Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

فارس "غجرية ثربانتس الصغيرة" لا يحارب طواحين الهواء

لا تقارب طبقياً حقيقياً لدى صاحب الرواية الكبيرة الأولى في تاريخ الحداثة

منحوتة تمثل "الغجرية الصغيرة" في نصب لتمجيد ثربانتس (ويكيميديا)

ينتمي الكاتب الإسباني ميغيل ثربانتس إلى طائفة أولئك المبدعين الكبار الذي يشتهر واحد فقط من أعمالهم إلى درجة يخيّل معها لكثر من الناس أنهم لم يكتبوا سوى رواية واحدة في حياتهم، وطبعاً الرواية المعنية هنا هي "دون كيشوت" التي افتتح بها هذا الكاتب مستنداً إلى "تلفيق" يجعله يتلقى الرواية من حكواتي عربي ما دفع كثراً من الباحثين العرب إلى تمضية سنوات من حياتهم متيقنين من الأصول العربية لهذه الرواية التأسيسية الشامخة. غير أن موضوعنا ليس هنا. موضوعنا هنا يتعلق بالعودة إلى ثربانتس للتذكير بأنه لم يكن أبداً صاحب عمل أوحد. بل كان غزير الإنتاج متنوّعه فكتب القصص القصيرة والروايات المتوسطة والمسرحيات واليوميات، وخاض في أدب الرسائل، كما عاش مغامرات أودت به إلى أسر القراصنة لهم فأودعوه في سجون جزائرية. لكنه حين ظهرت "دون كيشوت" تألق بشكل استثنائي ونسيت أعماله الأخرى إلى حد ما. ولقد احتاج الأمر إلى قرون عدة وبحوث أكثر عدداً للتيقن من كثرة إبداع ثربانتس. لماذا؟ بالتحديد لأن هذا الكاتب وجرياً على عادة كانت متبعة في الحياة الأدبية في تلك الأزمنة لأسباب ليس هنا مكان حصرها، آثر أن ينشر معظم ما كان يكتبه إما غفلاً من اسم المؤلف وإما باسم مستعار. وكان ذلك على سبيل المثال حال مجموعة قصصية له سوف تشتهر لاحقاً في هذا النوع الأدبي إنما من دون أن تطغى على "دون كيشوت"؛ وبالطبع لا يعود هذا إلى ضعف في قصص تلك المجموعة، بل إلى القوة الاستثنائية التي تميز حكاية فارس طواحين الهواء. ولعل من أجمل قصص تلك المجموعة المعروفة تحت عنوان "حكايات مثالية" قصة "الغجرية الصغيرة" التي تحولت غير مرة إلى أوبرا كما استوحيت في لوحات، ولا ريب أنها قدمت على الخشبة كمسرحية مغامرات طريفة حتى في حياة ثربانتس نفسه، أما الفضل في هذا الاهتمام فيعود بالأحرى إلى عاملين. أولهما موضوع الحكاية نفسه الذي كان يستهوي قراء تلك الأزمنة بطابعه الميلودرامي وخبطاته المسرحية؛ وثانيهما مواصفات شخصية بطلتها التي ستعيش سماتها طويلاً. ولنضف إلى هذا أن الكاتب لم يخرق هنا "المواثيق الاجتماعية" التي لم تكن تستسيغ التقارب الطبقي أو العرقي في الأعمال الإبداعية كما سنرى. ولكن من هي تلك الغجرية الصغيرة؟

بين كارمن وإزميرالدا

"كارمن" ولكن أكثر براءة بالتأكيد. "إزميرالدا"، إنما أقل رومانسية وبعداً درامياً في مطلق الأحوال. ومع هذا يكاد كثر من النقاد ومؤرخي الأدب يجمعون على أن "غجرية ثربانتس الصغيرة"، هي "الرحم" الشرعي الذي ولدت منه هاتان الشخصيتان الروائيتان الخالدتان اللتان رسمهما بروسبير ميريميه (بالنسبة إلى كارمن)، وفكتور هوغو (بالنسبة إلى إزميرالدا، الشخصية المحورية في "نوتردام دي باري"). فمن هي هذه "الغجرية الصغيرة" التي جعل لها صاحب "دون كيشوت"، كل هذه المكانة التاريخية وخصّها بالنص الأطول من بين نصوص مجموعته القصصية المتأخرة في حياته والتي عنونها "حكايات مثالية"؟. صحيح أن هذه المجموعة صدرت خلال العامين الأخيرين من حياة ثربانتس، غير أن لا أحد عرف متى كتبها. فهل كانت من نتاجه المبكر وآثر ألا ينشرها إلا لاحقاً، أم أنه كتبها لحظة تأمل في سنواته الأخيرة؟ مهما يكن يقيناً أن الجواب ليس فائق الأهمية. تماماً كما أن هذه القصة الطويلة، أو الرواية القصيرة، ليست من أعمال مؤلفها الكبيرة. هي هنا، بالأحرى، كي تقول لنا إن ميغويل دي ثربانتس، لم يكن – كما قد يعتقد كثر – مؤلف عمل أدبي كبير ووحيد عاش حياته على أمجاده، بل كان كاتباً خصباً منتجاً من دون هوادة... حتى إن بدا أنه لم يصل إلى ذروة إبداعه إلا في رواية ذلك الفارس المحارب طواحين الهواء. بالنسبة إليها لم تكن "الغجرية الصغيرة" من محاربي تلك الطواحين. ولم تكن صبية حالمة، بل – وكما سوف نرى بعد قليل – لم تكن، أصلاً غجرية. وذلك لأن ثربانتس، إذ سار هنا، في صياغته للقصة على الخطى التي كان قد رسخها الايطالي بوكاشيو، في "ديكاميرون"، اشتغل على مفهوم "القلبة المسرحية"، التي كان الأديب اللاتيني يبرع في الاستعانة بها في نهاية النص بغية تجميد فكر القارئ وجرّه إلى انتظار أعمال تالية للكاتب نفسه.

في عالم الغجر

الغجرية هذه اسمها هنا بروسيوزا (ثمينة أو غالية). وهي فتاة عاشت وترعرعت في أوساط الغجر حافظة كل أساليبهم في العيش وفي الألاعيب تعلمتها على يدي سيدة عجوز يسود الاعتقاد دائماً بأنها خالتها. والحقيقة أن بروسيوزا كانت رائعة الحسن، ممشوقة القوام، ومع هذا لم تكتف بهاتين الميزتين، بل تعلمت الرقص في تفاصيل تفاصيله، كما تعلمت فنون الحكواتية، ومن هنا كانت حين ترقص أو تحكي حكايات المغامرات التي لم يكن أحد يعرف من أين تأتي بها، كانت تسحر كل من حولها. وكان من بين الذين سحروا بها حقاً الفارس الشاب المدعو دون خوان دي كاركامو. لكن بروسيوزا الشاطرة، حتى وإن كانت قد رغبت في الزواج من هذا الشاب النبيل، أرادت أن تعرضه لتجربة تستمر سبع سنوات: خلال تلك السنوات سيكون عليه أن ينسى مكانته الاجتماعية وثروته ليكتفي بالعيش كأخ لها في بيئتها وعالمها. فإن تمكن من ذلك ستكون له في النهاية، وإن لم يتمكن عليه أن يرحل متخلياً عنها. يقبل الدون خوان الشرط لفرط هيامه بالغجرية الصغيرة، تاركاً أهله ورفاقه زاعماً أنه إنما توجه ليشارك في حروب الشمال. وهكذا يتخذ لنفسه اسم أندريس كافاليرو وينضم إلى معسكر الغجر راضياً أن يتبع قواعد عيشهم وعاداتهم ويلبس ثيابهم ويتكلم لغتهم. فقط شيء واحد لم يرض أن يجاريهم فيه: فهو لن يسرق أبداً، حتى ولو كانت السرقة أسلوب عيش هؤلاء القوم. ولكن بما أن ليس في إمكانه أن يبدي هذا الرفض أمام الغجر، يزعم أمامهم، إذ ينفق من ماله الخاص، إن ما ينفقه مسروق. وهكذا تجري الأمور على هذا النحو: كل راض بما قسم له، والغجرية الصغيرة تنتظر نجاح حبيبها في امتحان السنوات السبع، والحبيب ينفق ماله زاعماً أنه غجري لص.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

عندما تنجلي الحقائق

ولكن ذات يوم، يحدث ما لم يكن دون خوان/ أندريس يتوقعه، أو يريده. ففي خلال ترحال ما، من مدينة إلى أخرى، يصل الغجر إلى محيط مدينة مورسيا. وهناك، إذ تشاهد ابنة أحد المالكين الفارس الشاب تغرم به، عارضة عليه الاستقرار والزواج في المكان. لكنه بالطبع، يرفض بقوة. وهي كي تنتقم منه، تدس في حوائجه بعض الأشياء وتشي به أمام رجال الشرطة على أنه سرق هذه الأشياء فيقبض عليه. وحين يكون في السجن، يريد جندي، هو ابن أخ قاضي المدينة، أن يعاقبه بقوة وإهانة، فلا يكون بد من أن تتحرك دماء الدون خوان النبيلة رداً على الإهانة ورغبة الجندي في العقاب فيمتشق سيفه ويقتل هذا الأخير. وهكذا هذه المرة يُقبض عليه مع كل قبيلته الغجرية ويقادون معاً إلى مدينة مورسيا كي يسجنوا. وهنا تتوجه بروسيوزا إلى بيت القاضي كي تحاول الحصول على العفو عن "الغجري" الشاب. وتكون تلك مناسبة لكي تكشف الغجرية العجوز التي كانت ربّت بروسيوزا، على سر آت من الماضي: ليست بروسيوزا في الحقيقة، سوى الابنة التي كان القاضي وزوجته قد فقداها منذ سنوات طويلة، وكانت هي، الخالة المزيفة، من خطف الفتاة بالتحديد. ولكي يصدقها القاضي وعائلته، كان في حوزتها دليل قاطع: إنه الفستان الصغير الذي كانت الطفلة المخطوفة ترتديه يوم خطفت، إضافة إلى عدة إشارات أخرى. أمام هذا السر المكشوف عم السرور أسرة القاضي، وكذلك بروسيوزا التي لا تجد هنا مغبة أو مفراً، من أن تكشف بدورها عن حقيقة حبيبها الشاب. ووسط هذا السرور العام، يتم إرضاء أسرة الجندي القتيل بمبلغ من المال تعويضاً على وفاته مع التذكير بأنه كان هو المعتدي. وهنا، إذ يحصل دون خوان على موافقة أبيه على اقترانه بالفتاة التي لم تعد الآن غجرية صغيرة "إلا بالتبني... تعم الفرحة ولا يعود على الحبيبين أن ينتظرا بقية سنوات الشرط الذي كانت بروسيوزا وضعته كي تتزوج من دون خوان. والحقيقة أن انكشاف الانتماء الطبقي الواحد للعاشقين كان مهماً في هذا النص البديع، فالأزمنة لم تكن لتسمح بعد بمثل هذا لتلاقح الطبقي الذي كان عليه أن ينتظر طويلاً. ومن هنا فتن القراء بعمل يعيشون خلال قراءته على أعصابهم فتتراخى هذه في النهاية مطمئنة وتنخلق شخصية نسائية لها مواصفات الغجريات التي كانت فاتنة إنما من دون أن تخرق المواثيق! ومن جديد لا بأس من التأكيد على هذا الأمر لتفسير نجاح كبير حققه عمل عرف كيف يعيش طويلاً بعد ذلك.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة