصف سكانها الـ290 ألفاً مع استمرار الهجمات بلا هوادة. وقطعت الكهرباء والمياه، وتضاءل المخزون الغذائي.

والواقع أن عدداً من الإصابات والوفيات نجمت عن استخدام أسلحة جوية غير موجهة من ذلك النوع الذي تسبب في دمار مماثل في أحد النزاعات الأخرى التي خاضها الكرملين، أي الحرب في سوريا. ومن بين أكثر الأمثلة فتكاً في "تشيرنيهيف"، تلك المذبحة التي راح ضحيتها 47 شخصاً تجمعوا في الميدان المركزي بالمدينة في 3 مارس، حين أسقطت ثماني "قنابل غبية".

في وقت سابق، استولى الروس على قرية "نوفوسيليفكا" الواقعة خارج "تشيرنيهيف" مباشرة، ولم يتركوا سوى قليل من مبانيها واقفاً.

ففي حي واحد، راحت امرأة تبكي بهدوء مع إخراج جثة والدها من تراب حديقته. وعلى بعد بيتين، استعجل أحد الجيران عائلتها كي تغادر البيت بعد العثور على قنبلة غير منفجرة في غرفة للنوم. وعلى بعد 20 ياردة (18.3 متر)، حدق شاب في كومة من الحطام، كانت منزل لعائلته، متسائلاً كيف نجا، بينما أصيبت أمه بإصابات خطيرة.

فقد قتل والد أوكسانا برين، بيترو كاسينوك (63 عاماً) في منزله أثناء غارة جوية. وتوالت الهجمات التي وقعت في ذلك الوقت بلا هوادة، ما جعل من المستحيل نقل جثمانه إلى المقبرة التي تقع على بعد ربع ميل. وبدلاً من ذلك، دفن على عجل في الحديقة.

وحضر مسؤولون من مجلس المدينة البلدي إلى البيت الذي دمر نصفه لنقل السيد كاسينوك بغية إعادة دفنه. وكان من المقرر أن يدفن في الجزء المدني من مقبرة القرية، فقد سير الروس دبابات فوق القسم العسكري، ما جعله يبدو كحقل مملوء بنعوش وشواهد محطمة.

وأوردت السيدة برين متذكرة والدها وباكية، "كان رجلاً مسناً عنيداً. إنه رجل جميل، لكنه رجل عنيد. لقد توسلت إليه مراراً أن يذهب إلى مكان أكثر أماناً، لكنه رفض الرحيل فحسب. طلبت منه أن ينتقل إلى بيتي حتى أتمكن على الأقل من مراقبته. كان بيتي هناك، لكنه لم يوافق على ذلك".

وأضافت وقد تحول التنهدات إلى قهقهات، "لكن بيتي تعرض إلى القصف في النهاية. كان عليّ أن أختبئ في الطابق السفلي مع ابنتي البالغة من العمر ست سنوات، بينما احترق منزلنا فوقنا. لم أستطع سوى أن أتخيل أبي يشتم لو أنه استسلم وانتقل إلى منزلي، ثم حصل القصف".

في ذلك الصدد، تتمثل رسالة الناس والمسؤولين في "تشيرنيهيف" بأن البلدة ستتعافى وتعيد بناء نفسها. ويبدو من غير المرجح أن يحاول الروس الغزو من الشمال مرة أخرى بعد طردهم.

في المقابل، لا يملك سكان "خاركيف" التي تبعد 150 ميلاً عن إقليم "دونباس"، أملاً كهذا في الوقت الحالي، فقد حاول الروس اقتحام المدينة الثانية في أوكرانيا وفشلوا، لكن القصف استمر، ومع تحرك تركيز الكرملين باتجاه الشرق، تجدد القتال في الجوار.

ومع بدء القصف الروسي لكييف في الانحسار، عدت إلى "خاركيف" لكي أجد المدينة تحت القصف المكثف. أخبرني النقيب ألكسندر أوسادتشي، من "الكتيبة القوزاقية" التطوعية الرقم 226، بالخسائر المتزايدة بين المدنيين، لكنه توقف عن الكلام مؤقتاً. أضاف بهدوء أنه علم بوفاة والدته قبل 24 ساعة فقط.

أما أخوه أندريه، الجندي السابق الذي بقي قبل ذلك في المنزل ليهتم بماريا البالغة من العمر 85 عاماً، فقد انضم إلى الجيش في "سلوفيانسك" في اليوم التالي لدفنها. وبحسب النقيب أوسادتشي، "نعلم جميعاً أن هذه الحرب لم تنتهِ بعد. يتعين علينا أن نستمر في الدفاع عن بلادنا ومجتمعنا المحلي، وأن نثأر لهؤلاء الذين قتلوا. لقد بدأت الهجمات على "دونباس" ويحاول الروس الاستيلاء على "إيزيوم" غير البعيدة من هنا، في محاولة لعزلها. أعتقد أننا نعرف أن الوضع سيكون سيئاً جداً في "دونباس". انظر إلى ما حصل في القرى المحيطة بنا هنا".

برزت قصص عن عمليات قتل واغتصاب من القرى المحيطة بـ"خاركيف". لقد اغتصب جندي روسي ثمل أماً شابة في "مالاراهان"، في إحدى قصص الاعتداء الجنسي. ودفن أشخاص قتلوا رمياً بالرصاص في مقابر ضحلة. وحصل انتقام أيضاً، فجثث الروس القتلى ملقاة في الطرق الخلفية للقرية والحقول خارجها.

في سياق متصل، لم يحمل كيريل سيمينوف الذي أخبرني قبل الحرب أن "من غير المتصور" له ولأصدقائه محاربة الروس، سلاحاً، لكنه انتسب إلى قوة من المتطوعين تنقل الأغذية والإمدادات إلى الجنود الأوكرانيين وتساعد في رفع الأضرار التي تسببت بها الهجمات الروسية.

واقفاً أمام مبنى منسوف كان ذات يوم ملحقاً جامعياً، أورد أن "العالم انقلب رأساً على عقب بالنسبة إلينا في الأشهر القليلة الماضية، لقد تغير كل شيء. لقد قصف بوتين الأشخاص الناطقين باللغة الروسية هنا وقتلهم، أولئك الذين قال إنه سينقذهم. إنه يفعل الشيء نفسه في دونباس. لقد جعلنا ذلك ندرك أننا في أوكرانيا قد تكون لدينا اختلافات بيننا، لكن يتعين علينا أن نقف معاً ضد أولئك الذين يغزوننا".

 

نشر في "اندبندنت" بتاريخ 24 أبريل 2022

© The Independent

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير