Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

برشلونة ألهمت روائيين حملوا اسمها وأضاءوا اسرارها

خوان مارسيه آخر الراحلين الذين رووا حكاياتها التي لا تنتهي

برشلونة المدينة القديمة (ويكبيديا)

بعد أسابيع قليلة على وفاة الروائي الإسباني خوان كارلوس زافون (1964-2020)، رحل مواطنه خوان مارسيه عن 87 سنةً (18 تموز /يوليو 2020). كلاهما ولد في برشلونة وارتبط بها، نصّاً وجوهراً. هكذا بدت المدينة التاريخية فضاءً مُلهماً في أعمال زافون (صدرت معظمها بترجمة عربية أنجزها معاوية عبد المجيد عن دار الجمل)، فيما صوّرها مارسيه بطلةً ساحرةً تعلّق بها حدّ الإفراط.

حاز خوان مارسيه جائزة ثربانتس عام 2008، وهي توازي نوبل في الأدب الإسباني، فيما حقّق زافون أرقاماً قياسية جعلته الكاتب الإسباني الأكثر قراءةً في العالم، بعد ثربانتس. وفي رواياتهما، شكلّت برشلونة خلفيةً أساسية للأحداث. وجاء موتهما المتزامن ليُعيد إلينا السؤال عن تأثير هذه المدينة في أدب أبنائها. تُرى ما سرّ سطوتها؟ كيف تستحوذ على أدبائها؟ وما مدى تماهيهم معها، روحياً وثقافياً؟

ثنائيات المكان

قد تحمل مقولة خوان مارسيه الشهيرة جواباً خفياً عن هذه الأسئلة، هو الذي قال إنّ "الأدب هو تصفية حساب مع الحياة". ومن عاش في برشلونة يُدرك معنى هذه العبارة. فالحياة في هذه المدينة تمنح صاحبها تجربة مختلفة ومعقدة أكثر من أيّ مدينة أوروبية أخرى. إنّها ترمي بأبنائها في بئر التناقضات والثنائيات، باعتبارها منطقة مزدوجة اللغة والثقافة، تُزاوج بين هوية "قشتالية" ناطقة بالإسبانية وهوية "كتالانية" ناطقة باللغة الكاتالونية.

إنها مدينة تتأرجح بين التاريخ والحاضر، الأسطورة والواقع، الأصالة والحداثة. وقد تكون الحقبة "الفرانكوية" (1939 حتى 1975)، من الفترات الأكثر تأثيراً في الأدب الإسباني- الكاتالوني الحديث. ففي رواية "متاهة الأرواح" مثلاً، لكاتبها كارلوس زافون، يعثر القارئ على برشلونة في خمسينيات القرن العشرين، حيث تدور الأحداث حول جرائم خفيّة كان قد نفّذها نظام فرانكو الديكتاتوري على مدار عقود.

وكان زافون الذي عاش فترة طويلة في الولايات المتحدة (وتوفيّ في لوس أنجليس قبل شهر تقريباً)، يُلقّب بـ"تنّين برشلونة" لكونه من المفتونين بالتنانين التي تُزيّن واجهات برشلونة وعماراتها، حتى أنه يرسمها على أيّ ورقةٍ أمامه. وهذا التماهي بتاريخ المدينة وأساطيرها ترك أثره في أدبه الذي جعله ضمن أوّل خمسة كتّاب معاصرين قراءةً في العالم.   

أمّا خوان مارسيه، أحد عمالقة المدرسة الكتالونية، فلم يستحضر برشلونة بوجهها القوطي وبُعدها الأسطوري، بل صاغ من ذاكرتها الحيّة قصصاً واقعية عن تحولات المجتمع الإسباني بعد حربٍ أهلية دامية (1936-1939). وهذا ما يبدو جلياً في معظم روايته، ومنها "الأمسيات الأخيرة مع تريزا" (المركز القومي للترجمة، 2015).

تعرض هذه الرواية التباين الطبقي في مدينة برشلونة وضواحيها، من خلال قصة شابٍ بسيط من الطبقة العاملة (مانولو) يحاول التودّد الى فتاة من الوسط البرجوازي. وفيها يرسم مارسيه، بنَفَسٍ ساخر، حركة النزوح من المناطق الفقيرة الى المناطق الغنية، داخل الإقليم نفسه، وما يعانيه النازحون من فاقةٍ وتهميشِ وتمييز. وليس غريباً أن يهتمّ مارسيه بالمكوّن الاجتماعي لمدينته، هو الذي عرف الفقر في صغره بعد سجن أبيه (بالتبنّي) بسبب انخراطه في العمل الاشتراكي ضدّ سياسة فرانكو، ما اضطره الى ترك المدرسة باكراً والعمل صغيراً كصبيّ في ورشةٍ لصياغة المجوهرات.

وتُعدّ ابنته بيرتا مارسيه (برشلونة، 1969)، من الكاتبات البارزات في الوسط الثقافي الإسباني، وقد اشتهرت بكتابة القصص القصيرة وحازت جوائز عن قصة "السلحفاة"، علماً أنها عملت كقارئة في دور نشر إسبانية بارزة، إضافة إلى عملها في السينما.

مدينة العجائب

لا يمكن أن نمرّ على مدينة برشلونة من دون التوقف عند أحد عمالقتها إدواردو ميندوثا (مولود في برشلونة من العام 1943). وعلى عكس خوان مارسيه، آثر إدواردو ميندوثا الخيال على الواقع، فرسم تاريخ مدينته عبر أعمال بوليسية- فانتازية تارةً، وفكاهية- هجائية طوراً.

ومع أنّ برشلونة شكلّت مسرح أعماله، عرف صاحب "شجار القطط" كيف يُخرج رواياته من محليّتها عبر أنماطٍ تجريبية ابتعدت عن الواقعية التقليدية وقدّمت شكلاً أدبياً جديداً سَحَر القرّاء داخل إسبانيا، وخارجها. وفي أشهر أعماله "مدينة العجائب" (1986- صدرت بترجمة عربية أنجزها صالح علماني عام 2002)، قدّم ميندوثا سيرة صعود برشلونة التي غدت منارةً ثقافية في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.

ولا يمكن أن تكتمل سيرة برشلونة، المدينة الأدبية الملهمة، بلا مانويل فاسكيز مونتالبان. هذا الروائي الذي ظلّ مخلصاً طوال حياته للشيوعية في منطقة كاتالونيا، على الرغم من ملاحقته وسجنه في عهد الجنرال فرانكو. واشتهر مونتالبان، بابتكاره شخصية التحرّي بيبي كارفالو، الذي رأى أنّ ثقافة المجتمعات تتجلّى أولاً في مطابخها. وقد اعتاد كارفالو أن يحرق الكتب ليطبخ وصفاته الشهية، فأضرم النار برواية "دون كيشوت" ليحصل على الرز المطبوخ مع سمك القدّ، وأشعل كتب فوينتس كي يُحضّر يخنة الفاصولياء. فالطبخ، مثل أيّ شيء آخر، يحتاج الى فكرٍ ومعرفة وتلاقح حتى يغدو ألذّ وأنضج.

أمّا الكاتب الإسباني جوردي بونتي (برشلونة، 1967)، فيكتب باللغة الكتالانية، وترجم إليها إنتاجات أدبية بارزة. وتُعدّ روايته "حقائب مفقودة" من الأعمال المهمة في الأدب الإسباني المعاصر. وفيها يعرض الكاتب قصة أربعة إخوة من أب واحد وأربع أمهات مختلفات، يحملون الاسم نفسه: كريستوف وكرستوف وكريستوفر وكريستوفول. يعيش الإخوة في أربع عواصم مختلفة: لندن وباريس وفرانكفورت وبرشلونة. وبعد بلوغهم سنّ الرشد، يبدأ كل منهم بالبحث عن والدهم الكاتالوني المزواج، غابرييل دو لاكروز.

 "حقائب مفقودة" هي رواية الماضي الضائع والطفولة المغتربة. وقد تكون الرواية أشبه بـ"بورتريه" رمزي عن صورة أوروبا المضطربة عقب أحداث سياسية وظواهر اجتماعية وأزمات اقتصادية متلاحقة.

برشلونة، في السينما كما في الرواية، هي فضاء متحرّك، قابل للتمدّد والتقلّص، التجدّد والتحوّل. إنها مدينة مُلهمة سينمائياً، بدليل عشرات العناوين التي اتخذت منها مسرحاً لأحداثها، ومن أشهرها فيلم "المسافر" (مايكل أنجلو أنطونيوني)، "فيكي، كريستينا برشلونة" (وودي آلن)، و"بيوتيفول" (أليخاندرو غونزاليس إيناريتو).

وإذا بحثنا عن التركيبة السحرية لهذه المدينة، سنجدها حاضرة في أعمال كثيرين من ثرفانتس إلى خوان مارسيه، مروراً بجان جنيه وغريغوار بوليه. برشلونة، هي مغزل الحكايات والأساطير.

المزيد من ثقافة