Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

النظام الإيراني والخوف من عودة حوزة قم

"يخشى خسارة الخطاب الديني الذي يستخدمه لتأكيد سلطته واستمراريته في وجه المعترضين"

سمحت السلطة السياسية في طهران التي تمسك بها المؤسسة الدينية للقوى المؤيدة لها بحرية التهجم على المرجعيات المعترضة (أ ف ب)

عندما عاد الزعيم الديني للثورة الإيرانية من منفاه الباريسي في فبراير (شباط) عام 1979، وبعد مرحلة انتقالية في العاصمة طهران، اختار الذهاب إلى مدينة قم التي تضم الحوزة العملية الدينية التي شهدت انطلاقة حركته الاعتراضية ضد النظام الملكي وأُخرج منها في عام 1965 إلى تركيا، ولاحقاً إلى النجف العراقية وحوزتها العلمية.
خيار السيد الخميني هذا، أتى من منطلق أنه قاد عملية الإطاحة بالنظام الملكي، وأن المهمة انتهت والمرحلة المقبلة لبناء النظام الجديد، من دون أن يتخلى عن دوره الرعائي، مع محاولة الحرص على عدم التدخل مباشرة. إلا أن الأمر لم يطل كثيراً، ليتراجع عن هذا القرار وبذرائع مختلفة، لكن الأساس فيها كان الحرص على عدم خروج النظام الجديد و"ثورته الإسلامية" ووقوعها في أيدي أطراف أو جهات علمانية أو ليبرالية على خلاف مع المؤسسة الدينية وضد أي دور لها في السلطة والدولة والنظام. لذلك جاء قرار الانتقال إلى العاصمة طهران، ليكون قريباً من كواليس ما يدور في أروقة مراكز القرار والصراعات بين الأطراف والأحزاب والأجنحة، ويكون قادراً على الموازنة بين ضرورة وجود الدولة وتجربة القوى الليبرالية والمدنية في إدارة المؤسسات، وطموحات المؤسسة الدينية للاستحواذ على مجريات الأمور.
ويبدو أن "المؤسس" كان جاداً في موقفه بإقامة دولة منفتحة تحتضن جميع التيارات الإسلامية، التقليدية والحداثوية والليبرالية، وحتى بعض القوى العلمانية التي لا تعلن موقفاً حاداً أو رافضاً أو عدائياً للإسلام السياسي، لذلك حرص في البداية على إنجاح تجربة الحكومة المؤقتة بقيادة مهدي بارزكان، ومن ثم تجربة الرئيس أبو الحسن بني صدر. إلا أن حدة الصراع بين الحكومة المؤقتة التي تمثل الإسلام الليبرالي وبني صدر الذي دخل في مواجهة مفتوحة مع المؤسسة الدينية من جهة، وطموحاتها في الدخول إلى السلطة والمشاركة في القرار من جهة أخرى، لم تترك أمام الخميني خياراً سوى تبني موقف الاتجاه الديني الثوري والمؤسسة الدينية التي تعتبر نفسها جزءاً من الرؤية السلطوية للإسلام السياسي وإقامة الدولة أو الحكومة الإسلامية، فأُطيح ببازركان وحكومته، ولاحقاً أُسقط بني صدر وجرت ملاحقته بتهمة الخيانة وأُجبر على الهرب إلى الخارج.

ويمكن القول، إن ضرورات السلطة والحفاظ عليها وإبقاءها في دائرة الاطمئنان تحت رعاية ومشاركة المؤسسة الدينية، فرضت نفسها على الخميني، وبالتالي فُتح الباب لإقامة نظام إسلامي محكَم، خصوصاً بعد موافقته على تعديل المسودة الأولى للدستور وإدخال المادة التي تتحدث عن "الولي الفقيه" وسلطاته التي لم تكن "مطلقة" في تلك المرحلة وحتى عام 1988، وثم تحولها إلى "مطلقة" نتيجة الاستفتاء على التعديل الوحيد للدستور.
هذا التحول في موقف وتعاطي المؤسس مع التطورات السياسية للثورة ونظامها لم يقتصر على الجانب المدني ومؤسسة الدولة، بل تعداهما ليشمل المؤسسة الدينية وحوزتها العلمية في مدينة قم التي تُعتبر مقر إقامة المرجعيات الدينية والمذهبية في إيران، وكانت تطمح إلى لعب دور على مستوى العالمية الإسلامية لدى أبناء المذهب الشيعي، مستفيدة من الحصار والتغييب المفروض على "الحوزة الأم" في مدينة النجف العراقية نتيجة سياسات نظام البعث وصدام حسين. لذلك لم يكن مسموحاً أو مقبولاً لأي من المرجعيات أن تعلن موقفاً فيه تعارض مع موقف "الولي الفقيه" وزعيم الثورة والنظام في طهران. ولعل تجربة السيد كاظم شريعتمداري والتعامل مع موافقه الاعتراضية والانتقادية، والتي انتهت باتهامه بالعمالة وتجريده من مرجعيته، شكلت مؤشراً على هذه السياسة. أُضيف إليها الموقف الحاد من الشيخ حسين علي منتظري الذي كان يشغل موقع نائب الولي الفقيه وخليفته، والذي تعرض لحملة تشكيك في التزامه الثوري وإخلاصه للنظام الإسلامي وولائه للزعيم المؤسس، وأُعلنت عدم أهليته لشغل منصب خليفة القائد على رأس النظام نتيجة اعتراضه على بعض السياسات والممارسات التي كانت تصدر عن القيادات التي تتولى مسؤولية القرار التنفيذي سواء في رئاسة الجمهورية والبرلمان والقضاء، أو مؤسسة حرس الثورة والأجهزة الأمنية، التي اعتبرت أن صوت منتظري يُعد خرقاً في جدار السلطة والنظام، فكان القرار بإبعاده وإخراجه وعزله من موقعه ومحاصرته بموافقة الخيمني.
انتقال المؤسس إلى العاصمة طهران، مركز القرار والإدارة السياسية للدولة والنظام، شكل المنطلق الذي حكم العلاقة بين ضرورات النظام وموقع الحوزة العلمية الدينية التي تمثل الحاضن للمؤسسة الدينية التي استوت لها الأمور وأمسكت بالسلطة وأقامت الدولة والحكومة التي تلبي طموحاته.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

إلا أن هذه العلاقة دخلت في منعطف مفصلي ومنهجي، فرض الافتراق بين هذه الحوزة والسلطة التي تمسك بها المؤسسة الدينية، ما استدعى موفقاً حازماً من السلطة الإسلاموية بأن تضع حدوداً وضوابط لدور هذه الحوزة وحدود تدخلها في شؤون السلطة، التي لم تجد صعوبة في إبعاد الحوزة وما تمثله عن التأثير في مسارات الحكم والقرارات، بناء على التراكم الذي قام به المؤسس ومهد الطريق أمام خليفته لتعزيز هذا الفصل، بحيث تحولت الحوزة من صوت مستقل، إلى صدى لمؤسسة السلطة، وداعماً ومؤيداً لمواقفها وقراراتها، في حين أن الأصوات المعترضة من المرجعيات التي تملك رؤية أو موقفاً متبايناً مع موقف السلطة، التزمت الصمت والسكوت، حتى لا تكون عرضة لحملات تشويه ومحاصرة كما حصل مع زملاء لها في السابق، لم يشفع لهم موقعهم الديني والعملي والحوزوي الذي كان لهم. وأسسس ذلك لنوع من أنواع استتباع الحوزة الدينية، من قبل مؤسسة السلطة التي تعاملت معها انطلاقاً من توظيفها وتحريكها عند الحاجة، من خلال بناء مرجعيات سلطوية مهمتها توفير الغطاء الديني للسلطة والتصدي في ذات الوقت للمرجعيات التي تتعارض معها وتحاول التأكيد على الصوت المستقل للحوزة الدينية تاريخياً خارج السلطة ومؤسساتها.
في المقابل، فإن السلطة السياسية التي تمسك بها المؤسسة الدينية سمحت للتيار المؤيد لها بحرية النيل والتهجم على المرجعيات المعترضة أو التي تملك صوتاً وموقفاً مختلفاً عن موقف "الولي الفقيه" من دون الخوف من التعرض للعقاب أو التأنيب، في حين كانت الأصوات السياسية المعارضة لسلطة المؤسسة الدينية التي تُصنَّف في إطار التيار الاصلاحي والمدني تتعرض لأشد العقوبات والاتهامات عند انتقاد المؤسسة الدينية أو محاولة تحريك الحوزة الدينية لإعلان موقف ما من آليات الحكم، حتى تعرضت المرجعيات المحسوبة على الإصلاحيين للاتهام والمحاصرة والإسقاط.
من هنا يمكن فهم الموقف الانتقادي والهجوم الذي تعرض له أحد أبرز مرجعيات الحوزة الدينية في مدينة قم وهو آية الله صافي كلبيكاني، الذي تجرأ على دعوة الدولة والسلطة في طهران إلى بناء علاقات منفتحة مع دول العالم، وقال خلال استقباله رئيس البرلمان محمد باقر قاليباف، إن الغلاء بات يثقل كاهل المواطنين وإن الاستمرار في العلاقات غير السليمة مع العديد من الدول لا يصب في صالح الشعب، مؤكداً ضرورة أن تعيد السلطة النظر في هذا الأمر وتعمد إلى بناء علاقات متوازنة مع جميع الدول بما يحفظ مصالح إيران وشعبها. وهو كلام اعتبرت أوساط تابعة لمؤسسة النظام والسلطة أن هدفه النيل من النظام وقيادته من باب توجيه الانتقاد لسياساتهم. ووصل الأمر إلى اتهام كلبيكاني "بالكذب العظيم" واستغلال الأزمة لركوب الموجة الاعتراضية على الأوضاع الاقتصادية التي تعاني منها البلاد.
يُشار إلى أن التطاول على أحد مراجع الحوزة الدينية الذي لم تشفع له المواقع التي شغلها داخل منظومة الحكم عندما تولى رئاسة مجلس خبراء الدستور في زمن الخميني، السبب فيه لا يقف عند رفع صوته اعتراضاً على المعاناة الناتجة عن سياسة العلاقات مع العالم، بل يصدر عن خلفية تتجاوز هذا الأمر، ليعبر عن خوف النظام وقيادته من إمكانية عودة الحوزة الدينية إلى لعب دورها التاريخي والتفلت من سيطرة السلطة واستعادة سلطتها الشعبية بعيداً عن النظام الذي حاول تدجينها وإخضاعها خدمة لسياساته وأهدافه. وإذا ما حدث ذلك، فإنه يؤسس لمرحلة جديدة قد تسحب شرعية النظام الدينية التي توفرها الحوزة. وفقدان هذه الشرعية يضع النظام أمام خطر خسارته للخطاب الديني الذي يُعتبر السلاح الذي يستخدمه لتأكيد سلطته واستمراريته في وجه الأصوات المعترضة.

المزيد من تحلیل