ظلت مجموعات جريئة من الشباب والفتيات تتصدر الخطوط الأمامية للتظاهرات المطالبة بإسقاط نظام البشير إبان فعاليات ثورة ديسمبر (كانون الأول) السودانية، وشكلت في كثير من الأوقات خط دفاع متقدماً لمجموعات الثوار أثناء عمليات الهجوم ومحاولات التفريق والقمع.
لم يكن لتك المجموعات وقتها اسم ولا تنظيم، ولم تكن تتهم بالعنف أو أي من المخالفات المتجاوزة لمبدأ سلمية الثورة السودانية، بل انحصر دورها في اصطياد والتقاط عبوات الغاز المسيل للدموع، لكنها في الآونة الأخيرة أصبحت تتخذ أسماء وشعارات خاصة بها مثل "ملوك الاشتباك" و"غاضبون بلا حدود"، مما أثار كثيراً من الجدل حول هويتها، كما باتت محلاً للاتهام من قبل السلطات بإثارة العنف والتخريب، وهدفاً للاعتقالات والملاحقات من الأجهزة الأمنية.
صدارة التظاهرات
على الرغم من بدايتها كتجمع عفوي لحظي يتصدر المواكب والتظاهرات في مواجهة قوات الشرطة والأمن بالمتاريس، ويتطوع أفرادها برد عبوات الغاز المسيل للدموع وحصب مركبات الجنود بالحجارة والمولوتوف، لكن مع مرور الوقت صارت تلك المجموعات أكثر تنظيماً وترتيباً وانتشاراً، كما أصبحت لها أعلامها ولافتاتها وشاراتها الخاصة، ومن بينها "غاضبون جداً" و"ملوك الاشتباك"، مما لفت الأنظار إليها بصورة أكبر، وبدأت الأجهزة الأمنية تترصد تحركاتها وتتحرى وتجمع المعلومات عنها كأهداف تحت المراقبة المباشرة.
فما هي حكاية تلك المجموعات؟ وكيف نظمت نفسها؟ وهل هناك من يقف خلفها؟ وهل تقف تلك المجموعات فعلاً وراء إثارة العنف وسط التظاهرات والقيام بأعمال التخريب والقتل، في ظل لغز الفاعل الذي لا يزال مجهولاً، المسؤول عن حالات القتل المتكررة خلال المواكب السلمية؟
بحسب عبدالمنعم محمود، الناشط في لجان مقاومة ولاية الجزيرة والمقرب من تلك المجموعات، تكونت مجموعة "ملوك الاشتباكات" بشكل عفوي وبدأت نشاطها بين عامي (2014 – 2016)، خلال تصعيد الاحتجاجات المطالبة بسقوط نظام الرئيس المخلوع عمر البشير، واستمرت تنشط في المواكب حتى سقوطه في ديسمبر العام 2018.
ويضيف محمود، "تعمل تلك المجموعات لتحقيق غاية واحدة مشتركة وهي حماية المتظاهرين ومنحهم الفرصة للتراجع في حال الكر والفر بتأمين مقدم المواكب وإشغال القوات الأمنية"، وهي مهمات وصفها بالصعبة والمرهقة، بخاصة مع تصاعد حدة القمع والخطورة، إذ تعرض ما يقارب 10 من أفراد المجموعات إلى إصابات تسببت لهم في عاهات مستديمة وجرح كثير منهم.
توسع القواعد
ويستطرد، "مع مرور الأيام بدأت تلك المجموعة تجتذب كثيراً من الثوار وتوسعت قاعدتها بشكل ملحوظ عام 2019 خلال اعتصام القيادة، حيث تطوع كثير ممن لديهم الشجاعة والقدرة والجرأة على الوقوف على التروس (الحواجز) المنتشرة على طول دائرة مقر الاعتصام أمام القيادة".
ويواصل الناشط بمقاومة الجزيرة حديثه، "كانت حادثة فض الاعتصام منعطفاً حاداً في تطور مجموعة ملوك الاشتباك التي كسر أفرادها حاجز الخوف بعد الصدمة التي تعرضوا لها أثناء المجزرة التي وقعت، وزادتهم ترابطاً لكنها هزت ثقتهم في كل الكيانات السياسية حولهم، خصوصاً العسكريين، كما أصبحوا أشد عناداً وتمسكاً بمبادئ الثورة وبالقصاص للشهداء، وأن أكثر ما يؤلمهم عدم تحققه حتى اليوم".
ويلاحظ محمود أنه "كلما زاد قمع الأجهزة الأمنية للتظاهرات برز دور أكبر لمجموعات ملوك الاشتباك وزاد غضبهم، بخاصة بعد القمع المفرط في تظاهرات الـ 17 من يناير (كانون الثاني) الماضي، التي سقط فيها عدد كبير من الثوار وبعض القوات الأمنية، بعد منح مزيد من الصلاحيات للأجهزة الأمنية، سيما بعد مقتل قائد قوات الاحتياط المركزي بمنطقة الخرطوم".
ونفى الناشط في لجان المقاومة والمقرب من ملوك الاشتباك تلقيهم أي نوع من العون أو الدعم المادي من أي جهة كانت، داخلية أو خارجية، واصفاً ما يثار حول ذلك من شكوك واتهامات بالعنف، بـ "أنها حملات لتشويه صورة تلك المجموعات لإضعاف دورها والقضاء على زخم التظاهرات".
ملاحقة واعتقالات
في المقابل، ظلت الأجهزة الأمنية ترسل باستمرار إشارات بوجود طرف ثالث متهم بأعمال العنف والقتل، وبدأت تصوب نحو تلك المجموعات خصوصاً بعد حادثة مقتل العميد شرطة علي محمد حامد بريمة، التي رافقتها حملة واسعة من الاعتقالات شملت ناشطين في مدن عدة بالعاصمة والولايات، اعتقلت خلالها السلطات الأمنية عدداً من قيادات لجان المقاومة وبعضاً ممن يعتقد أنهم أعضاء في مجموعات "ملوك الاشتباك" و"غاضبون بلا حدود"، كما تم القبض على عدد من المشتبه فيهم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبثت الشرطة بيانات تشير إلى معلومات أدلى بها المشتبه فيه بحادثة مقتل ضابط الشرطة المتهم محمد آدم الملقب بـ "توباك" حول دور هذه المجموعات وضلوعها في أحداث العنف، وقالت "إن المتهم سجل اعترافاً قضائياً لكن هيئة الدفاع عن المتهمين في بلاغ مقتل العميد شرطة بريمة، بينهم (توباك)، كشفت عن تعرضه لتعذيب وحشي لإجباره على الاعتراف بجريمة لم يرتكبها".
وذكرت هيئة الدفاع في بيان لها "أن السلطات أعادت القبض على ثلاث نساء عقب إطلاقهن بشطب البلاغ، وتم فتح بلاغ آخر في مواجهتهن بالائتلاف الجنائي".
كذلك طالت الاتهامات بخصوص انتماء تلك المجموعات وتمويلها كلاً من الحزب الشيوعي وحزب المؤتمر السوداني المعارضيْن، وهو ما نفاه الأول على لسان عضو اللجنة المركزية للحزب صدقي كبلو من أن تكون لهم أي علاقة بمجموعات "غاضبون بلا حدود" و"ملوك الاشتباك" الناشطة في التظاهرات، مشيراً إلى "وجود طرف ثالث له مصلحة في إثارة العنف، لكنه يجد الحماية من الحكومة، وهو الذي يدمر الممتلكات العامة ويحرق أقسام الشرطة بغرض تدمير سلمية الثورة ودفع البلاد إلى دوامة العنف"، مطالباً السلطات بالبحث عن هذا الطرف وكشفه.
وأقر القيادي بحزب المؤتمر السوداني نور الدين بابكر بوجود تلك المجموعات، لكنه قال "إنها ليست جزءاً من الحزب أو حتى صنيعته، بل هي من الشباب الثوار الذين يستخدمون أدوات دفاعية في مواجهة القمع المفرط الذي تمارسه أجهزة الأمن".
ذريعة ضد الثورة
وأشار بابكر لـ "اندبندنت عربية" إلى "أن تركيز السلطات على تصنيف تلك المجموعات بأنها تثير العنف والتخريب ذريعة الهدف منها اتخاذها مدخلاً لتصفية الحراك الثوري وشل حركة الشارع من خلال حملة الاعتقالات والملاحقات التعسفية الواسعة التي لا تستهدف تلك المجموعات وحسب، بل كل الناشطين من لجان المقاومة من دون توجيه اتهامات لهم أو تقديمهم إلى محاكمات".
وأوضح القيادي بالمؤتمر السوداني أنه "من الصعب وجود حراك سلمي 100 في المئة، إذ لطالما هناك عنف مفرط من أحد الأطراف بينما الآخر يدافع عن نفسه"، مشيراً إلى "أن الحزب يؤمن بحق الجميع في التظاهر لكنه قد يختلف مع البعض في شأن طريقة التعبير".
على الصعيد ذاته، يقول المحامي والقيادي بقوى الحرية والتغيير المعز حضرة إن "كل الشعب السوداني يدرك أن تلك المجموعات ثوار شديدو الإيمان بالثورة ومبادئها، لذلك ظلت السلطات الأمنية تلاحقهم بالاعتقالات وتعمل جاهدة للنيل من سمعتهم بغرض تشويه الصورة السلمية للثورة"، وأشار إلى أن "جهاز الأمن منذ عودة صلاحياته في القبض والاعتقال يشن حملات متواصلة تستهدف كل الناشطين من تلك المجموعات ولجان المقاومة، مما يعتبر انتهاكاً صارخاً لحقوق الإنسان، بخاصة أن الاعتقالات تتم من دون علم أسرهم وأهلهم، وتدفع بهم مباشرة إلى المعتقلات".
وأضاف، "المئات من المحامين الوطنيين يلتفون حول هيئة الدفاع الرباعية التي تتولى الدفاع عن محمد آدم والمتهمين الآخرين معه في قضية مقتل ضابط الشرطة، وذلك بعد أن اعتقلته السلطات من داخل أحد المستشفيات الخرطوم إثر إصابته في تظاهرات 13 يناير الماضي".
كشف المتورطين
وأعلن رئيس مجلس السيادة الانتقالي الفريق أول ركن عبدالفتاح البرهان القبض على المتهمين بقتل المتظاهرين، وأن لجان التحقيق في أحداث التظاهرات شارفت على الانتهاء من عملها، وكشف في حوار مع تلفزيون السودان أمس السبت عن توصل الأجهزة الأمنية إلى معلومات مهمة في شأن المتورطين، وسيتم الكشف عن نتائج التحقيق قريباً، متعهداً بمحاسبة جميع المتورطين سواء كانت جهات نظامية أم مدنية.
وطالب رئيس مجلس السيادة الانتقالي الجميع بمعاونة الأجهزة الأمنية من أجل الوصول إلى كل الجهات التي تتاجر بالقتل والأحزان، معرباً عن أسفه لسقوط ضحايا وجرحى.