Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هل تنقل موسكو صراعها مع الغرب إلى ساحل البحر الأحمر؟

ترتيبات إنشاء قاعدة عسكرية روسية في السودان تمهّد لـ"مواجهة محتملة" مع واشنطن

غير بعيد من ميناء بورتسودان، تدور ترتيبات لإنشاء قاعدة عسكرية روسية في منطقة البحر الأحمر (اندبندنت عربية - حسن حامد)

 ما بين النفي أحياناً والصمت في أحيان أخرى، ظلت الحكومة السودانية تؤكد أنه لن تكون هناك أية جهات أجنبية في البحر الأحمر، مشددة على استمرار وطنية موانئها في مناسبات عدة، وآخرها لدى لقاء النائب الأول لمجلس السيادة، محمد حمدان دقلو (حميدتي)، بمواطني شرق السودان والعاملين في هذه الموانئ، الأسبوع الماضي، حيث بث تطمينات بعدم تخصيص الموانئ أو إيجارها لجهات أجنبية.

ولكن غير بعيد من ميناء بورتسودان، تدور ترتيبات لإنشاء قاعدة عسكرية روسية في منطقة البحر الأحمر التي تشهد تنافساً إقليمياً ودولياً للارتكاز الأمني العسكري والاقتصادي. وخلال العقدين الماضيين، وُقعت اتفاقيات عدة بين قوى دولية وبعض الدول المشاطئة للبحر الأحمر، وفق ضرورات تمزج بين حماية مصالحها الاستراتيجية والاقتصادية في المنطقة، وبين ما طرأ من سباق التمدد في هذا المجال الحيوي.

يعكس هذا المشهد حالة من الصراع الخفي، وفي ظل الاحتشاد الماثل أمامنا، فإنه قد لا تستطيع قوة دولية الاعتراض على وجود أخرى، إذ يحكمها التنافس الدولي والتحالفات الإقليمية وأولويات سياساتها، وتخضع فقط للتغيرات والاضطرابات التي تشهدها منطقة البحر الأحمر، من دون مراعاة أثر ذلك في أمن تلك الدول واستقرارها، وجدوى هذه المنافسة وإسهامها في النمو الاقتصادي لتلك الدول.  

بيد أن خطر الصراع يبلغ مستويات مرتفعة، عندما تكون منطقة البحر الأحمر مسرحاً لإدارة الخصومات، وتنقل صراعاتها الخاصة من مناطق أخرى إلى هذه المنطقة، مثلما يحدث بين الولايات المتحدة والصين دائماً، وما يحدث حالياً بين روسيا وأميركا على إثر الحرب الأوكرانية وتنشيط المشروع الروسي بإقامة قاعدة عسكرية على البحر الأحمر، في ظل العداء الحالي بين موسكو والغرب، وفي مقدمته الولايات المتحدة.

صراع محموم

مع تركّز أنظار العالم على الحرب في أوكرانيا، تصبح أية خطوة تخطوها روسيا في أي جزء من العالم محط اهتمام كبير، حتى إن كانت مواصلة لمشروع قديم بدأته مسبقاً. وهذه هي الحال بالنسبة إلى مشروع روسيا بناء قاعدة عسكرية في البحر الأحمر بالقرب من مدينة بورتسودان الساحلية. وهو ما بدأته في 2017 عند زيارة الرئيس السابق عمر البشير إلى موسكو، وقوله للرئيس الروسي فلاديمير بوتين إن السودان سيكون "مفتاح روسيا لأفريقيا"، بحيث ولدت فكرة القاعدة العسكرية البحرية في تلك الجلسة، التي طلب فيها البشير من بوتين الحماية ضد التدخلات الأميركية.

 وإذا كان ثمة صراع محموم على البحر الأحمر من أطراف دولية، فإنه بتنشيط روسيا أخبار قاعدتها العسكرية سيزيد من اشتعاله، ما يمكن أن تعدّه أطراف دولية وعلى رأسها الولايات المتحدة تحدياً لها، فتفتح مسرحاً آخر للصراع تزامناً مع الحرب الأوكرانية.

وبالنظر إلى أن خبر القاعدة الروسية قديم نشرته وكالة أنباء "تاس" الروسية الرسمية أيضاً مع تعتيم سوداني، فإن نبش تفاصيلها الآن يضيف بعداً جديداً، وهو أن منطقة البحر الأحمر تقبع في حسابات القوى الدولية، لإعادة الاهتمام بها وبما تمليه مصالحها ودرجة الصراع في ما بينها. وقد حملت الأخبار فور موافقة بوتين في 17 نوفمبر (تشرين الثاني) 2020 على إقامة منشأة بحرية روسية في السودان، تفاصيل عن طبيعتها وبنود الاتفاق الموقع لمدة 25 عاماً وما حواه، إذ ذكرت أنها "قادرة على إرساء سفن تعمل بالطاقة النووية، ما يمهّد الطريق لأول موطئ قدم عسكري كبير لموسكو في أفريقيا منذ سقوط الاتحاد السوفياتي". وتم تداول كثير من المعلومات مثل حصول موسكو على مساحة 50 كلم مربع شمال مدينة بورتسودان، لكن متابعين سودانيين ركزوا على أن الوثيقة ربما تكون حوت بنداً خطيراً وهو أن القاعدة الروسية خارج الولاية القضائية السودانية، بما يحرم الخرطوم من حق مراقبتها أو الاعتراض على أي نشاط يُمارس عليها.

متغيرات إقليمية

هذا الواقع ولَّد عودة الوعي بأهمية ساحل البحر الأحمر كمدخل ومعبر من السودان وإليه، ولعل الموانئ السودانیة التي نشأت علیه (بورتسودان وسواكن وبشائر)، والتي كانت تعمل في هدوء تام من قبل، دخلت دائرة التسييس منذ انفصال جنوب السودان عام 2011، وارتبطت بالصراع الناشئ وقتها بمرور نفط دولة جنوب السودان عبر ميناء بشائر إلى موانئ التصدير العالمية، وما تبع ذلك من خلاف حول تحصيل رسوم عبور النفط عبر الأراضي السودانية وتعطيل عبوره أكثر من مرة ثم استئنافه.

 أما التسييس الحالي لقضايا الساحل، في ما يتعلق بقضیة أمن البحر الأحمر، فقد برز في ظل المتغيرات الداخلية، وسقوط النظام السابق الذي كان يمهد للتدخلات المعادية للغرب من دول مثل تركيا وإيران وروسيا، إضافة إلى المتغيرات الإقليمية مثل حرب تيغراي والحرب في اليمن ونشاط الحوثيين المدعومين من إيران ونشاط الإرهاب والقرصنة.

 وتتجاوز تداعيات تأثير الصراعات الإقليمية انتشار ظاهرة تهريب الأسلحة وتهريب البشر، فقد تم القبض خلال الأعوام الماضية على عدد من الصوماليين والإريتريين والإثيوبيين حاولوا التسلل عبر البحر الأحمر، وتم إنزالهم بمرسى هيدوب جنوب مدينة سواكن، إذ يستفيد تجار البشر من معسكرات اللجوء في تلك المنطقة. كما انتشرت أيضاً القرصنة البحرية، ويستفيد القراصنة وتجار البشر من الجزر السودانية النائية (حوالى 36 جزيرة) باتخاذها مقار لنشاطاتهم في اصطياد السفن، وينقلون منها ضحاياهم إلى شبه جزيرة سيناء ثم إلى إسرائيل، استعداداً للتوجه إلى أوروبا.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

 وبعد الثورة، لم يتغير وضع السودان من حالة الضعف بسبب شح الإمكانات ومقدرته على الاستفادة الاقتصادية من موانئه ومن الإطلالة الساحلية، إضافة إلى عدم المقدرة على توفير الأمن والحفاظ عليه كممر مائي آمن من التهديدات الكثيرة. وباعتبار أن ليست لدى السودان منذ استقلاله استراتيجية أمنية متكاملة لحماية البحر الأحمر، فإن انضمامه كعضو فاعل إلى "مجلس الدول العربية والأفريقية المطلة على البحر الأحمر وخليج عدن"، الذي أُسس بالرياض في 6 ديسمبر (كانون الأول) 2018، من قبل وزراء خارجية ثماني دول عربية وأفريقية مشاطئة للبحر الأحمر، سيجعل دوره فاعلاً وأساسياً.

متغيرات دولية

 مع أن التدخل في منطقة البحر الأحمر قديم، لكن أبرزه، مما يرتبط بنشاط إقامة هذه القواعد العسكرية، أنه في عام 2008 عندما نشأت قضية القرصنة في البحر الأحمر قبالة الشواطئ الصومالية، وبلغت ذروتها عام 2009 ووصلت العمليات إلى حوالى 52 عملية اختطاف، فُرضت قضية تدويل أمن البحر الأحمر بنشر حلف "ناتو" سبع سفن تابعة له. ولحماية سفنها من هجمات القراصنة، نشرت "قوات التحالف المشتركة" ومقرها جيبوتي قوة بحرية مكونة من 30 سفينة عسكرية متعددة الجنسيات تم إنشاؤها في يناير (كانون الأول) 2009 تحت قيادة "قوات التحالف البحري" لإدارة عمليات مكافحة القرصنة في خليج عدن والساحل الشرقي للصومال.

وتزامن نشاط القراصنة مع بداية نشاط القيادة العسكرية الأميركية في أفريقيا (أفريكوم) في أكتوبر (تشرين الأول) 2008 التي أُسست عام 2007، وشجع ذلك الوضع الولايات المتحدة على إكمال قاعدتها وقوامها حوالى 4000 جندي. ولفتت إقامة هذه القواعد إلى ضرورة مراعاة الدول المطلة على البحر الأحمر التي تُقام عليها قواعد عسكرية لمصالحها الاقتصادية، لأن تبعات قيام قواعد عسكرية ينبغي النظر إليها في إطار مصلحة هذه الدول ومصالح الدول المشاركة في الإطلالة عليه. وهذا يستلزم تنسيقاً أعلى مع هؤلاء الشركاء، وتنسيقاً مع القوى الدولية للتأكد من فاعلية الدول التي تودّ إقامة هذه القواعد العسكرية ومقدرتها على الحماية.

 دخول منطقة البحر الأحمر في استثمارات مع شركات أجنبية عموماً سواء كانت روسية أو صينية أو فرنسية أو تركية أو غيرها سيدفع هذه الدول إلى حماية مصالحها في البحر الأحمر، ما ينعكس على أمنه وأمن دوله وعدم تأثر التجارة الدولية بأي تهديد، إلّا إذا نشأ تنافس بين موانئ القرن الأفريقي، وغالبيتها في جيبوتي، والقواعد العسكرية، ما قد يخلق نزاعاً مقبلاً أو تضارباً في مصالح هذه الدول.

تحت الرقابة

ظلت منطقة البحر الأحمر تحت رقابة القوات الدولية، وزادت في أعقاب قصف سلاح الجو الإسرائيلي موكباً لشاحنات سودانية كانت تسير شمال غربي مدينة بورتسودان في مارس (آذار) 2009، وكان يُشتبه في أنها تحمل سلاحاً إيرانياً إلى حركة "حماس" في قطاع غزة، وعلى إثرها وُقّع اتفاق أميركي إسرائيلي فرنسي في 16 سبتمبر (أيلول) 2009 يمنع دخول أسلحة للمقاومة الفلسطينية، إلّا أن محاولة تهريب الأسلحة عبر ساحل البحر الأحمر تكررت في أبريل (نيسان) 2011، وعلى إثرها استهدفت غارة إسرائيلية قيادياً في "حماس" بجوار مطار بورتسودان للاشتباه في ضلوعه بتهريب الأسلحة للحركة. وفي العام ذاته، حاولت إيران نشر قواتها البحرية في البحر الأحمر، بدعوى حماية سفنها من القرصنة. 

وفي يناير 2013، نُشرت وحدات بحرية هناك، ولكن في مارس 2014، استولت إسرائيل على شحنة أسلحة إيرانية في البحر الأحمر قبالة الحدود السودانية الإريترية، كانت في طريقها إلى قطاع غزة عبر السودان لتهريبها عن طريق شبه جزيرة سيناء. وفي أكتوبر من العام ذاته، أغلق السودان الملحقيات الثقافية الإيرانية في أراضيه، ثم قطع علاقاته مع إيران، التي فقدت التسـهيلات التي كانت تجدها في الشـواطئ والموانئ السودانية منذ تسعينيات القرن الماضي.

ولم تكُن الولايات المتحدة والصين وفرنسا وتركيا وإيران هي فقط الدول الوافدة للتأثير في أمن البحر الأحمر وتحقيق النفوذ فيه، بل هناك قوات أوروبية مشتركة تسيّر دوريات بزعم حماية السفن التجارية من القرصنة، كذلك توجد أول قاعدة يابانية في الخارج متمركزة في جيبوتي أيضاً، بالقرب من القاعدة الأميركية، إضافة إلى قاعدة إيطالية وحضورَين إسباني وبريطاني في تلك المنطقة.

تنشيط الاستراتيجيات

يتأثر أمن البحر الأحمر بعلاقات دول المنطقة مع المجتمع الدولي، وقبل تولّي جو بايدن الإدارة الأميركية، كانت الولايات المتحدة الحليف الاستراتيجي لغالبية دول المنطقة، بينما كان دور السودان ضعيفاً متأثراً بالعقوبات المفروضة عليه منذ عام 1997. وبعد الثورة وانفتاح البلاد دولياً، كانت الولايات المتحدة انسحبت من الشرق الأوسط وبدت مترددة في التفاعل مع أفريقيا، على الرغم من الإعلان أكثر من مرة عن وجودها في القارة.

وفي ما يخص الصين، فإن البحر الأحمر جزء أساسي من طريق الحرير البحري التابع لـ"مبادرة الحزام والطريق"، ويستخدم هذا المشروع الضخم قاعدة الصين العسكرية في جيبوتي. وفي ظل الاتهامات الموجهة إلى بكين بزيادة نفوذها في المنطقة، فإنها ستستفيد من رواج أخبار القاعدة الروسية في البحر الأحمر، ما يستنفر بسرعة شديدة الولايات المتحدة ويصرفها مؤقتاً عن التعرض للصين إلى حين إكمال مشروعها.

وعما يمكن أن يدور بين واشنطن وموسكو، فإن ذلك يعتمد على خلفية وجود القوتين في المنطقة، إذ إن الاتحاد السوفياتي السابق كان يملك قواعد عسكرية في الصومال وإثيوبيا، لكن انهياره وتراجع الاستراتيجية الروسية بعد ذلك في البحر الأحمر، مكّن الولايات المتحدة من تنشيط استراتيجية الاحتواء التي تبنّتها في تلك الفترة لحماية مصالحها، وبات واقع الملاحة الدولية، خصوصاً في هذه المنطقة، أولوية للإدارات الأميركية المتعاقبة. وتغيّرت استراتيجية الاحتواء نحو استراتيجية التأهب للمواجهة العسكرية بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، ثم ها هي تعود الآن في عهد جو بايدن مترددة، ولكن ما سيحسم هذا التردد ويحوّله إلى طبيعة أكثر واقعية بعد انسحاب مؤقت، هو الوجود الروسي في البحر الأحمر.

المزيد من تحلیل