Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الكندي فيلسوف العرب الأول كما أجمع الأقدمون والمحدثون

علوم الفلسفة بنظره ثلاثة: الرياضيات والطبيعيات وعلم الربوبية وهو أعلاها

الكندي فيلسوف العرب الأول (فلاسفة مسلمون)

يجمع مؤرخو الفلسفة العربية على أن الكندي هو فيلسوف العرب الأول، ويستندون في إجماعهم إلى منهجيته الفلسفية وصياغته المصطلح الفلسفي وتحدره من قبيلة كندة العربية، فيرى مصطفى عبدالرازق في كتابه "فيلسوف العرب والمعلم الثاني"، على سبيل المثال، أن "الكندي هو بلا ريب أول مسلم عربي اشتغل بالفلسفة التي كانت إلى عهده وقفاً على غير المسلم العربي" (ص 30). على أن هذا الإجماع سيخرج عليه مؤرخون آخرون يرون أن الفارابي أحق بالريادة من الكندي، مستندين إلى قلة الآثار التي وصلتنا عنه على كثرة مصنفاته، غير أن العثور على عدد كبير من الرسائل المنسوبة إليه في مرحلة لاحقة سيعيد معظم هؤلاء المؤرخين إلى دائرة الإجماع لتبقى قلة منهم تغرد خارجها.

ابن الكوفة

هو يعقوب بن إسحق الكندي وكنيته أبو يوسف ولقبه "فيلسوف العرب"، تضاربت الآراء في تاريخ ولادته ووفاته ومحليهما، غير أن الدكتور أنطوان سيف في كتابه "الكندي / مكانته عند مؤرخي الفلسفة العربية"، يرجح أن تكون ولادته في الكوفة بين عامي 180 و185هـ / 796 و801، ووفاته في بغداد بين عامي 252 و260هـ / 866 و873 م. وقد ولد لأب شغل ولاية الكوفة في عهدي المهدي والرشيد، وأم لا نعرف عنها كثيراً ما خلا حرصها على تعليم ولدها وتأمين حياة كريمة له.

وفي هذا السياق يرجح مصطفى عبدالرازق أن يكون الكندي "ولد في عواقب عمر أبيه، وأن أباه تركه طفلاً، فنشأ في الكوفة في أعقاب تراث من السؤدد والغنى، وفي حضن اليتم وظل الجاه الزائل"، وأن أمه كانت "تريد بالضرورة لولدها أن يعيش كأبيه ميسراً وجيهاً، فدبرت له ماله ونشأته مقتصداً مرهفاً غنيا، ثم ساقته في سبيل العلم لما آنست من ذكائه المتوقد وشوقه إلى التهام المعارف، حتى إذا فاتته فخامة الحكم لم تفته جلالة العلم والحكمة" (ص 14). ومن الجلي أن مثل هذه الأم على ندرة الأخبار المتعلقة بها تصدر عن وعي مبكر بأهمية العلم والحكمة، الأمر الذي ترك أثره في مسار ابنها ومصيره.

علوم الدين والأدب

من هنا دفعت به أمه منذ نعومة أظفاره إلى درس علوم الدين واللغة والأدب، وحين يبلغ الرشد يتصل بعلم الكلام ثم يقتحم غمار الفلسفة والعلوم المنقولة عن اليونان وفارس والهند، حتى إذا لم يشف النقل غليله يقوم بتعلم اليونانية والسريانية ليطلب هذه العلوم في مظانها الأصلية، ولعل نشأته في بيئة فكرية ناشطة تزدهر فيها الترجمة وتعلي من قيمة العقل هي ما جعلته يقبل على العلوم الجديدة بشغف وينهل منها حتى الثمالة، وينقل عبدالرازق عن ابن أبي أصيبعة أن الكندي أحد أربعة يحذقون الترجمة في الإسلام، وعن ابن النديم أنه "فاضل دهره وواحد عصره في معرفة العلوم القديمة بأسرها"، وعن جمال الدين القفطي أنه "المشتهر في الملة الإسلامية بالتبحر في فنون الحكمة اليونانية والفارسية والهندية" (ص 28).

ريادة علمية

على أن إدراك أهمية الكندي لم يكن وقفاً على القدماء من المؤرخين والدارسين بل يتعداهم إلى المعاصرين، لذلك يحدد أستاذ الفلسفة والحضارات في الجامعة اللبنانية الدكتور محمد شيا مكامن هذه الأهمية في كتابه "حضارة العصر العباسي/ منارة في ليل العصور الوسطى" بريادته الفلسفية ووفرة محصوله الفكري وتأسيسه الفلسفة المشائية وتعريفه بمدارس فلسفية يونانية ووعيه لاحصرية المشروع الفلسفي ومنهجيته الصارمة وانفتاحه على كل ما هو حق، وفي هذا المكمن الأخير ينقل عنه قوله "وينبغي لنا أن لا نستحيي من استحسان الحق واقتفاء الحق من أين أتى، وإن أتى من الأمم القاصية، وليس ينبغي بخس الحق ولا تصغير قائله ولا الآتي به، لا أحد بخس بالحق، بل كل يشرفه الحق". (ص 157، 158، 159).

ولا يمكن فصل مكامن أهمية الكندي عن صفات شخصيته ونوع الحياة التي عاشها والبيئة التي نشأ فيها، أما صفاته فينسب إليه الأب يوحنا قمير في كتابه "الكندي دراسة ـ مختارات" اتصافه بالبخل ومعاشرة الخلفاء والترفع عن العامة وحب السكينة والابتعاد من الغم والتفرغ لشؤون العقل والحرص على إفهام المتعلم وهداية الجاهل (ص7)، وهو في هذا الوصف يتقاطع مع مصطفى عبدالرازق الذي يصفه بالجدية والعكوف على الحكمة والهدوء والأخذ بأسباب الاقتصاد والنظام وسياسة النفس ومجاهدة شهواتها (ص 26)، وأما حياته التي عاشها الكندي "بحكم ما فيها من عزلة وانقطاع عن مجامع الأدباء والعلماء واتصال بالمترجمين والفلاسفة" من غير العرب والمسلمين، فقد أتاحت له الانخراط في التأليف والترجمة لكنها جعلته ثقيلاً على من لم يذهب مذهبه في الحياة، وأما البيئة العقلية الناشطة التي نشأ فيها فمن نافل القول أنها أتاحت له أن يبلغ ما بلغه من الأهمية.

مؤلفات فريدة

ولا يضارع تنوع العلوم التي أقبل عليها الكندي في طفولته وصباه ورشده سوى التنوع في الحقول المعرفية التي ألف فيها ووضع الرسائل القصيرة وترجم بعض مصنفاتها، وفي هذا السياق يشير بعض المؤرخين إلى أن مؤلفاته أربت على 200 كتاب، يذكر قمير 14 كتاباً مطبوعاً منها، ويشير إلى أن الكندي "ألف في الموسيقى والهندسة والحساب والفلك والطب والتنجيم، كما ألف في المنطق والنفس والإلهيات والسياسة" (ص 11). وينقل عبدالرازق عن ابن النديم تصنيفه مؤلفات الكندي في 17 نوعاً تتراوح بين الفلسفة والمنطق والحساب والموسيقى والتنجيم والفلك والهندسة والطب والجدل والنفس والسياسة وغيرها (ص 29). ونذكر من مؤلفاته في الحقول المختلفة على سبيل المثال لا الحصر "الفلسفة الأولى فيما دون الطبيعيات والتوحيد" في الفلسفة، "رسالة في المدخل المنطقي باستيفاء القول فيه" في المنطق، "رسالة في علة النوم والرؤيا وما ترمز به النفس" في علم النفس، "رسالة في المدخل إلى صناعة الموسيقى" في الموسيقى، "رسالة في علل الأوضاع النجومية" في الفلك، "رسالة في تاليف الأعداد" في الحساب، "رسالة في الكريات" في الهندسة، "رسالة في الطب البقراطي" في الطب، "رسالة في المد والجزر" في الفيزياء، "رسالة في كيمياء العطر" في الكيمياء، و"رسالة في أنواع الجواهر الثمينة" في التصنيف. وهكذا نكون إزاء عالم موسوعي متنوع الاهتمامات غزير الإنتاج، وهي سمة لازمت كثيرين من فلاسفة العصر العباسي.

اصول فلسفته

وعلى تنوع هذا النتاج وضخامته تبقى الفلسفة الميدان الأثير الذي ارتبط اسم الكندي به ومنحه موقع الريادة في تاريخ الفلسفة العربية، وفي هذا السياق يتفق كل من قمير وعبدالرازق على أنه استقى من قدماء اليونان، من إقليدس وبطليموس وبقراط إلى سقراط وأفلاطون وأرسطو. وينقل عنه الأخير تقسيمه علوم الفلسفة إلى ثلاثة، "أولها العلم الرياضي في التعليم وهو أوسطها في الطبع، والثاني علم الطبيعيات وهو أسفلها في الطبع، والثالث علم الربوبية وهو أعلاها في الطبع" (ص 35).

على أن الأسئلة الفلسفية التي طرحها الكندي هي الأسئلة نفسها التي طرحها العصر الذي عاش فيه، وفي هذا السياق يوجز الأب قمير آراءه في ثلاثة من هذه الأسئلة، هي الله والنفس والأخلاق.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وفي معرض طرحه السؤال الأول المتعلق بالله يقر الكندي بوجود الله، ويضرب البراهين على ذلك الوجود بحاجة العالم الحادث إلى محدث، وحاجته إلى مدبر حكيم، ويصفه بالأزلية والوحدانية والبساطة وصفات أخرى.

 وفي معرض طرحه السؤال الثاني المتعلق بالنفس يسير في خطى القدماء مثل أفلاطون وأرسطو، ويشير إلى قواها الثلاث الغضبية والشهوية والنطقية، وهي بسيطة وروحية ومقتبسة من الله، وهي منه بمنزلة الضوء من الشمس، ويحدد قوى الإدراك بالحواس الخمس والمخيلة والعقل والرؤيا والنبوة، ويبين آلية عمل كل من هذه القوى، أما مصير النفس فهي خالدة بنظره تدرك سعادتها بالعلم، وهو ما يتحقق بمفارقة البدن، وفي حال فارقته وهي غير طاهرة يكون عليها أن تتدرج في الأفلاك حتى تبلغ طهارتها، وبهذا المعنى يصبح موت البدن شرطاً لحياة النفس. (ص 29).

وفي معرض طرحه السؤال الثالث المتعلق بالأخلاق يدعو الكندي إلى التمسك بأربعة فضائل أصلية، وهي الحكمة والنجدة والعفة والعدل ويعرف كلاً منها، وهذه الفضائل الأصلية تتفرع منها أخرى فرعية، وهو يحدد الفضيلة بالوسط بين رذيلتين، فالنجدة وسط بين التهور والجبن، على سبيل المثال.

وبهذه الأسئلة وغيرها حقق الكندي ريادته الفلسفية وتبوأ المكانة التي يستحق في تاريخ الفلسفة العربية، مما يجعل العودة له في هذا الشهر الفضيل محفوفة بكثير من الفائدة والمتعة.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة