Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

بوتين ومؤتمراته الصحافية والضرائب على "أصحاب اللحى والشوارب"

الرئيس الروسي يستعيد تاريخ بطرس الأعظم ومتابعوه يتذكرون نصيحته للصحافي الفرنسي بشأن "الختان"

دائماً ما يستشهد بوتين بما يزخر به قاموس بلاده من تعبيرات وأقوال مأثورة يصعب فهمها لغير الملم بتاريخ وثقافة روسيا (أ ف ب)

المتابع للمؤتمرات الصحافية السنوية للرئيس فلاديمير بوتين، التي عقد منها 17 مؤتمراً منذ أولى سنوات ولايته الأولى في مطلع القرن الجاري، يستطيع تحديد الحالة المزاجية للرئيس، على الرغم من كل ما تراكم لديه من تجارب وخبرات اكتسبها خلال تدريباته في المدرسة العليا لجهاز المخابرات الروسية، ثم عمله كضابط عمليات محترف في أجهزة "كي جي بي" تحت اسم "بلاتوف".

وما نقصده بالحالة المزاجية هنا يتعلق باختياره لمفرداته، وما يختاره من أقوال مأثورة وأمثال عامية روسية عميقة المضمون، بعيدة المغزى، والدلالات، في معرض ردوده على أسئلة المراسلين الصحافيين الأجانب، لا سيما الغربيين منهم ممن يتبنون مواقف بلدانهم المعادية في معظم جوانبها لروسيا، وقياداتها السياسية والعسكرية.

تعبيرات غير مألوفة

ولعلنا جميعا نذكر أول لقاء له مع كبار القيادات العسكرية الروسية في الشيشان، ثم مع الصحافيين في مستهل زيارته الأولى للشيشان قبيل نهاية عام 1999، وكان آنذاك رئيساً للحكومة الروسية تمهيداً لتقلده منصب رئيس الدولة خلفاً للرئيس السابق بوريس يلتسين. آنذاك أعلن بوتين عن وعيده وتهديده للمقاتلين الإرهابيين الشيشان بتعقبهم أينما كانوا "حتى في المراحيض"، على حد تعبيره آنذاك.

ومنذ ذلك الحين، بدأ المهتمون في الشأن الروسي في متابعة ورصد كثير مما يصدر عن الرئيس بوتين من "تعبيرات غير مألوفة" أو اقتباسات عميقة المضمون، بالغة الدلالة تنم عن معرفة جيدة بتاريخ الوطن والعالم، وثقافة موسوعية يغترف منها ما يتناسب مع الموقف وضرورات اللحظة.

وقد جاء المؤتمر الصحافي السنوي الأخير للرئيس بوتين، ليؤكد مجدداً أن "الطبع يغلب التطبع". فما أن كشفت مراسلة "سكاي نيوز" البريطانية عن سؤالها، الذي تساءلت فيه عن الضمانات الأمنية التي يمكن أن تقدمها روسيا لتهدئة روع خصومها في الغرب، حتى انفجر بوتين ليقول "إنكم أنتم المطالبون بتقديم الضمانات الأمنية. أنتم وليس نحن، الآن وفوراً!".

"خدعنا الناتو"

ولم يتوقف الرئيس بوتين ليواصل دحضه الاتهامات التي لا تتوقف في حق بلاده. استطرد ليقول، "لقد خدعنا الناتو وبوقاحة. وعد بأنه لن يتقدم عن حدوده السابقة شبراً واحداً، لكنه لم يفِ بوعوده". هكذا حمل بوتين على الناتو، مشيراً إلى الموجات الخمس التي توالت الواحدة تلو الأخرى لضم بلدان شرق أوروبا، التي كانت تشكل حتى نهاية ثمانينيات القرن الماضي حلف وارسو، ولم يمض من الزمن كثير، حتى أعقبها بضم بلدان البلطيق الثلاثة، من بلدان الفضاء السوفياتي السابق. وها هو يمضي قُدُماً في محاولاته الرامية إلى ضم كل من أوكرانيا وجورجيا.

هنا تشخص روسيا بكل قامتها لتعرب بكل القوة على لسان زعيمها فلاديمير بوتين عما حددته من "خطوط حمراء" كان يعنيها بوتين بقوله، "نحن الذين نطالب الغرب بتقديم الضمانات "الآن وفوراً". وكشف الرئيس بوتين عن أنه فاتح نظيره الأميركي جو بايدن في حديثهما التليفوني الأخير في هذا الأمر، وهو ما اتفقا حول بحثه في وقت لاحق في مطلع العام المقبل في جنيف.

وبهذه المناسبة، لم تكن هذه المرة هي الوحيدة التي يحتد فيها الرئيس بوتين على المراسلين الغربيين. فقد سبق واحتد على مراسلة ألمانية طرحت قضايا مماثلة ليجيبها، وكأنها المسؤولة عما يشوب علاقات بلادها مع روسيا من توتر.

وهنا نستشف ما يمكن أن يكون أقرب إلى الواقع والحقيقة، حيث كثيراً ما ينطق هؤلاء المراسلون بما تتسم به مواقف بلادهم من عداء أو توتر تجاه روسيا.

بوتين في مواجهة مع الصحافيين

ونذكر أن الرئيس بوتين واجه خلال أحد لقاءاته الصحافية المتعددة في موسكو، فلاديمير كوليستيكوف، الرئيس السابق لقناة تليفزيون "أن تي في"، بأنه سبق وعمل لسنوات طويلة في إذاعة "ليبرتى" المعروفة بتوجهاتها المعادية للاتحاد السوفياتي ثم روسيا، وبما تقدمه من مواد إعلامية تحريضية، فيما يشغل اليوم منصباً قيادياً في قناة تلفزيونية وطنية روسية، ما أربك الصحافي الروسي على وقع تعليق لزميل له يقول فيه "إن ذلك كان نقطة سوداء في تاريخه".

ونذكر أن الرئيس بوتين سارع آنذاك ليقول بسماحة "مفتعلة"، "إنه ليس مهماً أن تكون النقطة سوداء أو بيضاء، بل المهم أنه كان يعمل هناك في الوقت الذي كانت فيه هذه الإذاعة حين بدأ عمله في (كي جي بي)، تعد واحدة من وحدات المخابرات المركزية الأميركية، وكانت تمارس عملياً تجنيد العملاء في الاتحاد السوفياتي السابق".

وتحضرنا في هذا الصدد أيضاً واقعة أخرى طالما تندر بها وتناقلها كثيرون في مقتبل سنوات الولاية الأولى للرئيس بوتين. كان ذلك في بروكسل خلال المؤتمر الصحافي الذي أعقب اجتماع قمة "روسيا وبلدان الاتحاد الأوروبي" في عام 2002، أي مع نهاية الحرب الشيشانية الثانية في أعقاب غزو المقاتلين الإرهابيين الشيشان لداغستان المجاورة.

آنذاك، سأل صحافي فرنسي، كان مراسلاً لصحيفة "لوموند" على ما أذكر، الرئيس بوتين في صيغة تحمل في مضمونها اتهام السلطات الروسية باستخدام أسلحة محرمة دولياً ضد المدنيين وليس فقط الإرهابيين في الشيشان. آنذاك انفجر بوتين أيضاً ليداهم الصحافي الفرنسي بسلسلة من التصريحات التي تدين "المتطرفين الإسلاميين"، ممن يريدون انفصال الشيشان من منظور خطة بعيدة المدى تستهدف أن تلحق روسيا بمصير الاتحاد السوفياتي السابق.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وقال ما نصه، "إذا كنت مسيحياً، فأنت في خطر. وإذا قررت أن تصبح مسلماً، فلن يكون ذلك ملاذاً لك، لأنهم يعتقدون أن الإسلام التقليدي هو أيضاً معاد للأهداف التي حددوها لأنفسهم". وبعد برهة من الصمت لم تطل كثيراً أضاف بوتين، "عموماً. إذا أردت أن تنضم إليهم وتريد أن تصبح متطرفاً إسلامياً ومستعداً لقبول (الطهارة)، فأنا أدعوك إلى موسكو. ونحن بلد متعدد الطوائف والأديان، ولدينا خبراء في إجراء الختان (الطهارة). وحتى للدرجة التي لن ينمو بعدها لديك شيء".

ومما قيل تعليقاً على ذلك، إن المترجم كان في حيرة من أمره أمام نقل مثل هذه التعبيرات، كما أن الموقع الرسمي للكرملين لم ينشر النص الكامل لذلك المؤتمر الصحافي، كما قيل آنذاك.

ولعل ذلك يمكن أن يعيدنا إلى ما لم يلتفت إليه كثيرون من متابعي المؤتمر الصحافي السنوي الأخير للرئيس الروسي، الذي عاد فيه بوتين إلى هواية الاستشهاد بما يزخر به قاموس بلاده من تعبيرات وأقوال مأثورة يصعب فهمها أو تدارك معانيها لغير الملم بتاريخ وثقافة هذه البلاد المترامية الأطراف، المتعددة الأعراق والطوائف، وتحتل مساحة تقترب من سدس مساحة الكرة الأرضية.

قال بوتين في معرض استعراضه سياسات بلاده وتوضيح مواقفها في ما يتعلق بتصدير الغاز إلى أوروبا، "لا صحة للاتهامات الموجهة إلى شركة (غازبروم)، وما يتردد من مزاعم تقول بتقصيرها في تزويد أوروبا بما تحتاجه من غاز". قال بوتين بكل الوضوح والصراحة "إنهم يكذبون".

وبعد استعراض لمختلف جوانب الموقف بكل أطيافه، خلص الرئيس الروسي إلى القول "قلنا للمفوضية الأوروبية: لا تدمروا العقود الطويلة الأمد. أجابونا: السوق ستنظم كل شيء. نحتاج إلى التحول إلى علاقات السوق، وسوف تنظم السوق كل ما يتعلق بذلك من تفاصيل. وها هي السوق تقفز بالأسعار حتى ما يزيد على 2000 دولار لكل ألف متر مكعب (بدلاً من 160 - 250 بموجب الأسعار السابقة). فإذا كان الأمر كذلك، تفضل. عليك بالحلاقة"!

ولعلني أكاد أكون قريباً من تأكيد أن كثيرين من حضور المؤتمر ومتابعيه عبر الشاشات التلفزيونية لم يلتفتوا إلى مثل هذا التعبير. وذلك ما أعادنا إلى أضابير الوثائق التاريخية، بحثاً عما كان يقصده بوتين. وكانت المفاجأة في ما وراء مثل هذا التعبير.

"حلاقة اللحى" مثار جدل

تقول الوثائق الروسية، إن التاريخ يعيدنا إلى عصر بطرس الأكبر مؤسس روسيا الحديثة مع مطلع القرن الثامن عشر. ففي 16 يناير (كانون الثاني) 1705 أصدر قيصر روسيا بطرس الأول أو الأكبر كما يسمونه مرسوماً ينص على أنه: "من الآن فصاعداً وبموجب الأمر الصادر عن حاكم البلاد العظيم يتوجب على كل مواطن (حلاقة اللحية والشارب)، ولا يستثنى من ذلك إلا الكهنة والشمامسة".

وعلى الرغم مما كان يتسم به هذا المرسوم من تناقض مع مرسوم سبق وأصدره والد بطرس الأول القيصر الكسي ميخائيلوفيتش حول "حظر قص شعر الرأس....."، انقلبت الأوضاع ليصبح ما كان ممنوعاً بالأمس، أمراً واجباً اليوم! كما قيل آنذاك.

لكن ذلك لم يكن القول الفصل، حيث من الممكن تجاوزه في إطار القول الروسي المأثور الذي يتردد حتى اليوم بين جنبات روسيا: "القانون كما عامود النور. لا يمكن القفز من فوقه، لكن يمكن تجاوزه بالالتفاف من حوله".

ومن هذا المنظور أصدر بطرس الأكبر مرسوماً آخر ينص على فرض ضريبة يدفعها كل من لا يريد التخلي عن لحيته. وأشارت التعليمات الصادرة في هذا الشأن عن أن الضريبة يمكن أن تتراوح بين 30 - 100 روبل سنوياً، وتتحدد قيمتها بموجب ما يشغله صاحبها من مواقع ومناصب في الجهاز الحكومي للدولة. كما تقرر أيضاً صرف علامة مميزة يعلقها صاحب اللحية على سترته إعلاناً عن أنه دفع الضريبة التي تجيز له حق إطلاق لحيته. ولم يمض من الزمن كثير، حتى تقرر تخفيض قيمة هذا الضريبة حتى خمسين روبلاً سنوياً، اعتباراً من 6 أبريل (نيسان) 1722.

وبهذه المناسبة أيضاً ظلت "حلاقة اللحى" مثار جدل لم يتوقف على مدى قرون عدة حتى مطلع القرن العشرين. وتقول الوثائق، إن الحرب مع الملتحين استمرت إلى ما بعد وفاة بطرس. وكانت قيصر روسيا يكاتيرينا الأولى، على سبيل المثال، قد أصدرت مرسوماً خاصاً بشأن الضباط المتقاعدين والعسكريين. أمرتهم "بارتداء الزي الألماني والتمسك بحمل السيوف، وحلق اللحى، وإذا لم يكن في القرى مثل هؤلاء الأشخاص الذين يعرفون كيفية الحلاقة، فسيتعين عليهم تقليم اللحى بالمقص مرتين في الأسبوع، وأن يحافظ كل منهم على نظافته، مثل ما كانت عليه الحال إبان سنوات خدمته في الأفواج". ونص المرسوم على "أسباب مشروعة" يكمن أن تكون مبرراً للعفو عمن "أهمل لحيته"، ومنها "المرض أو الاعتقال".

ويبقى أن نشير إلى أن ما استنه الجهاز الصحافي للكرملين من تقاليد خلال المؤتمرات الصحافية السنوية للرئيس بوتين السنوات الأخيرة يظل مثار جدل يحتدم بين صفوف ممثلي الصحافة المحلية والأجنبية في موسكو، لا سيما ما يتعلق منها بـ "رفع اللافتات والشعارات" التي يمكن أن تشير إلى هوية الصحافي أو الموضوع الذي يريد أن يسأل عنه أو الجهة التي جاء منها، لتكون عوناً للسكرتير الصحافي للرئيس، أو للرئيس في تحديد من يختاره لإلقاء سؤاله أو طرح ما يريد من موضوعات.

وعلى الرغم من وجاهة مثل هذه التفسيرات، فإن هناك كثيرين ممن يعتبرون ذلك "أمراً غير لائق" بكبار الصحافيين وشيوخ المهنة، ممن عاصروا عهوداً كان المتحدث الرسمي باسم الرئيس يعرفهم وينزل إليهم لمعرفة ما يمكن أن يطرحوه من أسئلة، إذا لم يكن الجهاز الصحافي قد اتصل بهم تليفونياً، لاستيضاح مثل هذه الموضوعات قبيل انعقاد المؤتمر بوقت كاف.

مجرد ملاحظة أرجو أن لا تثير ضغينة أو تكون سبباً في اتخاذ موقف من جانب من بيده "آليات الحظر والمنع"، قد يحول لاحقاً دون تمتعنا بحقوقنا المهنية في فضاء روسيا الاتحادية.

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير