ملخص
تحول الفضاء الرقمي في ظل الحرب السودانية إلى ميدان مواز لساحات القتال، تتقاطع فيه السرديات وتعاد صياغة الوقائع لحظة بلحظة. وتظهر متابعة البنية الدعائية الرقمية لطرفي النزاع أمراً لافتاً يتكرر في مختلف المنصات، إذ إن الغالبية العظمى من الحسابات الوهمية أو شبه الوهمية المستخدمة في حملات الدعاية والضغط الرقمي تحمل هويات نسائية.
تحول الفضاء الرقمي في ظل الحرب السودانية إلى ميدان مواز لساحات القتال، تتقاطع فيه السرديات وتعاد صياغة الوقائع لحظة بلحظة. فالغياب الكامل للصحف المطبوعة، والانحسار الشديد في دور الإعلام الرسمي، والتضارب المتزايد في المعلومات حول ما يجري على الأرض، كلها عوامل دفعت السودانيين داخل البلاد وخارجها إلى الارتحال نحو الإنترنت بوصفه المصدر الوحيد المتاح للتعرف على مسار الحرب ومعرفة ما قد يعني لهم النجاة أو الهلاك. وهكذا باتت الشبكات الاجتماعية منصة مركزية للبحث عن الحقيقة، وفي الوقت ذاته ساحة تتقاطع فيها الدعاية والإشاعات والجهود المنظمة لحرف الانتباه أو توجيهه.
منذ الساعات الأولى لاندلاع المواجهات في الـ15 من أبريل (نيسان) 2023، لم يكن الفضاء الرقمي مجرد أداة لنقل الأخبار، بل تحول إلى غرفة عمليات مكتملة الأركان، تضخ عبرها روايات متنافسة تصوغ فهم الجمهور لبدايات الحرب. بدأت الموجة الأولى من السرديات بالسؤال الأكثر حساسية، من أطلق الرصاصة الأولى؟ وبينما قدمت القوات المسلحة روايتها عبر منصاتها الرسمية، نسجت قوات "الدعم السريع" سردية مضادة، واندفع كل طرف لتثبيت نسخته كحقيقة نهائية عبر بث البيانات والفيديوهات والمقاطع المصورة. في تلك اللحظات المشحونة، أصبح تدفق المعلومات جزءاً من معادلة البقاء، وغيابها أو تلاعب بها سبباً آخر للفوضى والخوف.
ومع امتداد القتال من الخرطوم إلى ود مدني والجنينة والفاشر، تضاعفت كثافة المحتوى الرقمي، إذ ظهرت سرديات متعارضة حول كل واقعة تقريباً، تعاد صياغتها بحسب موقع كل طرف في النزاع، لتشكل طبقات متراكمة من الحقائق الجزئية والادعاءات المتبادلة. ومع مرور الوقت، لم تعد هذه الجهود مقتصرة على أطراف الحرب المباشرين، فقد تشكلت شبكات ضغط ودعاية رقمية، بعضها محلي وبعضها خارجي، تضم جهات رسمية وغير رسمية، وتعمل بدعم معلن أو بتمويل خفي. وتحول الإنترنت إلى ميدان تتقاطع فيه مصالح متشابكة، تتجاوز حدود الانتماء العسكري لتشمل جماعات سياسية وأذرعاً إعلامية، ومؤثرين مستقلين، ومراكز نفوذ تبحث عن تثبيت سرديتها في فوضى المشهد. في هذا الخليط المعقد، لم يعد الفضاء الرقمي مجرد مرآة للحرب، بل أصبح أحد ميادينها الأكثر تأثيراً، تخاض فيه المعارك بالرموز والمقاطع والرسائل، تماماً كما تخاض بالسلاح في الميدان.
ذراع موازية
وجد الجيش السوداني نفسه منذ اندلاع الحرب، مضطراً إلى تحويل منصات التواصل الاجتماعي إلى ذراع موازية لمؤسساته الإعلامية التقليدية. ويعتمد الجيش، ومعه الحكومة القائمة في بورتسودان، على مزيج متداخل من الأدوات والخطاب الرقمي لإدارة السرد السياسي وتثبيت شرعيته في زمن تتآكل فيه المؤسسات وتتعقد فيه بيئة الاتصال. هذا المزيج يشمل البيانات المقتضبة الصادرة عن الجهات الرسمية، وإطلالات الوزراء والقيادات عبر المنصات الرقمية، إلى جانب شبكة واسعة من الصفحات والحسابات المؤيدة على "فيسبوك" و"تيليغرام" و"إكس"، متفاوتة المهنية والقدرة والتأثير.
هذا التنوع لا يعمل فقط على تبرير استمرار القتال أو تعزيز خطاب "حماية السيادة"، بل يشكل منظومة ضغط رقمية تحاول إعادة تشكيل الرأي العام واستقطاب الدعم الداخلي والخارجي عبر سرديات متماسكة ظاهرياً ومشحونة عاطفياً. وغالباً ما تتضمن هذه الرسائل نبرة تخوين تجاه جهات محلية أو دولية، بما يتناسب مع تطورات الحرب وسياقاتها السياسية. لكن السؤال الأبرز يبقى، هل تعمل المنظومة الإعلامية الرسمية بمنهجية مؤسسية، أم أنها تتحرك وفق ضرورات ظرفية فرضتها الحرب؟
أبرز ماورد في لقاء السيد رئيس مجلس السيادة القائد العام للقوات المسلحة الفريق أول ركن عبدالفتاح البرهان مع قناتي "العربية" و "الحدث" :
— القوات المسلحة السودانية (@SudaneseAF) December 5, 2025
▪︎ الأخوان المسلمون لا يحكمون السودان ولا وجود لهم في الجيش أو الدولة هذه إشاعة من جهات محددة لأغراض محددة .
▪︎ الشعب السوداني قام بثورة… pic.twitter.com/O7XjZ3bFvn
تشير متابعة التفاعل اليومي إلى أن المؤسسية، وإن كانت حاضرة في بعض بيانات الجيش ومؤتمراته المحمولة رقمياً، ليست السمة الغالبة. ففي ظل تقييد الحركة، وتشتت المؤسسات، واتساع الفجوة بين المركز ومناطق القتال، تعتمد الحكومة والجيش على أسلوب أكثر لامركزية، يسمح للصفحات المؤيدة بلعب دور مكمل أو بديل عند الحاجة. وهذه الصفحات لا تمثل كتلة واحدة، فبينها قنوات محسوبة بوضوح على دوائر رسمية، وأخرى يديرها أفراد ومجموعات ذات ارتباطات سياسية أو أيديولوجية، بينما تتخفى فئة ثالثة خلف حسابات يعتقد أنها وهمية، تستخدم أسماء غير حقيقية، وتتبنى خطاباً صدامياً يتجاوز التعبئة المحلية إلى التدخل في ملفات العلاقات الدبلوماسية، بما يشمل التحريض على دول أو مؤسسات دولية.
هذا المشهد المتشابك يعكس تعدد الفاعلين وتباين دوافعهم، فبعض المنصات تتحرك بدافع الولاء الوطني المعلن، بينما تنخرط أخرى في توظيف الحرب لتعزيز نفوذ سياسي أو اقتصادي أو أيديولوجي. وهكذا باتت حملات الدعاية والضغط الرقمية جزءاً من بنية الصراع، تدار أحياناً بوعي مؤسسي، وأحياناً أخرى بفوضى تعكس طبيعة الحرب نفسها.
تعزيز الصورة
أما الحملات الرقمية المرتبطة بقوات "الدعم السريع"، فأصبحت أحد أكثر مكونات الحرب السودانية تعقيداً وإثارة للجدل، نظراً إلى امتدادها خارج حدود الميدان العسكري إلى فضاء واسع متعدد اللغات والجمهور والأدوات. فالقوة التي تعتمد على التموضع السريع وعلى السيطرة الميدانية كعنصر رئيس في خطابها، أدركت مبكراً أن معركة السرد لا تقل أهمية عن المعركة على الأرض، وأن تعزيز "الصورة" جزء لا يتجزأ من ضمان النفوذ السياسي والعسكري، لذلك أنشأت شبكات دعائية رقمية تعمل على الدفع بروايتها، وتقديم صورة تظهر تماسكها وقدرتها على الصمود، مع توظيف المكاسب الميدانية، أو الادعاءات في شأنها، لرفع الروح المعنوية لمؤيديها وإرباك خصومها.
تشير تحليلات إعلامية حديثة إلى وجود نشاط منسق واسع النطاق، يعتمد على "غرف" ولجان إلكترونية وحسابات مصطنعة، ووفق تحقيق لإحدى القنوات العربية، شارك نحو 22 ألف حساب في حملة متزامنة للترويج لرواية قوات "الدعم السريع" عند سقوط مدينة الفاشر، مما يعكس حجم التحشيد الرقمي وقدرته على تشكيل الانطباعات في لحظات محورية. هذه الحسابات، التي يشتبه بأن كثيراً منها وهمي أو منشأ حديثاً، استخدمت صوراً مأخوذة من الإنترنت أو مولدة عبر الذكاء الاصطناعي، بهدف إضفاء صبغة إنسانية أو درامية على المحتوى، وبناء ارتباط عاطفي مع الجمهور.
ولا يقتصر استهداف هذه الحملات على الداخل السوداني، إذ تمتد إلى الجالية السودانية بالخارج والمهاجرين وكتل النزوح الواسعة، التي تشكل بيئة خصبة لتلقي الرسائل في ظل ضعف القنوات الإعلامية التقليدية. وتوثق منصات متابعة لهذا النشاط وجود شبكات حسابات مزيفة تعمل عبر منصات "إكس" و"فيسبوك" و"تيك توك"، تبث من خلالها دعاية مؤيدة لـ"الدعم السريع"، وتصل تأثيراتها إلى شرق أفريقيا عبر محتوى متعدد اللغات يستهدف عشرات الملايين.
ويتجاوز هذا النشاط المستوى الشعبي أو البدائي إلى نمط أكثر احترافية، إذ تشير تقارير إلى استعانة قوات "الدعم السريع" بشركات علاقات عامة واتصال خارجية لبناء سردية إعلامية وتلميع صورتها. وتعمل هذه الجهات على إنتاج رسائل سياسية موجهة، وصياغة حملات ناعمة تستهدف دوائر القرار والدبلوماسية الدولية، مما يمنح نشاط "الدعم السريع" الرقمي بعداً أكثر تركيباً واتساعاً. في هذا السياق، لا تبدو الحملات الرقمية مجرد امتداد دعائي للنزاع، بل جزءاً من هندسة استراتيجية تستثمر في الفراغ الإعلامي وتنافس بقوة على تشكيل خريطة الوعي داخل السودان وخارجه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
آليات متشابكة
يعتمد طرفا النزاع في إدارة الوسائل والمنصات التابعة لهما على آليات متشابكة تصمم لبناء سرديات مقنعة، وتوجيه الرأي العام داخل السودان وخارجه، عبر تكتيكات، ضمن بيئة شديدة السيولة وغياب شبه كامل للرقابة الإعلامية المستقلة. وتعتمد الآلة الدعائية للطرفين على نمط واسع من الحسابات الوهمية، جحافل من حسابات قليلة المتابعين تنشأ في فترات زمنية متقاربة، وتتحرك بتنسيق دقيق لنشر الرسائل نفسها في توقيت واحد، مما يخلق انطباعاً بوجود موجة رأي عام طبيعية. ويجري دعم هذه الحسابات بصور مسروقة أو مولدة عبر الذكاء الاصطناعي، لزيادة الإقناع البصري وجذب الانتباه. ولا تستهدف هذه الحملات السودانيين داخل البلاد فقط، بل تمتد إلى أبناء الشتات، والجاليات في الخليج وأوروبا وأميركا، إضافة إلى فضاءات تواصل أفريقية وعربية، إذ يشكل الجمهور الخارجي عاملاً مهماً في معركة الشرعية والضغط الدولي.
ويظهر توظيف مزدوج للذراع الإعلامية، فمن جهة، يستخدم الجيش و"الدعم السريع" بيانات رسمية، ومقاطع مصورة يومية تبرز إنجازات عسكرية أو تبريرات سياسية. ومن جهة أخرى، تعمل شبكات غير رسمية على تضخيم الرسائل، ونشر روايات عن انتهاكات الطرف الآخر، وصياغة محتوى عاطفي أو تعبوي يخدم أهدافاً استراتيجية. وتتهم كل جهة بالاستفادة من موارد اقتصادية غير شفافة لتمويل هذا النشاط، سواء عبر شبكات الذهب التي ترتبط بها قوات "الدعم السريع"، أو عبر قنوات رسمية وشركات خاصة يعتقد أنها تدعم الجيش.
ويعود السبب في صعوبة تحديد الجهة المشغلة لهذه الحملات بدقة إلى عوامل عدة، فالحسابات الوهمية غالباً ما تدار من أماكن متعددة، بهويات افتراضية مموهة، وبنشاط مكثف يتزامن مع لحظات حساسة عسكرياً. كما يعقد انهيار الإعلام التقليدي، واستهداف الصحافة، والانقطاعات المستمرة للإنترنت قدرة الباحثين على إجراء تحقيقات مستقلة أو تتبع تدفق المعلومات، وهكذا يغيب الفاعل المباشر وراء طبقات من الغموض.
في المحصلة، لا توجد جهة واحدة تشرف على جماعات الضغط الرقمية، بل يتداخل الرسمي مع غير الرسمي، والمحلي مع الخارجي، فيما تعمل مجموعات حسابية متناسقة على منصات عدة بهوية بصرية وخطابية تشير إلى الجهة المستفيدة، من دون أن تكشف بالضرورة عن الجهة المشغلة وراء الستار.
Footage shows the moment a Sudanese Armed Forces (SAF) drone struck a gathering of Rapid Support Forces (RSF) in Katila town, Sudan’s South Darfur , as they celebrated their capture of the Heglig oil fields. pic.twitter.com/IvMkdUlmhn
— Rich Tedd (@AfriMEOSINT) December 9, 2025
هوية نسوية
تظهر متابعة البنية الدعائية الرقمية لطرفي النزاع ملاحظة لافتة تتكرر في مختلف المنصات، إذ إن الغالبية العظمى من الحسابات الوهمية أو شبه الوهمية المستخدمة في حملات الدعاية والضغط الرقمي تحمل هويات نسائية. هذا النمط ليس عفوياً، بل يعكس توجهاً مدروساً يستند إلى خبرات طويلة في تقنيات "الحرب المعرفية" وعمليات التأثير عبر الإنترنت، إذ تعد الهوية النسائية من أكثر الهويات قدرة على استقطاب المتابعين وبناء الثقة وكسر الحواجز النفسية.
جزء من هذه الحسابات يستخدم شخصيات نسائية معروفة أو مغمورة، فليس هناك فرق ما دام يظهرن بمحتوى موجه إلى غرض معين حتى وإن بدا عادياً، مما يعزز فرضية تصنيع هوية بصرية معدة مسبقاً لأغراض التضليل والتلاعب. هذا الأسلوب يهدف إلى خلق انطباعاً بالموثوقية والود، وجذب أكبر عدد من المتابعين، خصوصاً في بيئات محتقنة سياسياً يطغى فيها خطاب الكراهية والاصطفاف الحاد.
ثمة دوافع تفسر هذا الاستخدام المكثف للهويات النسائية، أولاً التأثير العاطفي المرتفع، إذ تظهر الدراسات في علم الاتصال أن الحسابات ذات الهوية النسائية تحقق معدلات تفاعل أعلى، وأن المستخدمين يكونون أكثر ميلاً للتجاوب معها، مما يجعلها قنوات فعالة لبث الرسائل السياسية الموجهة.
ثانياً، سهولة تحييد النقد، فالحسابات النسائية تتعرض عادة لقدر أقل من التدقيق أو الهجوم عند نشر محتوى سياسي أو دعائي، مما يسمح لها بتجاوز الحواجز الاجتماعية والنفسية التي تواجه الحسابات الذكورية.
ثالثاً، بناء "طبقة موثوقية مزيفة، فعندما تنتشر عشرات الحسابات النسائية بصور متقاربة ونبرة هادئة أو "إنسانية"، يبدو المحتوى وكأنه يعكس رأياً شعبياً طبيعياً لا نشاطاً منسقاً، وهو تكتيك يستخدم في حملات التأثير حول العالم.
رابعاً، استهداف الجاليات والشتات، حيث مجتمعات النزوح والهجرة تلعب المرأة دوراً محورياً في شبكات المجتمع الافتراضي، مما يجعل الحسابات النسائية أدوات فعالة لتمرير رسائل سياسية إلى جماعات يصعب الوصول إليها بالطرق التقليدية.
إضافة إلى ذلك، تسمح الهوية النسائية المصنعة بالتحرك عبر منصات متعددة من دون إثارة الشبهات، إذ يمكن للحسابات أن تنشر محتوى يخلط بين اليومي والمعيشي والإنساني والسياسي، مما يعقد عملية التتبع ويطمس الجهة المشغلة.
ومن هنا يبرز الاستخدام المكثف للهويات النسائية ليس كتفضيل ثانوي، بل جزء من هندسة متعمدة لتشكيل بيئة تأثير رقمية يصعب تحليلها أو تفكيكها، ويستفيد منها الطرفان في حرب لم تعد تخاض بالسلاح فقط، بل أيضاً بالصور والهوية والانطباعات المصنوعة.