Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

حكاية العمارة والسوق والمجتمع في "الجابية" اليمنية

ظلت المنطقة بتجربتها محط اهتمام الدارسين والرحالة منذ الانتداب البريطاني

ليس بعيداً عن مدينة عتق مركز محافظة شبوة جنوب اليمن، تقف بلدة الجابية كتحفة طينية رائعة، على قاعدة صلبة من التراث المعماري، وتمتلك تاريخاً ناصعاً لواحد من أهم الأسواق التجارية فيما يعرف قديماً بـ"محميات الجنوب العربي" في فترة الانتداب البريطاني لأقصى جنوب شبه الجزيرة العربية.

الجابية هي إحدى المناطق التي ذكرت في القرن السابع قبل الميلاد في نقش النصر للملك السبئي "كرب آيل وتر"، عندما اجتاح مملكة أوسان وبعض أودية المشرق إلى جانب منطقة نوخان التي ذُكرت في نقش عبدان الشهير لدى الباحثين في الشأن التاريخي اليمني.

آثار في مهب الريح

ويعدها الباحث ناصر صالح حبتور من المحطات التجارية التي تمر بها القوافل التجارية بعد خروجها من حبان والضلعة، حيث تعتبر "منطقة عبور للقوافل التجارية القادمة من ميناء قنا باتجاه حواضر المفازة والممالك القديمة، وازدهرت التجارة في مملكة حضرموت ما بين القرن الرابع قبل الميلاد والقرن الأول قبل الميلاد، وأيضاً في الفترة من القرن الأول الميلادي وحتى القرن الثالث الميلادي، وكانت الحاضنة جزءاً من تلك المملكة القديمة".

 

دفعتنا هذه المعلومات لزيارة الموقع المذكور لدى المؤرخين، لكن لم نجد أياً من آثارها القديمة المنتمية لتاريخ ما قبل الميلاد، وربما يعود ذلك بحسب محمد السدلة، الباحث في التاريخ إلى البناء الحديث للمنطقة فوق المآثر القديمة التي قد تكون طُمست نتيجة لما أقيم على أنقاضها.

وفي التاريخ الحديث والمعاصر كانت الجابية محل اهتمام ودراسة منذ الرحالة الغربيين الذين زاروها في القرن العشرين، إذ مر بها الرحالة البريطاني الشهير ساري هانت جون فيلبي في العام 1936، وقال عنها "أما السوق أو قرية الجابية، فتقع على مسافة خمسة أميال من كرش على الجانب الأقرب من مرتفعات القليعة"، وفي العام 1938 وصلها الضابط البريطاني هاملتون قادماً من مدينة شبوة، وأبهره عمرانها وطريقة البناء للبيوت، وذكر أن بها ما يقارب من مئة بيت معظمها من ثلاثة طوابق، وتحميها خمسة حصون طويلة مبنية من لبن الطين، كما ذكر أن بها بئراً للمياه.

النمط المعماري  

الجابية تحفة معمارية غاية في الجمال والإبداع، فمعظم مبانيها أبراج طينية من الحصون والقصور التي شكلت لوحة فنية يزيد عمرها على 300 عام، وعلى الرغم من ظروف التعرية طوال السنين التي مضت، فإنها ظلت عامدة وصامدة.

ويستعرض محمد السدلة العديد من خصائص ومميزات النمط المعماري الموجود في الجابية قائلاً "تكاد تكون المميزات المعمارية الموجودة في الجابية متوفرة في عدد من مناطق محافظة شبوة، إلا أن الجابية تتربع على عرش عمارة الطين وفنونها"، ومن أهم مميزاتها وأشكالها "(النوب) وهي التي تقوم مقام الأبراج والقلاع، وتكون في أعلى الحصن للمراقبة وتعطي الحصن منظراً جمالياً، بالإضافة إلى جزء في المبنى يسمى (المرادي) وهي عبارة عن شرفة في أعلى طابق من المنزل أو الحصن وتكون مطلة على السدة أو البوابة الرئيسة للمنزل".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

أما "البواشير" فهي بحسب السدلة "أعمدة مدببة بأشكال هندسية تقع في أعلى المنزل، وهي ذات دلالة ومعانٍ اعتبارية لدى القديمين، وتدل على المنعة في بيوت الجابية".

وعلاوة على ما ذكر، تتميز مباني الجابية الطينية من داخلها بالعديد من الزخارف الجمالية سواءً على الأعمدة الخشبية، أو على الجدران من الداخل.

غياب الاهتمام

ويرى السدلة أن "اهتمام الدولة اليمنية بالمدن والمناطق التاريخية ليس على ما يرام، فالرؤية الاستراتيجية الوطنية للحفاظ على المدن التاريخية غائبة تماماً، باستثناء تلك المدن التي ضمت إلى قائمة التراث العالمي مثل شبام وزبيد وصنعاء"، مناشداً الجهات ذات العلاقة بإبداء الاهتمام بمنطقة الجابية وعدد آخر من مناطق محافظة شبوة، لما تمتلكه من "عمارة طينية رائعة وتاريخ وتراث إنساني عظيم، من خلال العمل على ترميم المعالم التاريخية وتوفير البنى التحتية للمدن من الرصف والإنارة ومشاريع الصرف الصحي، والترويج لها دولياً لدى المنظمة الدولية للعلوم والثقافة والتربية (يونسكو)"، مؤكداً أهمية أن تكون حبّان والجابية في شبوة على رأس الاهتمام الحكومي والدولي للحفاظ على الموروث الإنساني في المحافظة.

اليهود والتجارة في الجابية

ويشير الباحث السدلة إلى أنه في النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي، ازدهر النشاط التجاري لميناء عدن بسبب الموقع المتميز لهذا الميناء الذي يربط بين الشرق والغرب، وشهدت عدن "هجرات متتالية لليهود القادمين من مواني البحر الأبيض المتوسط للاستقرار فيها، واتخاذها مركزاً لنشاطهم التجاري، وقد توزعوا في مدن متفرقة من جنوب اليمن منها حبان والجابية، فسكنت فيهما عدد من الأسر اليهودية، تراوحت ما بين 40 و60 أسرة تقريباً، اشتغلت بصياغة الحلي وصناعة الأسلحة البيضاء وأعمال الحدادة وصناعة الأدوات الزراعية وأعمال البناء والتجارة والزراعة".

ويذكر محسن بن جوهر، وهو أحد المسنين في البلدة الذي يعرف كثيراً من تاريخها خلال القرن الماضي، أن الجابية "عُرفت بسوقها التجارية الرسمية لمناطق قبائل خليفة والعوالق والسلطنات والإمارات المجاورة لها في فترة ما قبل استقلال الجنوب العربي عن بريطانيا، قبل أن تنتقل السوق لاحقاً إلى عتق مركز محافظة شبوة حالياً".

وأضاف "كانت البضائع التجارية من الحبوب والأسلحة والأقمشة وسمك اللخم تصل إلى هذه السوق قادمة من ميناء بلحاف وأسواق حوطة الفقيه علي وحضرموت وبيحان ومأرب وعدن، واستطاعت قبيلة آل الصوة في الجابية تنظيم هذه السوق وحمايتها ووضع القوانين التجارية فيها".

وقال حول نشاط اليهود في المدينة "مارس اليهود هذه الأعمال في حرية تامة، وكانت الجابية سوقاً قبل مدينة عتق مطلع القرن العشرين تباع فيها الحبوب والأقمشة والأسلحة، وفتحت مجموعة من الدكاكين في أجزاء أو ملاحق تابعة لبعض المنازل يباع فيها ما يحتاجه المواطن، ولعب اليهود دوراً مهماً فيها".

سلام وتعايش

وقال ابن جوهر عن الطائفة اليهودية التي كانت تعيش في الجابية "كانت عدد من الأسر اليهودية تسكن الجابية، وعاشوا مع جيرانهم العرب المسلمين في وئام وتعاون، وتبادلوا السلع والمنتجات، ومعظم المهن التي كانوا يعملون عليها هي صياغة الفضة والحُلي والجنابي والسيوف والتجارة".

ويختم حديثه عن رحلة اليهود في المنطقة "رحل أبناء الطائفة عن الجابية في 1948 في عملية بساط الريح الشهيرة عبر ميناء بلحاف إلى عدن، ومنها تم نقلهم إلى إسرائيل، ومع ذلك لم تتعرض مبانيهم في الجابية لأي سطو أو أذى، كما أن مقبرتهم موجودة إلى الآن دون أن تتعرض لأي مكروه".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة