يمكن للباحثين والمراقبين عموماً أن يتجادلوا طويلاً حول ما إذا كان يمكن للأفلام السينمائية، ولندع التحقيقات التلفزيونية جانباً هنا، أن تخدم في قول ما الذي حدث في التاريخ الغابر أو يحدث في التاريخ الراهن، وهو جدال لا شك لن يفضي إلى أي نتيجة طالما نعرف أن السينما إبداع غالباً ما يكون ذاتياً، وأن التاريخ نفسه مجموعة وقائع غالباً ما ينبغي أن تتسم بالموضوعية.
غير أن هناك استثناءات أو حتى لحظات يمكن فيها حتى للأفلام الأكثر ذاتية أن تستخدم لرسم صورة قد تكون أكثر من تقريبية لأحداث معينة، حتى ولو كان قد مضى زمن لا بأس به على تحقيقها.
يمكننا هنا لمناسبة الهجوم الروسي على أوكرانيا والذي من الصعب أن تظهر نتائجه على الفور، أن نتوقف عند فيلمين محددين لسينمائي واحد، بوصفهما عملين فنيين ولكن "تاريخيين"، قد يكون من المفيد بل من الضروري الرجوع إليهما وسط طوفان الشرائط والأخبار التلفزيونية التي لا شك سيكون من شأنها أن تثير حيرة المتفرج العادي الذي يجد نفسه في دوامة جغرافية لا شأن له بها أصلاً، فوجد نفسه تائهاً في تفاصيلها. الفيلمان هما "ميدان" و"دونباس" للمخرج الأوكراني سرغاي لوزنيتسا الذي حقق أولهما عام 2014 عن الثورة التي اندلت منطلقة حينذاك من ذلك الميدان الشهير وسط كييف عاصمة أوكرانيا، والثاني في العام 2018 عن أحوال تلك المنطقة، دونباس التي عاشت حينها أهوال الصراع بين الروس والأوكرانيين. كان الأول وثائقياً، أي فيلماً صور فيه المخرج ما حدث "بالفعل" على الأرض ولاحقته الكاميرا، والثاني روائياً، أي ابتكر موضوعه ليصور من خلاله ما رأى أنه يحدث ويمكن أن يحدث أكثر على الأرض في تلك المدينة التي كانت تشهد بين شارع وشارع وبيت وبيت، مظاهر متخيلة للصراع نفسه.
بعضهم يعيش الدور وبعضهم يمثله
طبعاً يمكننا أن نفترض أن "ميدان" المعنون هكذا بالأوكرانية يصور حقيقة تلك التجمعات والتظاهرات الثورية الصاخبة التي أطلقت شرارة الانفصال الأوكراني عن نفوذ الجارة الروسية، وأبعدت من الحكم رجل الروس في أوكرانيا، وكأنه سرد تاريخي لأحداث حقيقية، وفي المقابل يمكننا أن نفترض أن دونباس اختلق حكاية تنطلق أصلاً من لعبة سينمائية لكي يسخر من طرفي الصراع ويدينهما معاً، وقد تبدو الفرضيتان منطقيتين مهما اقتربت الأولى من الواقع التاريخي وابتعدت الثانية منه، لكن هذا لا يرسم صورة حقيقية لسينما لوزنيتسا بالذات، فاستخدامه كاميرا تصور وجوه الناس وغضبهم واندفاعاتهم في الميدان لا يبتعد كثيراً لديه عن وضعه ممثلين أمام كاميرته في فيلمه الثاني كي يدعوهم إلى تمثيل أدوار ليست أدوارهم في الحياة.
غير أنه وفي الحالتين عرف كيف يقدم صورة مزدوجة لحقيقتين تاريخيتين، إنما من وجهة نظر محددة تنم عن نظرة المبدع إلى ما يحدث، وطبعاً لا نعني هنا أنها نظرة بعيدة حقاً عما يحدث بالفعل، لكننا نعني أنها نظرة خاصة قد يكون لها متواطئون معها بين الملايين الذين قيض لهم أن يشاهدوا الفيلمين فينتمون استنتاجياً إليهما، ودائماً من منطلق ألا أحد يمكنه في نهاية الأمر أن يملك الحقيقة، ولا حتى في الشرائط الإخبارية التي نراها في كل لحظة على شاشات التلفزة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الموضوعية في مهب الريح
بكلمات أخرى، وطالما أن الصورة ومهما كانت موضوعية لن يمكنها أبداً أن تنقل لنا الحقيقة التي نتوخاها في كمالها وصدقيتها المطلقة، ربما سيكون من الأفضل الحصول على مفاتيح معينة لفهم حقيقة ما من خلال تلك النظرة التي يمكننا أن نثق فيها ضمن حدود قدرتنا على التواطؤ مع من يصورها، طالما أن أياً منا لا يمكنه أن يقف وقفة موضوعية أمام أي حدث أو صورة، ففي نهاية المطاف لا بد من أن نكون رأينا الخاص، بالاستناد أولاً إلى عواطفنا الخاصة وبعد ذلك إلى التاريخ على تنوعه، وحين نختار تاريخاً محدداً للنظر عبره سيكون من الأفضل دائماً أن نختار ما يلائم تاريخنا وفهمنا العام للتاريخ، وفي هذا السياق قد يكون من المفيد القول إن كثراً لا يجدون اليوم مغبة في النظر إلى ما يحدث في أوكرانيا والغزو الروسي لها، من خلال نظرة ذلك المخرج الأوكراني الذي لم يخف في نهاية الأمر حسه الساخر الخالي من أي نزعة شوفينية على الرغم من هويته الأوكرانية، وهو الذي لا بد من التذكير دائماً بدينه الفني لدراسته في موسكو وتعلقه بالسينما السوفياتية باكراً، وكل هذا لنقول كم أن في إمكان تأريخه لتلك الحقبتين من تاريخ بلاده في "ميدان" كما في "دونباس" يمكنه أن يعتمد اليوم ببعض الحذر أو بكثير منه، أو حتى دونه على الإطلاق، تبعاً لموقع المتفرج المعني، ولكن دائماً بمتعة تتضمن متعة المعرفة بالتأكيد وبالتحديد، لأن لوزنيتسا سينمائي كبير مهما كان رأينا في أدائه السياسي، يعرف كيف يصور ما يريد تصويره، كما حاله في عدد من أفضل أفلامه من "يا لسروري" و"الضباب" إلى واحد من أعماله الأخيرة الرائعة "جنازة رسمية"، إذ استخدم ألوف الأمتار من شرائط تاريخية تصور جنازة ستالين عام 1953 استخداماً خلاقاً من دون أن يكون صور ولو متراً من تلك الشرائط.
النقاء المفقود
ما نريد قوله هنا أننا اليوم وفي زحام الأحداث، وإذ نجد أنفسنا أمام اسمي "ميدان" كييف المركزي، و"دونباس" كأرضية للنزاع الأوكراني - الروسي، بل حتى الأوكراني - الأوكراني بالنظر إلى أن لوزنيتسا صور في هذا الفيلم وهو روائي كما أشرنا، دناءات وحماقات كل أطراف النزاع من أوكرانيين قوميين وغيرهم من انفصاليين اختاروا التبعية للروس، وروس أيضاً، حمل المسؤولية للجميع ودعا متفرجيه إلى شجب الحرب عموماً، معلناً أن كل حرب هي في نهاية الأمر مجزرة بصرف النظر عما إذا كانت حرباً عادلة أم لا، وأن الحرب قد نعرف كيف تبتدئ لكننا لا نعرف كيف ستنتهي، وهي التي مهما كانت هوية من سيربح فيها، وهي هوية لا شك أن تأملاً بسيطاً في موازين القوى سيجعلنا قادرين على التنبؤ بمن سينتصر فيها، لكننا نكاد نعرف سلفاً أن ما من منتصر حقيقي في نهاية الأمر.
لا شك في أن نظرة إلى ما يحدث اليوم بين روسيا وأوكرانيا، إنما عبر منظور سينما سيرغاي لوزنيتسا مختصرة في "ميدان" كما في "دونباس"، ستسهل علينا الوصول إلى ذلك الاستنتاج البديهي الذي يعبر عنه سينمائي لا شك في أن عواطفه واضحة في الوقوف إلى جانب وطنه، لكنه يعرف أن ليس ثمة نقاء حقيقي حتى لدى الذين ينطلقون في خوضهم المعركة من مقدمات محقة ومواقف نزيهة.
أين التاريخ الحقيقي؟
ولعل هذا يعيدنا إلى الدور الحقيقي الذي يمكن الفن أن يلعبه، ليس في مطاردة التاريخ والتوقف عند تفاصيله وتوجهاته، بل في استباق التاريخ من منطلق أخلاقي بل حتى من منطلق واقعي يعرف تماماً أن التاريخ الحقيقي، الذي يتعين على الفن أن يستقي منه، نابع من أن ليس ثمة تاريخ حقيقي بل طريقة أو أخرى في النظر إلى التاريخ.
ولعل المتن الفني لمبدع ما هو الأقدر عادة على أن يروي لنا التاريخ الحقيقي، ولوزنيتسا بلا شك، كما حال زملاء له، كما البوسني إمير كوستوريتسا أو اليوناني إنجلوبولوس وغيرهما من الذين اهتموا حقاً بتاريخ بلادهم ولو على طرقهم الخاصة التي لا تبالي بالروايات الرسمية أو حتى بما يصاغ في الأساطير الشعبية التي غالباً ما تكون خرافية نابعة من حماس شوفيني، حول التاريخ الذي يعيشونه أو عاشوه وبالتالي لا ينتمون بالضرورة إلى السياق الشعبوي للتاريخ الذي يروونه.
لوزنيتسا يمكنه أن يساعدنا في فهم ما يحدث أكثر كثيراً من كل ما يبث اليوم على الشاشات الصغيرة من أخبار وتعليقات قد تبدو اليوم مأساوية، لكنها لا شك ستبدو مثيرة للسخرية بعد حين.