Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

لماذا رسم الإسباني فرانشيسكو غويا لوحة "المايا" مرتين؟

السيدة المجهولة التي أوصلت الفنان إلى محاكم التفتيش

"دوقة آلبا بالسواد" (غيتي)

نادراً ما تبتسم النساء اللواتي رسمهن الفنان الإسباني الكبير فرانشيسكو غويا (1746– 1828) في لوحاته، سواء كانت بورتريهات أم لوحات تاريخية أم تحمل أي مناظر. كن نساء لا يبتسمن أبداً، فإن فعلت واحدة منهن لن تبارح "ابتسامتها" أن تكون طيف ابتسامة بالكاد تتجاوز طرف الشفتين، أو بسمة التحدي المتهكم في مواجهة الناظر إلى اللوحة الذي هو في الأساس راسمها، فهل كان هذا تعبيراً من الموديل والرسام عن تلك الحال العابقة بالتحدي التي تمثلت لديهن في إسبانيا القرنين الـ 18 والـ 19 في تلك الرغبات التحررية التي كان قد حان أوانها بعد قرون من خروج إسبانيا من الإرث الأندلسي الذي كبلها في ممارسات محافظة استغرق الخروج منها زمناً؟ ربما، فحتى الذين اقترحوا هذه الفرضية لم يصلوا إلى حد تأكيدها. اكتفوا غالباً بالإيحاء بأن النساء اللواتي رسمهن غويا كن في نهاية الأمر حقيقيات يتصرفن وينظرن ويتحدين على سجيتهن، محاولات استعادة الزمن الضائع والتأكيد على سيرهن في الركاب الأوروبي.

النساء والتحدي

لكن هذا لم يكن بالطبع السمة الرئيسة التي ميزت لوحات غويا "النسائية"، وهو الذي رسم نساء كثيرات كانت بعضهن من عشيقاته الدائمات أو العابرات، أو من علية القوم أو من محظيات بعض الكبار.

ويسري هذا القول حتى على نساء رسمهن في تلك المجموعات من الرسوم التي أعطاها شكل مواضيع محددة تصور "أهوال الحرب" أو "نزوات" الرسام وما إلى ذلك، فهو هنا أيضاً استخدم من ذاكرته أو ميدانياً نساء يعرفهن كموديلات لنساء لا علاقة لهن باللوحات نفسها، كما نراه مثلاً في بعض لوحات المجموعتين اللتين ذكرناهما حين رسم الدوقة آلبا، إحدى أشهر موديلاته وإحدى أرفع نساء البلاط الإسباني قيمة، ليصور من خلالها مشاهد تخرج عن إطار شخصيتها أو علاقتهما، والطريف في الأمر أن غويا الذي صور عدداً كبيراً من النساء المعروفات وغير المعروفات، لم يترك سوى لوحة واحدة تمثل زوجته يوزيفا بشكل يقيني، إضافة إلى لوحات نادرة يفترض غلاة الخبراء أن يوزيفا ماثلة فيها.

لكن الدوقة آلبا كانت في مرحلة من حياته وقد أربى على الـ 40، موديله المفضلة، ليس طبعاً لميزات خاصة فيها، وهي كانت مميزة على أي حال، بل لأنها بعدما رسمها مرة أولى بموافقة زوجها، راح يرسمها مرات ومرات بعدما مات ذلك الزوج واتخذت هي من غويا رفيقاً لها، إن لم يكن عشيقاً. وباعترافها أو باعترافهما معاً، لا سيما في لوحة "الدوقة آلبا بالأسود" التي رسمها العام 1797، ما يوحي بأنها ترتدي السواد حداداً على زوجها الذي كان قد مات قبل ذلك بعام.

"غويا ولا أحد سواه"

ولكن يا لغرابة ذلك الحداد! من جانب امرأة صورها الرسام وهي تضع خاتمين كتب على أحدهما اسمه وعلى الثاني اسمها! ويا لغرابة امرأة يجب أن تبدي الحزن على زوجها لكنها في الوقت نفسه تشير بإصبع قوية واثقة إلى الرمل الذي وقفت فوقه، حيث كتبت على الرمل بخط واضح، "غويا ولا أحد سواه".

صحيح أن غويا هو الذي رسم المشهد، ولكن هل كان يمكنه أن يرسمه بكل تلك الجرأة لو لم تكن الدوقة موافقة، وهي التي كانت لها مكانة سامية في البلاط وتثير غيرة الملكة نفسها وخشيتها؟ ولكن من هنا حتى يفترض بعض الكتاب والمؤرخين أن تلك السيدة المستلقية في لوحتين أخريين من لوحات غويا وعرفت باسم "المايا"، في المرة الأولى "المايا العارية" وفي الثانية "المايا الكاسية"، يمكن أن تكون الدوقة آلبا نفسها، مسافة لم يتمكن أحد من اجتيازها ما أبقى هوية تلك المرأة الرائعة التي قبلت أن يصورها غويا عارية تماماً، في خرق فاضح لكل الأعراف والقوانين السياسية والأخلاقية السائدة في إسبانيا، ولعل اللافت في الأمر أن غويا صور "المايا" عارية تماماً قبل أن يصورها في اللوحة الثانية بثياب المحظيات التي قد تدنو من الاحتشام، الأولى بين العامين 1797– 1800، والثانية خلال خمسة أعوام بين 1800 و1805.

من يخرق القوانين والأعراف؟

والحقيقة أن المؤرخين لم يتوقفوا طوال القرنين التاليين، وربما حتى أيامنا هذه، عن محاولة تخمين من تكون تلك المرأة حتى وإن كان بعضهم قد سلك طريق السهولة، "مؤكداً" أنه لا بد من أن تكون الدوقة آلبا التي كانت تلك السنوات بالذات تمثل ذروة علاقته بها، متناسين أن مكانة الدوقا لا تسمح لها بذلك حتى ولو كانت قد عرفت بالجرأة والتحدي.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وسلك بعضهم الآخر سبيلاً أكثر سهولة، مؤكداً أن غويا إنما رسم هنا تلك السيدة جامعاً ملامحها من نساء عدة بما فيهن زوجته يوزيفا، ولكن من الواضح أن هذه الفرضية مليئة بالتهافت ولا تبدو معقولة على الإطلاق، ثم إذا كان الأمر كذلك فستتعين الإجابة على سؤال يبدو حاسماً في هذا السياق، ما دخل رئيس الحكومة الإسبانية مانويل غودوي في الأمر لو كانت اللوحة ترتبط بغويا مباشرة؟ ويفرض هذا السؤال نفسه من منطلقين، أولهما أن رساماً من طينة غويا آت من عامة الشعب لم يكن ليجرؤ على خرق القوانين والأعراف التي تمنع رسم النساء العاريات في إسبانيا، بحيث أن "العارية" الوحيدة التي كانت معروفة في تاريخ الفن في هذا البلد كانت "فينوس" لبيلاسكويث التي كان غودوي يملكها على أي حال، ولكن كان من الممكن التهاون مع تلك اللوحة بالنظر إلى أنها تمثل واحدة من آلهة الأولمب، وتترافق في اللوحة مع رسول الحب كيوبيد.

أما السيدة التي رسمها غويا فامرأة حقيقية تنتمي إلى مجتمع حقيقي، وبالتالي كان على الفنان أن يحظى بحماية استثنائية كي يفلت من محاكم التفتيش إذ خرق الأعراف والقوانين، ولم يكن ثمة في إسبانيا حينها من هو أقوى من رئيس وزراء كان في الوقت نفسه محظياً للملكة التي كانت هي من جاء به إلى الحكم.

"المايا" في المآدب الرسمية

ولعل ما يعزز هذه النظرية أن غودوي امتلك اللوحة الأولى العارية فور إنجاز الرسام لها، ثم كان هو من طلب منه أن يحقق نسخة ثانية منها تتطابق معها حجماً وألواناً ونظرات متحدية ولا مبالية، إنما بثياب هذه المرة.

والحال أن في مقدورنا أن نضيف إلى هذا الملف هنا عنصراً تاريخياً مهماً قد يكون من شأنه أن يحسم كل جدال حول هذا الأمر، لقد امتلك غودوي اللوحة العارية ثم أختها الكاسية، ولقد كان يروى أنه كان لايتورع خلال الحفلات والمآدب التي يقيمها في منزله عن عرض هذه اللوحة أو تلك، وطبعاً تبعاً لهوية ضيوفه، فإن كانوا من خلصائه المقربين كان يعرض العارية، أما إذا كانوا من معارفه لا أكثر فيكتفي بعرض اللوحة الأخرى. لكنه في أي من الحالتين لم يكن يعلن اسم السيدة، بل لا يسمح لأحد أن يسأله عن هويتها، ولم يكن أحد ليجرؤ على ذلك على أي حال، ولكن كذلك كانت محاكم التفتيش لا تجرؤ على محاسبته أو محاسبة صديقه الرسام على ذلك الخرق الأفضح الذي تواطآ على ممارسته.

الرسام أمام المحكمة

وفي العام 1815، وإذ تسنم العرش ملك جديد هو فردينان السابع فقد غودوي في اللحظة نفسها حظوته ومكانته. صحيح أن المحاكم لم تستدعه وتحاسبه، لكنها استدعت غويا وقد أضحى سبعينياً بالكاد يسمع الأسئلة التي تطرح عليه، ولم يعد قادراً على الركون إلى حماية لم يعد في وسع غودوي تقديمها له، إذ على الرغم من سلطة كان هذا الأخير لا يزال يتمتع بها، تمكنت محاكم التفتيش من مصادرة مجموعة لوحاته متوقفة طويلاً عند "المايا العارية". صحيح يومها أن محاكم التفتيش لم تنزل بالرسام أي عقاب ولم تتشدد في سؤاله عن هوية السيدة، لكنها أفهمته أن زمن الحرية التي كان يتمتع بها قد انتهى، وأن عليه أن يلزم الحذر مذاك وصاعداً، وهو ما حافظ عليه حتى أيامه الأخيرة.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة