حين كنا نحذر، من خطر ما يُسمّى بالمجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة على النسيج الاجتماعي لشرق السودان، منذ أكثر من عامين، لاسيما أن شرق السودان إقليم يغلب الطابع القبلي على سكانه، ربما حَسِب كثيرون أن كاتب هذه السطور سجّل موقفه ذاك على خلفية متحيزة، لكن ما كتبناه في نقد نظم الإدراك القبائلية الخطيرة لهذا المجلس كان أكثر من واضح لكل منصف.
ولحسن الحظ، اليوم هناك حتى من أبناء "البداويت" من أدرك خطورة ما يمثله هذا المجلس من تهديد للسلم الأهلي في شرق السودان، خصوصاً بعدما بات واضحاً أن إغلاق الموانئ والمنافذ في شرق السودان في سبتمبر (أيلول) الماضي، ولأكثر من شهر (وهو نشاط تولى كبره قادة هذا المجلس) كانت له علاقة عضوية بأسباب انقلاب البرهان – حميدتي على المرحلة الانتقالية في 25 أكتوبر (تشرين الأول) 2021.
ويمكننا القول إن الكلام العنصري الذي ظل ينال من بعض مكونات شرق السودان خلال الأعوام الثلاثة الماضية على خلفية نشاط هذا المجلس، هو الذي تنعكس اليوم آثاره الضارة، في بعض مجريات أحداث الفتنة والاقتتال الأهلي الذي جرى في مدن عدة بشرق السودان.
وغني عن القول إن هذا المجلس يمثل امتداداً للطريقة التي صممها نظام البشير عبر تسييس الإدارة الأهلية، لكن خطورته اليوم تتمثل في أنه ليس هناك كونترول على أفعاله (إذ كان نظام البشير يحرك نشاط القبائل ويضبط حراكها في الوقت ذاته) وإن كانت علاقته بقوى الثورة المضادة لا تحتاج إلى دليل.
ومن المؤسف أن الوضع اليوم في شرق السودان تحرّكه مخططات ينشط فيها كل من البرهان وحميدتي في استقطاب القبائل لتمثّل حاضنة لهما، على الرغم من أن هذا الطريق طريق خاسر ولا يفضي إلا إلى الدمار، إذ جرّب نظام البشير ذلك من قبل ولم ينفعه.
لقد كان أكثر من واضح أن تلك الطريقة العقيمة في ممارسة السياسة عبر القبائلية في رؤية المجلس الأعلى لنظارات البجا هي خطر حقيقي على شرق السودان، مهما سوّق له قادة المجلس بكلام عن الحقوق التاريخية للسكان وحواكير القبائل، والكلام عن ترسيم الحدود بين القبائل فيه.
وإذ يبدو الوضع السياسي الآن في السودان على هذا النحو من الغموض والقابلية للانفجار في أي وقت بسبب الانقلاب المشؤوم للبرهان وحميدتي على السلطة الانتقالية في 25 أكتوبر الماضي، فإن تجدد نشاط هذا المجلس في مثل هذه الأجواء يُعتبر بالنسبة إليه مناخاً مؤاتياً، فيما قوى الثورة السودانية اليوم تتهيّأ لترتيب مليونيات هادرة في ذكرى السادس من أبريل (نيسان) الذي سيكون يوماً مزلزلاً على الانقلابيين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لهذا، من الأهمية بمكان اليوم التذكير بخطورة ما تمثله أفكار هذا المجلس عبر السرديات المضللة التي يسوّق لها أمينه السياسي بفذلكات متهافتة، أخطر ما تنطوي عليه تلك الفذلكات المضللة، هو قدرتها على تفجير النزعة العنصرية وتأجيج خطاب الكراهية بين نفوس العوام والبسطاء من أبناء قبائل البجا في شرق السودان، وكل ذلك من أجل مكاسب سياسيوية رخيصة.
لقد كان التسميم الذي ضرب النسيج الاجتماعي لشرق السودان، وبين أوساط القبائل تحديداً، يعكس حقيقة خطيرة مفادها بأنه ما دام التعبير عن السياسة يتم عبر منظور القبائلية، فإن مستقبل هذا الشرق سيكون باستمرار عرضة للخطر وصولاً إلى لحظة الانفجار. إن الأعوام الثلاثين لنظام الإخوان المسلمين بتسميمها للمجال العام حين أدخلت فيه تسييس القبائل هي التي تعبّر من خلالها اليوم تلك الأجسام القبائلية الخطيرة كالمجلس الأعلى لنظارات البجا عن الفعل السياسوي المعطوب، وهو فعل معطوب لأنه يحمل وعياً قبائلياً بطبيعته ضد التاريخ ولا يمكن أن تفضي مقولاته العقيمة إلى أي سويّة سياسية لاستقرار الأوضاع في شرق السودان، بل ستكون معبراً ملكياً للخراب.
إن أكبر سند اليوم لمثل تلك الأفكار المعطوبة التي تعبّر عنها السرديات المضللة للمجلس الأعلى لنظارات البجا هو المناخ المسمم الذي أسس له نظام الإنقاذ لثلاثة عقود، تبدّلت فيها الأوضاع وأصبح ترييف الأفكار والتعبيرات الكاشفة عن الفقر وانعدام الخيال السياسي هي الأفكار التي أصبحت مرغوبة بهذا المناخ المسموم.
وهذا في تقديرنا إنذار خطير لمستقبل مظلم ما لم تنتفض القوى الثورية في شرق السودان لقطع الطريق على مثل تلك الأفكار الخربة من بقايا نظام عمر البشير، وهو، للأسف، النظام الذي يستأنف انقلابيو العسكر اليوم تجريب أدواته الخاسرة مرة أخرى في المركز.
إن المطالبة بترسيم حدود القبائل والحواكير شرق السودان، هي خطة مسمومة من طرف قادة المجلس الأعلى لنظارات البجا، الهدف منها إثارة النعرات بين القبائل على حدود مترامية الأطراف ولا طائل من ورائها، ولعل الاقتتال الذي شهده الأسبوع الماضي في منطقة ريفَي كسلا بين بعض قبائلها، هو نتيجة للتأثر بتلك الأفكار التي ظل يعبّر عنها المجلس الأعلى لنظارات البجا.
ذلك أن الحدود الحقيقية هي الحدود السيادية للسودان على خريطته الجيوسياسية فقط. ثم لماذا ترسيم الحدود بين القبائل أصلاً؟ هل هناك صراع بين قبائل شرق السودان على حدودها القبلية؟ أو أن الصراع في حقيقته صراع سياسوي، لكن يتم تأطيره بلبوس القبائلية لأن المنظور الذي تنظر به كيانات مثل المجلس الأعلى لنظارات البجا هو منظور قبائلي خطير.
المفارقة التي تعكسها السرديات المضللة لبعض قادة المجلس الأعلى لنظارات البجا حول ما يُسمّى بالحقوق التاريخية للجماعات الأصلية، توحي بمنطق سلبي بائس كما لو أنها جماعات مهددة بالانقراض (مثل الهنود الحمر في أميركا وجماعات الأبورجنيز في أستراليا)، فيما الحقيقة الواقعة هي: أن شرق السودان، خصوصاً في مدنه الخمس الكبرى (بورتسودان – كسلا – القضارف – حلفا - القربة ومدن أخرى أصغر)، يعجّ بمختلف السودانيين من أنحاء البلاد كافة بمن فيهم مكون "البداويت "؟! والأمر الذي يدعو إلى الاستغراب هو أن قادة المجلس يمارسون سردياتهم المضللة فقط على البسطاء للأسف، وإلا فإن الحقوق التي ينص عليها الدستور السوداني تقضي بأن يحكم سكان المدن أنفسهم من كافة مكوناتهم القاطنة في تلك المدن، بشروط الكفاءة والأهلية فقط، لأنه إذا حكمنا بالمنطق الأعوج للمجلس الأعلى للبجا الذي يقوم على منطق: أن السكان الأصليين هم فقط من يحكمون المدن في شرق السودان حصرياً، كيف بالله يمكننا أن نفسّر حكم رؤساء وكبار مسؤولي الحكومات السودانية المتعاقبة (الذين كانوا يحكمون السودان بعد الاستقلال من مدينة الخرطوم، فيما غالبيتهم الساحقة لم يكونوا من سكان الخرطوم الأصليين) إذا ما طالب سكان مدينة الخرطوم الأصليون، مثلاً، بأن يكونوا هم حكام الخرطوم حصرياً؟ (بحسب منطق المجلس الأعلى لنظارات البجا!).
بالتأكيد هذا المنطق الذي تقوم عليه مقولات وسرديات بعض قادة المجلس الأعلى كان يمكن أن يكون سليماً قبل مئات السنين (أي في القرون الوسطى) وقبل تكوُّن الدولة السودانية الحديثة بحدودها المعروفة. ومن هنا تحديداً، يمكننا أن نتصوّر خطورة عقليات تحمل مثلاً هذا التفكير العنصري والفهم الأعوج للحقوق على النسيج الاجتماعي في شرق السودان.
ولممارسة مزيد من التضليل، يتولّى أحد قادة هذا المجلس (أمينه السياسي) التسويق لنظرية عنصرية متهافتة تقوم على أن هناك لاجئين تجنسوا بجنسيات سودانية خلال حكم نظام البشير (المفارقة أن هذا الشخص كان أحد منسوبي المؤتمر الوطني أي حزب البشير ذاته) وأن هؤلاء اللاجئين هم الذين سيحكمون الشرق عبر مسار شرق السودان، إذا تم تنفيذ بنود اتفاقية جوبا 2020 لسلام السودان، ولهذا لكي تتّسق نظريته المتهافتة هذه، سيحتاج إلى أمرين: الأول، إخراج قادة مسار شرق السودان من مكون البجا (وهم بجا بطبيعة الحال)، والثاني، نفي سودانية قادة المسار وترديد القول إنهم أجانب، وهذا ما يفعله باستمرار عبر الكذب والتلفيق.
لهذا يلهج هذا الشخص ليل نهار بأن قادة مسار الشرق لن يحكموا شرق السودان إلا على جثث السكان الأصليين وإفنائهم على بكرة أبيهم!؟
وهنا بالضبط تكمن خطورة هذا الفهم الأخرق المتأتي من ممارسة السياسة بمنظور القبائلية على النسيج الاجتماعي لشرق السودان من حيث كونه فهماً يؤسس للفتنة ويسوّق للبسطاء ما يوهمهم بأنهم يقاتلون أجانب!
ووفقاً لهذا المنطق الأعوج: أين إذاً هو دستور السودان الذي يحدد من هم سكان السودان وقبائله، وأين هو قانون الجنسية الذي يُعرّف من هو السوداني؟
وأين أصلاً حقوق المواطنة؟ صحيح أن هناك لاجئين في شرق السودان، وهؤلاء تنظم وجودهم حكومة السودان بحسب قوانينها المتسقة مع القوانين الدولية لحقوق اللاجئين، وأي ملف يتصل بهذا الأمر مكانه المحكمة وليس الدعاية السياسية الرخيصة التي تؤجج الفتن وتسبب في مقتل الأبرياء من القبائل كافة في شرق السودان.
ولهذا، نجد هذا الشخص (الأمين السياسي لما يُسمّى بالمجلس الأعلى لنظارات البجا) يؤجج لفتنة الاقتتال الأهلي عبر صفحته في "فيسبوك" حين قال عن الاقتتال الذي حدث الأسبوع الماضي بين بعض قبائل ريفَي كسلا: "إذا تماطلت البجا عن التدخل بأي شكل من الأشكال في ما يحدث لأهلنا السبدرات (وهي قبيلة تاريخياً كانت جزءاً من قبيلة بني عامر) في مناطق البجا بريفَي كسلا، فقد تنازلت البجا عن أرضها لهاسا إريتريا" (وهو بالطبع يقصد باسم "هاسا" قبيلة بني عامر السودانية).
بل حتى في البيان الذي نشره المجلس الأعلى لنظارات البجا على صفحته في "فيسبوك" (وهو بالطبع بيان كتبه الشخص ذاته، الأمين السياسي للمجلس) حول الاقتتال الذي حدث بين بعض القبائل في ريفَي كسلا الأسبوع الماضي، جاء البيان تعبيراً عن هواجس هذا الشخص ليصبّ الزيت على النار، متحدثاً عن نقاط لا علاقة لها بموضوع النزاع أصلاً، كنزع السلاح من حركات المعارضة الإريترية (إذ لا توجد أصلاً حركات معارضة إريترية مسلحة في مدينة أو ريفَي كسلا).
لا يخفى اليوم أن شرق السودان لا يزال هشاً وله قابلية كبيرة لأن تنحرف قبائله نحو الاقتتال الأهلي بسبب مثل هذا الخطاب الذي يسوّق له بعض قادة المجلس الأعلى لنظارات البجا.
ولكن في الوقت ذاته، هناك كثيرين من أبناء البجا اليوم عرفوا حقيقة هذا المجلس وكشفوا عن خطورة ما يحمله بعض قادته من أفكار عنصرية ستعصف بشرق السودان – لا سمح الله – إذا لم تقطع قوى الثورة السودانية في الشرق الطريق عليها وتحشرها في أضيق زاوية.