استطاع المرشد الأعلى للنظام الإيراني علي خامنئي توظيف اللحظة التاريخية والمفصلية الناتجة عن الأزمة الأوكرانية على الصعيد الدولي والمرحلة الحساسة التي وصلت إليها المفاوضات النووية بين بلاده والمجموعة الدولية (4+1 وواشنطن) لإعادة تأكيد استراتيجية النظام الذي يجلس على قمته في ما يتعلق بالتحديات المتعلقة بالدور الإقليمي والبرنامج النووي والقدرات الصاروخية الباليستية وسلاح الطائرات المسيرة التي تشكل مصدر قلق بالنسبة إلى الدول المعنية بمنطقة غرب آسيا ودول الشرق الأوسط والجوار العربي.
المرشد ومعه الدوائر المساعدة في رسم السياسات الاستراتيجية للنظام، استغلت أو تحاول توظيف اللحظة وحاجة الدول الغربية المنخرطة في الأزمة الأوكرانية إلى التخفف من أعباء الملفات العالقة بأقل خسائر ممكنة من أجل التفرغ لمواجهة الطموحات الدائمة للاعب الروسي على الساحة الدولية وما يمكن أن يشكله من مخاطر وتهديدات لمنظومة التحالف التاريخية والتقليدية بين طرفي الأطلسي بين الولايات المتحدة الأميركية ودول الاتحاد الأوروبي وحلف "الناتو".
المرشد حدد الأسس التي تقوم عليها الدولة القومية بالقوة الوطنية المركبة، ولا تنحصر في بعد واحد. ومن أركانها العلم والفكر والأمن والقدرات الدفاعية، بحيث تكون الأمة قادرة على الدفاع عن نفسها، إضافة إلى الاقتصاد القوي والرفاه الاجتماعي، إلى جانب السياسة والقدرة الدبلوماسية والتفاوض، وامتلاك منطق يساعد في التأثير على الشعوب الأخرى بحيث يصون العمق الاستراتيجي لإيران. واعتبر هذه الأركان وحدة متكاملة يجب ألا يقدم أي منها على حساب الآخر، ويجب عدم التراجع في الجانب المتعلق بالقدرات الدفاعية إرضاء للعدو، لأنه يشكل أعلى مستويات الغباء.
خامنئي أعاد التأكيد على الدور الإقليمي لبلاده والنظام، رافضاً أي تراجع في هذه الاستراتيجية من أجل استرضاء أي من الدول الكبرى المعترضة على هذا الدور والنفوذ. واعتبر النفوذ الإيراني في الإقليم "العمق الاستراتيجي" لإيران والنظام، ويشكل أحد الأبعاد التي تعزز استقرار النظام وقوته وقدرته، مشدداً على ضرورة التمسك بهذا البعد والعمل على تعزيزه، قائلاً: "كيف يمكن لنا أن نتخلى عن هذا البعد الذي نمتلكه، ويجب أن نعمل على امتلاكه".
المرشد، وفي ما يتعلق بالبرنامج النووي، رفض أي بحث في مستقبل هذه الأنشطة وامتلاك إيران هذه التكنولوجيا، معتبراً أن هذا الأمر والبعد يشكل أحد أركان التقدم العلمي ومستقبل إيران وتطورها، وأن أي حديث عن تقديم تنازلات في البرنامج النووي ذريعة حتى ولو كانت من أجل تخفيف الضغوط الخارجية على إيران أمر لا محل له وغير مطروح على طاولة الخيارات الإيرانية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
واعتبر أن أي تنازل أمام المطالب الأميركية في المفاوضات النووية بهدف الخروج من دائرة العقوبات، لا يعني التخلي عن هذا البرنامج الذي سيكون في المستقبل القريب حاجة حيوية لإيران، بل أيضاً تعطيل الدور الدبلوماسي والقدرة على التفاوض من أجل تثبيت الحق الإيراني. وهاجم الأصوات المطالبة باعتماد سياسة الحوار والتنازل، واتهمها بالضعف والمنطق الضعيف، ذاكراً أن إيران مرت بتحد كبير كان من المحتمل أن يضعها في مواجهة خطر كبير في حال قبل النظام باعتماد سياسة تقديم التنازلات أمام المطالب الأميركية، وذلك في إشارة تنال من المسار التفاوضي الذي حاول اعتماده الرئيس السابق حسن روحاني وفريقه المفاوض بقيادة وزير الخارجية محمد جواد ظريف. وأشار بشكل ضمني إلى تصديه لهذا التوجه.
إعادة التأكيد على أبعاد الاستراتيجية الإيرانية في هذه المرحلة التي تشهد اقتراب التوصل إلى تفاهم بشأن إعادة إحياء الاتفاق النووي مع المجموعة الدولية، وسحب هذه الاستراتيجية لتكون خريطة طريق لأنشطة إيران في المرحلة المقبلة، يكشفان أن النظام ليس في وارد تقديم تنازلات في المفاوضات القائمة على حساب أي من أركان الاستراتيجية أو الرؤية أو العقيدة التي تحكم عمله في مجالات الأنشطة النووية ومستقبلها، وكذلك تلك المتعلقة بالنفوذ الإقليمي وما يشكله من عمق استراتيجي بمثابة شرط لاستقرار النظام وقوته وقدرته.
إلا أن البعد الأهم في مواقف المرشد الأعلى أمام أعضاء مجلس خبراء القيادة الذي يتولى مهمة اختيار المرشد المقبل، يأتي من أن مهمة المواقف التأسيس لمرحلة "المرشد الجديد"، والتي عبر عنها صراحة بقوله، "حقيقة يجب أن يتوقف عندها مجلس خبراء القيادة، وأن يتدخل سواء مع الشخص الذي يتولى القيادة حالياً، أو مع الشخص الذي سيتولى هذا الموقع بعد انتخابكم له، هي أن عليه الالتزام الدقيق والقانوني بهذه الأبعاد والشروط". أي أن المرشد الجديد وبغض النظر عمن سيكون، يجب أن يكون منسجماً مع هذه الرؤية وهذه الاستراتيجية اللتين رسمهما، وعلى خبراء القيادة اختيار الشخصية القادرة على تطبيقهما والسير بهما دفاعاً عن مصالح النظام وإيران والوقوف بصلابة في وجه أعداء الداخل الذين يحاولون النيل من النظام من خلال استهداف الوحدة والتضامن الوطنيين، وأعداء الخارج الذين يسعون لتحجيم الدور والموقع والتطور الإيراني سواء في محاصرة الدور الإقليمي للنظام ومناطق نفوذه أو في امتلاك التكنولوجيا النووية التي تعتبر حاجة وشرطاً إيرانيين للتقدم في المستقبل.