في حين لا يدرك كثيرون طبيعة خراب الواقع السياسي السوداني المأزوم اليوم – هنا والآن - نتيجةً للتدمير العام الذي سمّم به نظام "الإخوان المسلمين" حياة السودانيين لثلاثين سنة على نحو عميق، نرى بعض القوى السياسية تحلم وتتبنى أوهاماً عدمية ليست من الواقع السياسي، ولا من العقلانية السياسية في شيء، والأخطر من ذلك أنها تبني على أوهامها تلك سيناريوهات خيالية لا يمكن أن تزيد ذلك الواقع المأزوم إلا تعقيداً.
لا يحتاج الواقع السياسي السوداني اليوم إلى خطابات عاطفية لا يمكنها أن تصمد أمام استحقاق صلب، يتمثل في كيفية المعالجة الأمثل لتركة خراب عام وعميق خلّفها نظام "الإخوان المسلمين" خلال ثلاثين سنة، فيما تدل كل السيناريوهات اليوم على نية لاستعادة ذلك النظام من قبل المكون العسكري بانقلابه في 25 أكتوبر (تشرين الأول). عودة النظام القديم وتماهي المكون العسكري معه لن تكون هذه المرة كجزء من استعادة الماضي – الذي لن يعود – ولكنها عودة اضطرارية لطرفين يدرك كل واحد منهما حاجته الملحة إلى الآخر، العسكر يدركون تماماً عجزهم عن إدارة البلاد سياسياً، وهم في حاجة إلى من يتولى عنهم تلك المهمة، أما عناصر النظام القديم فهم أيضاً يدركون أنه غير مرحب بتيارهم السياسي، لا في السودان ولا في الإقليم، لكنهم أيضاً يدركون أكثر من أي وقت مضى أن أي انتصار للثورة مستقبلاً بعد انقلاب 25 أكتوبر الماضي، سيكون كارثةً ووبالاً عليهم وعلى العسكر، لذا فهم لن يخسروا شيئاً حيال صفقة كهذه مع العسكر، حتى ولو ضحوا بشعاراتهم الإسلاموية (الحقيقة أن الطبقة السياسية الحاكمة لحزب المؤتمر الوطني كانت منذ عام 1999 بعد انفصال الترابي عن البشير تحولت لمطلق سلطة عارية فاسدة)، ذلك أن التجريف الذي جرف به نظام "الإخوان المسلمين" المؤسسات الوطنية السودانية بما فيها مؤسسة الجيش، كان تجريفاً خطيراً كما نرى وضع الجيش اليوم، لكن الأكيد هو أنه مهما ظن الطرفان (العسكر والإخوان) في قدرتهما على حكم البلاد، فإن هذا الظن الآثم لن يوفر لهما مناخاً كمناخ الثلاثين عاماً إثر انقلابهم في عام 1989. فالشعب السوداني اليوم في عزمه وإصراره الأسطوريين على القطع من حكم العسكر وحكم الإسلام السياسي، لن تثنيه أي قوة على الأرض عن ذلك.
في ظل وضع كهذا، تتنازع قوى الثورة السودانية اليوم سرديات وخطابات وشعارات لبعض الأحزاب السياسية، إن دلت على شيء فإنما تدل على "سذاجة خطيرة" في موقف لا يتحمل تلك السذاجة السياسية المكلفة.
هناك من الأحزاب السودانية من يظن في دعوة بعثة الأمم المتحدة للأطراف السودانية للحوار دعوةً للتدويل، ويراهن على افتراضات وهمية للسودانيين، كما لو أن السودان طيلة الثلاثين عاماً كان دولة ذات سيادة، غير مدركين أن نظام الإسلام السياسي هو أسوأ نظام يمكن أن يتخيله المرء في التخريب والاستعداد للتضحية بكل المبادئ الوطنية التي لا يمكن التفريط فيها، كوحدة البلاد وأمنها، ورأينا كيف تسبب نظام "الإخوان المسلمين" في انقسام السودان وانفصال الجنوب، وإشعال حروب أهلية في دارفور والشرق وجبال النوبة والنيل الأزرق.
والأخطر من ذلك، أن تلك الأحزاب الأيديولوجية لا تدرك (بل وعامة الأحزاب السياسية السودانية اليوم) أنها كانت ضحية لتجريف نظام البشير لقواعد الحياة الحزبية، وتدمير أصول العمل السياسي لمجالها العام كأحزاب، وأن ذلك التخريب الكبير للحياة العامة في السودان قد شمل تلك الأحزاب في صميمها أيضاً، إذ سعى نظام البشير لتفكيك الكثير من الأحزاب السودانية وتقسيمها واستمالتها معه إلى السلطة عبر الترهيب والترغيب. ونجح في بعض مساعيه إلى حد كبير، كما استبدل نظام البشير قواعد اللعبة السياسية الحزبية بإحياء نظام الإدارة الأهلية لتحل محل الأحزاب عبر تسييس القبائل. وكانت تلك السياسة من نظام البشير بتسييس القبائل أخطر مخطط لتفجير السلم الأهلي بين السودانيين، كما رأينا ذلك في الأوضاع التي استثمرتها الثورة المضادة بعد سقوط البشير خلال السنتين الماضيتين في شرق السودان وغربه، وكما نرى اليوم محاولات البرهان وحميدتي للاستعانة برجال القبائل والطرق الصوفية بحثاً عن حاضنة مستحيلة.
المفارقة اليوم أنه ثمّة لقاء غير مقدس في شعارات بعض أحزاب أقصى اليمين وأقصى اليسار بجامع أيديولوجيا عدمية، تضعهما في مكان واحد من اتجاهين مختلفين! فسردية رفض تدخل الأمم المتحدة والمجتمع الدولي اليوم تجمع بين موقف الحزب الشيوعي السوداني، والمؤتمر الوطني المنحل الذي توسّل المكون العسكري الحاكم بأنصاره في الأيام الماضية للقيام بتظاهرات ضد تدخل الأمم المتحدة في شؤون السودان؟
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
للأسف اليوم، في حين يدرك العالم أجمع في ظل ثورة المعلوماتية والاتصال وإكراهات نظام العولمة، أن هناك حدوداً ضيقة لخيارات الاصطفاف الدولي بين قطبين ظاهرين للجميع، الولايات المتحدة والغرب من ناحية، وروسيا والصين من ناحية ثانية، سنجد أن أي قوى سياسية سودانية تسوق لشعارات المواجهة العدمية ضد الأمم المتحدة والولايات المتحدة في ظل هذه الظروف المأساوية للسودان، بناءً على توهم سودان معافى عبر حجج خطابية لا برهانية، إنما هي في الحقيقة "قوى تمارس دجلاً أيديولوجياً واستهبالاً سياسياً"، بحسب المفكر السوداني الحاج وراق، ولا تدرك أبداً خطورة ما تخوض فيه من بيع للأوهام السياسوية الفاسدة.
أمام واقع سوداني معقد كهذا، بين مكون عسكري متحالف مع بقايا نظام البشير في مهمة مصيرية تكاد تكون اليوم أشبه بمهمة انتحارية، وبين أحزاب عقائدية مؤدلجة تزايد على الأوهام عبر هجائها للولايات المتحدة وفق عقيدة قديمة ومتأصلة في هجاء الغرب ورثتها من زمن أيديولوجي رثّ، وبين قوى ثورية شابّة للجان مقاومة تدرك تماماً ما لا تريده، لكن ربما يتنازعها استقطاب تأثير ما من طرف بعض تلك الأحزاب الأيديولوجية، أمام واقع خطير كهذا، سيتعين على المفكرين السياسيين وعلى الكتلة الحية من "قوى الحرية والتغيير" الاضطلاع بمهمة توحيد قوى الثورة عبر نقاشات مستفيضة مع لجان المقاومة، وطرح حقيقة الواقع الحرج للمصير الوطني بلا مواربة، في إطار حوار شفاف لا تنقصه الحقيقة، والمواجهة عن ماهية الخطر المزعوم للمجتمع الدولي وحيثيته وإمكاناته (المجتمع الدولي وعلى رأسه الولايات المتحدة هو وحده من يملك الإمكانات الضاربة والقادرة على الضغط على الانقلابيين)، وطبيعة العلاقة المفترضة لقوى الثورة الحية مع ذلك المجتمع، الذي هو اليوم في انتظار إعلان كتلة واحدة تجمع بين "قوى الحرية والتغيير" ولجان المقاومة في جبهة وكيان ثوري واحد وبقيادة واحدة، من أجل إنقاذ السودان من سرديات سلطويين حالمين بالعودة إلى دولة "الفونج" (مملكة سودانية إسلامية كانت في العصور الوسطى) كحميدتي والبرهان، وبين حزبيين هجائين يمارسون ألعاباً أيديولوجية خطرة في فضاء سياسوي مأزوم، من دون أدنى تقدير للمصائر الكارثية التي ستترتب على ذلك في حال استجابة الشعب لشعاراتهم المزيفة!
على كل لجان المقاومة أن تدرك تماماً أن فزاعة التخويف من المجتمع الدولي والولايات المتحدة، الآن وهنا (في ظل الظروف المأساوية التي يعيشها السودان) في خطاب الأحزاب الأيديولوجية، يميناً ويساراً، ستعني في حال تصديقهم لها، طريقاً ملكياً للخراب باتجاهين: إما باتجاه الدخول في المجهول والفوضى وطريق اللاعودة إلى أي أمل مستقبلي للسودان، وإما باتجاه استدعاء العسكر لتحالف مع روسيا والصين، وهما في الانتظار على أحرّ من الجمر لتلبية ذلك التحالف.
اليوم، يرى العالم ويسمع خطورة المخاوف الجيوسياسية من غزو الروس لأوكرانيا (التي ظلت لأكثر من 75 عاماً تحت احتلال الاتحاد السوفياتي)، ومع ذلك تصرّ أوكرانيا إصراراً عظيماً للانضمام إلى حلف الناتو، كما انضم إليه كثير من جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق، لأن أوكرانيا تدرك تماماً المصير المشرق لتحالفها مع الغرب، عوضاً عن المصير المظلم الذي عانته أكثر من سبعين عاماً تحت احتلال روسيا!
لا بد في هذه اللحظة المصيرية للسودان من جهود حوارية كبيرة يديرها قادة الفكر السياسي عبر ندوات مفتوحة (كتلك الندوات التي يسهم فيها المفكر السوداني الحاج وراق بجهد تنويري رصين)، وذلك من أجل تحييد الكتلة التاريخية للجان المقاومة، وإعادة اصطفافها مع قوى العقلانية السياسية لتحالف "الحرية والتغيير"، ومصارحة تلك اللجان بخطورة الوضع الذي يتجه إليه السودان في حال تم الإصغاء إلى أيديولوجيات أحزاب اليمين واليسار المتطرفة. مع تأكيد إعادة تعريف موضوعي لمصلحة قوى الثورة السودانية الراجحة من اصطفافها مع المجتمع الدولي، الذي لا يزال يمد يده في انتظار وحدة كيانية جديدة لقوى الثورة الحية.
إن السودان بما يزخر به من قدرات وإمكانات وطاقات بشرية ومادية هائلة ومتنوعة وخزان حضاري تاريخي فريد، يملك أن يكون طرفاً نبيلاً للتعاون مع كل القوى الدولية المحبة للسلام والديمقراطية والعدالة، بحيث يتبادل معها مصالح بمصالح، ذلك أن تصنيف السودان كإحدى سلال غذاء العالم (وهو تصنيف لا يشاركه فيه سوى كندا وأستراليا)، سيجعله مختلفاً في إمكاناته عن كثير من دول الإقليم المحيطة به، لذا من الأهمية بمكان أن تتحالف قوى الثورة الحية مع القوى الدولية التي تريد أن تساعد السودان اليوم من أجل إنهاضه من مصير لا يقدر، الآن وهنا، على النهوض من تداعياته الكارثية، إذا تُرك وحده.