Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الاهتزاز النفسي يفقد مصداقيته في عصر الجرائم البشعة

القانون المصري ينص على أنه في حال ارتكب شخص جريمة قتل تحت تأثير مواد مخدرة تناولها بكامل إرادته، فإنه يكون مسؤولاً عما يرتكب ويعاقب عقوبة مشددة

الخناقات التي تنشب في الشوارع كثيرة، بعضها يحل نفسه بنفسه، والبعض الآخر ينتهي بجرائم بشعة (أ ف ب)

الاهتزاز النفسي في عالم شج الرؤوس وقطع الرقاب واغتصاب النساء واستحلال الأموال والنصب على العباد وإلحاق الضرر بالبلاد ليس وليد الأمس القريب جداً في الإسماعيلية، أو أول من أمس القريب في الإسكندرية، أو في الماضي القريب في سيناء، أو الماضي السحيق في أغوار التاريخ.

لكن تاريخ 1 نوفمبر (تشرين الثاني) 2021 حجز لنفسه مكانة بارزة في قصص وحكايات من يقال إنهم مختلون -كرد فعل أولي أو تصريح مبدئي أو على سبل الهرولة الدفاعية- اقترفوا جرائم تهز الرأي العام وتثير الهلع وتطرح علامات استفهام عقب هدوء صرخات الرعب والاستغاثة.

صدمة مريعة

الغريب أن الحادثة التي هزت مدينة الإسماعيلية (شمال شرق القاهرة) وامتد أثرها ليصيب الشارع المصري كله بصدمة مريعة لم تصحبها صرخات استغاثة تذكر. الفيديوهات المتداولة للحظة قيام شخص بذبح آخر نهاراً في شارع يعج بالمارة والحركة ثم تجواله بالرأس مفصولاً عن قدميه أثارت غضبة عارمة بعد الصدمة القاسية. كاميرات الهواتف المحمولة المرفوعة من قبل مواطنين لتوثيق اللحظة بكل ثبات لم تنقل صرخات تذكر أو استغاثات يعتد بها باستثناء صوت فتاة تقوم بالتصوير أو جالسة إلى جوار من يقوم بالتصوير في سيارة، وتقول بعد مرور دقائق تم التأكد خلالها من أن الرأس تم فصله عن الجسد "حد يطلب البوليس". وعلى الرغم من أن الهاتف المحمول الذي يقوم بالتصوير قادر على الاتصال بـ"البوليس" (الشرطة)، فإنه لم يتصل.

عملية ذبح كاملة

المؤكد أن أحدهم اتصل فيما بعد، وإلا لما وصلت الشرطة إلى موقع الذبح. لكن موقعة الذبح شهدت في رأي مغرد ذبحاً من نوع آخر وهو ذبح للأخلاق والقيم ونجدة الضعيف والملتاع. تقول تغريدة "الفيديوهات تظهر عملية ذبح كاملة متكاملة لإنسان تم فصل رأسه عن جسده. لكن الأهم أنها تظهر عملية ذبح لأناس فصلوا قلوبهم ومشاعرهم عن عقولهم وأجسادهم".

المقصود في التغريدة هو ملحوظة رصدها الجميع لفيديوهات الحادثة البشعة. المارة ظلوا يمضون قدماً في طريقهم أثناء الاعتداء والذبح. ربما توقف أحدهم قليلاً أو تريث بعض الشيء، لكن الجميع مضى في طريقه لتأتي سيارتا إسعاف وشرطة بعد قليل، حملت الأولى جثمان القتيل ورأسه، وحملت الثانية القاتل ووصفته بـ"مختل عقلياً" وفي أقوال أخرى "مهتز نفسياً".

البيان الصادر عن وزارة الداخلية المصرية عقب الحادثة جاء فيه أن الشخص الذي ألقي القبض عليه "مهتز نفسياً، إذ سبق حجزه في مصحة للعلاج من الإدمان، وأنه تعدى بالساطور على عامل ما أدى إلى فصل رأسه، وكان يهذي بكلمات غير مفهومة، وبالفحص تبين أنه كان يعمل في محل موبيليا (أثاث منزلي) خاص بشقيق المجني عليه".

 

علامات الاهتزاز

لكن ما جرى بعد ذلك بدءاً بتحقيقات النيابة مروراً بأقوال الشهود وأقارب المجني عليه وانتهاء بالمتهم نفسه، لم يشر من قريب أو بعيد إلى مسألة الاختلال أو الاهتزاز. فقد بدأت التحقيقات الرسمية وأصدرت النيابة بياناً قالت فيه إن "النائب المستشار حمادة الصاوي أمر بسرعة إنهاء التحقيقات في واقعة مقتل مجني عليه وإصابة اثنين آخرين في الطريق العام في الإسماعيلية"، وأن النيابة ستعلن ما ستؤول إليه التحقيقات.

الشهود تحدثوا عما رأوه، حيث اعتداء من المتهم على المجني عليه، ثم إمعان في الاعتداء بالضرب المتكرر بالساطور، ثم فصل رأس المجني عليه، وتجوال المتهم بالرأس على الساطور في الشوارع بغرض الترهيب. أما أقارب المجني عليه فكشفوا عن أن المتهم كان يعمل مع المجني عليه، وأن علاقته بأفراد أسرة المجني عليه جيدة ويسكنان متجاورين.

أما المتهم نفسه، فقد قام بإعادة تمثيل ما جرى بعد خضوعه للتحقيق في حضور القيادات الأمنية والنيابة العامة. ولم تتكرر الإشارة إلى الاهتزاز النفسي أو الاختلال العقلي مجدداً.

الدفع بالاختلال

لكن الجديد هو أن كثيرين توقفوا أمام الدفع بالاختلال والاهتزاز قبل انتهاء التحقيقات، أو على وجه الدقة قبل بدئها. تغريدة أخرى يجري تشاركها على سبيل السخرية السوداء تقول "المتهم بريء حتى تثبت إدانته أحياناً، لكنه قد يكون مختلاً عقلياً أو مهتزاً نفسياً حتى لا تثبت إدانته أحياناً أخرى".

"مختل عقلياً يطعن ثلاثة أشخاص في شارع في نجع حمادي (صعيد مصر)"، "مختل عقلياً يطعن ستة أشخاص في القليوبية ووفاة اثنين"، "مختل عقلياً يطعن محفظ قرآن أثناء صلاة الفجر في الشرقية"، "مختل عقلياً يطعن والده في القناطر"، "مختل عقلياً يطعن أمين شرطة في الزمالك"، "مختل عقلياً يطعن طفلة عقب خروجها من المدرسة في سوهاج"، "مختل عقلياً يقتل ابنه ويقتل رجلاً ويصيب سيدة في الزقازيق"... وقائمة المختلين عقلياً الذين يطعنون ويذبحون فيقتلون أو يصيبون لا تنتهي. لكن الغريب أن خبر الجريمة عقب حدوثها يحمل توصيف الاختلال النفسي قبل بدء التحقيقات وتشكيل لجنة طبية للكشف على المتهم حال ادعى مرضه النفسي أو طلب محاميه إثبات ذلك، سواء لمرضه فعلاً أو بحثاً عن سند قانوني، وفي أقوال أخرى ثغرة قانونية، لمساعدة موكله.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

المادة 24

المادة 24 من القانون رقم 71 لسنة 2009 تنص على أنه "في حالة صدور قرار من النيابة العامة أو حكم قضائي بإيداع أحد المتهمين إحدى منشآت الصحة النفسية للفحص، ينتدب المجلس الإقليمي للصحة النفسية لجنة ثلاثية من الأطباء المقيدين لديه لفحص حالة المودع النفسية والعقلية طبقاً لمضمون القرار أو الحكم، ويجب إبلاغ الجهة القضائية بتقرير عن الحالة النفسية والعقلية يتضمن نتيجة التقييم، وذلك خلال المدة التي يحددها قرار الجهات القضائية، وله أن يطلب مهلة إضافية إذا اقتضى الأمر".

لكن الأمر يقتضي بحثاً في مسألة المرض النفسي المتكرر لمئات القتلة وأولئك الذين يشرعون في قتل آخرين. القوانين المصرية تنص على أنه في حال ارتكاب مريض نفسي جريمة قتل، فإن عليه أو على محاميه أن يقدم للمحكمة ما من شأنه أن يثبت إصابة موكله بخلل أو اهتزاز نفسي أو عصبي. ويجب إثبات أن المتهم وقت ارتكابه الجريمة لم يكن مدركاً أو في كامل قواه العقلية. وعادة يأمر القاضي بإحالة المتهم إلى مستشفى نفسي رسمي لتحديد مدى قواه النفسية والعقلية مع إبقائه تحت الملاحظة لمدة لا تقل عن 45 يوماً. ويصدر القاضي حكمه بعد ذلك بناء على التقرير الطبي.

أحاديث الشارع

"التقارير الطبية يسهل ضربها (تزويرها). ليس هناك أسهل من تقديم شهادة طبية تفيد بأن المريض في أتم صحة، أو أن الشخص موفور الصحة فيه أمراض الدنيا والآخرة"، "لكن ضرب تقارير الجنون (الاعتلال النفسي أو العصبي) أمر صعب، لأن المجنون (المختل) يكون اختلاله معروفاً بين أهله وجيرانه". "الجنان أسهل شيء يتم إثباته. ابن عمي عجز عن دفع النفقة والمؤخر لمطلقته فقدم شهادة تفيد بجنونه للمحكمة ولم يدفع مليماً". "المرض النفسي حجة وشماعة، ومثلما يستخدمها المجرمون ومحاموهم وذووهم لتبرئتهم تستخدمها الحكومة للتغطية على حوادث أو لتهدئة الناس".

أحاديث الشارع والقيل والقال لا تنتهي. لكن لكل حديث -مهما بلغ من شطط وبالغ في الشطح- أرضية في القيل ومرجعية في القال.

 

الخلل النفسي والكنائس

قالت وزارة الداخلية المصرية عقب تفجير كنيسة "مار مرقس الرسول والبابا بطرس خاتم الشهداء" في الإسكندرية (شمال مصر) في ليلة رأس السنة عام 2010، الذي تسبب في مقتل 23 شخصاً وإصابة العشرات، إن "مختلاً عقلياً" فجر الكنيسة. قبلها بأربع سنوات، قالت الشرطة المصرية إن شخصاً لقي مصرعه وأصيب 12 آخرون في اعتداءين على كنيستين في الإسكندرية -إحداهما كانت الكنيسة نفسها التي تم تفجيرها في 2010- وإن "مريضاً نفسياً قتل مسيحياً وأصاب آخرين".

قبلها وبعدها وقعت عشرات حوادث الاعتداءات على كنائس بين تفجير ومحاولات تفجير، وطعن ومحاولات طعن، واعتداء ومحاولات اعتداء، وكانت عبارات "الاضطراب النفسي" و"الاختلال النفسي" و"الاهتزاز العاطفي" الأكثر مصاحبة للسردين الخبري والتحليلي في الإعلام، وكذلك نقلاً عن بيانات رسمية على مدى عقود سابقة، لا سيما في جرائم الإرهاب.

الإرهابي المعتوه

"الإرهابي المعتوه"، ذلك المسمى العبقري الذي خرج به المؤلف الراحل وحيد حامد في فيلم "الإرهاب والكباب" حين أطلقت نشرات الأخبار مسمى "الإرهابي المعتوه" على البطل عادل إمام، الذي وجد نفسه في موقف لا يحسد عليه في مجمع التحرير أثناء محاولته نقل ابنه من مدرسة بعيدة عن سكنه إلى أخرى قريبة، حيث تشابكت الأحداث ووجد نفسه مصنفاً "إرهابياً معتوهاً".

الإرهاب والعته أو الإرهاب والاختلال والاضطراب والاهتزاز النفسي ظلت علاقات متشابكة وعبارات متزامنة على مدى ثلاثة عقود هي عصر الرئيس الراحل محمد حسني مبارك. الخبثاء طالما عللوا هذا الربط برغبة النظام حينئذ في تمويه خطر الإرهاب وتبديد أحاديث الفتنة الطائفية والتكتم على ما يدور في المجتمع من تسييس للدين وتديين للسياسة. آخرون افترضوا حسن النية، حيث من يقبل على قتل آخرين بدم بارد هو بكل تأكيد مختل نفسياً.

الإرهابي ليس مختلاً

سلسلة مقالات لاختصاصي الطب النفسي، محمد طه، حاولت فك الالتباس بين "الاهتزاز العقلي" بمسمياته المختلفة والإرهابي. يقول طه إن التركيبة العقلية للإرهابي تتبنى الفعل وليس القول، بمعنى أنه حين يعتنق فكرة أو يتملكه دافع يختار وسيلة تعبير فيها سلوك وحركة وليس تفاهماً وتواصلاً. ويضيف أن "الإرهابي يعلم تمام العلم أن ما يفعله غير أخلاقي وغير قانوني وغير سوي، لكنه يختار ذلك، ويكرر اختياره كل يوم حيث يؤذي ويقتل ويستبيح الحدود والأرض والأعراض". ويرى طه أن معظم الإرهابيين ليسوا مرضى نفسيين، ولا يمكن تبرير أو فهم أفعالهم أو جرائمهم بأي شكل من الأشكال على أنها أفعال وسلوكيات مرضية، لكنهم أشخاص غير أسوياء اختاروا بكامل وعيهم وإرادتهم طريق السوء.

طريق السوء الذي اختاره أو ربما وجد نفسه فيه المتهم في جريمة الذبح في الإسماعيلية ليس طريقاً إرهابياً، لكنه طريق اختار له قائمون على أمر المجتمع أن يكون طريق "الاهتزاز النفسي".

المثير أن وسائل إعلام عدة تتناول ما يثار حول خضوع المتهم للعلاج من الإدمان في مصحة نفسية، باعتباره مرادفاً لـ"الاهتزاز النفسي" و"الاختلال العقلي".

القانون المصري

لكن القانون المصري ينص على أنه في حال ارتكب شخص جريمة قتل تحت تأثير مواد مخدرة تناولها بكامل إرادته، فإنه يكون مسؤولاً عما يرتكب من أفعال ويعاقب عليها عقوبة مشددة. أما في حال كان قد تعاطى من دون محض إرادته ومن دون معرفته، فلا عقوبة عليه، وذلك بحسب المادة 62 من قانون العقوبات المصري.

وبينما الجميع يصول في بشاعة جريمة الإسماعيلية ويجول في مسألة المرض النفسي وتواتر الجرائم التي تتعلق بتلابيبه، إذ بدفاتر الشرطة المصرية تشير إلى تعرض سيدة لتعدٍّ بالطعن في رقبتها أثناء شرائها احتياجاتها في سوق في مدينة الإسكندرية. السيدة أكدت للشرطة أن الشخص الذي طعنها لا تعرفه. والشرطة أكدت بدورها بعد القبض على هذا الشخص أنه "مهتز نفسياً". وعلى الرغم من ذلك، أرشد "المهتز نفسياً" الشرطة إلى الأداة المستخدمة في الطعن "بعد تضييق الخناق عليه".

مسارح الجريمة

الخناقات التي تنشب في الشوارع كثيرة، بعضها يحل نفسه بنفسه، والبعض الآخر ينتهي بجرائم بشعة. بشاعة الجرائم تدفع البعض أحياناً إلى التكهن أو افتراض الخلل النفسي لمرتكبها لفرط بشاعتها. الطب النفسي لا يستبعد الخلل النفسي أو العصبي من مسارح الجريمة، لكن يدعو إلى التريث قبل تأكيده أو افتراضه أو دفع الرأي العام في اتجاهه ولو حتى بحسن نية. اختصاصي الطب النفسي، محمد حمودة، قال في تصريحات صحافية إنه لا يمكن تحديد إن كان مرتكب جريمة ما يعاني خللاً نفسياً أو عصبياً إلا بعد فحصه، وإن ذلك أمر يستغرق أسابيع عدة ويتطلب تكوين لجنة فنية لها قواعد عمل ورقابة وملاحظة دقيقة. وأضاف أن نسبة ليست قليلة من المحامين تدعي إصابة موكليهم المتهمين في جرائم بالمرض النفسي، وأن اللجان الفنية تثبت ذلك أو تدحضه. وأشار إلى أن انتشار تعاطي أنواع مختلفة من المواد المخدرة يسهم في دخول الشخص في حلقة مفرغة من الإدمان والمرض النفسي.

وسجل الجرائم الحديثة لا يخلو من ارتباط وثيق بين إدمان المخدرات وارتكاب جرائم بعضها وصل إلى درجة من الوحشية أذهلت المصريين. فمن أب يقتل ستة من أبنائه، إلى آخر يذبح زوجته وأبناءه الأربعة، وثالث يقتل والده وغيرهم كثير ممن ذهبت المواد المخدرة بعقولهم، لكن تم إثبات ذلك بعد تحريات ولجان طبية وتحاليل معملية.

وكان استشاري الطب النفسي، محمد مهدي، حذر قبل أسابيع قليلة من مخدري "ستروكس" و"شابوه" نظراً إلى انتشارهما. وهما يجعلان المتعاطي يشعر بسعادة مؤقتة وحالة من النشوة الشديدة والطاقة العالية مع عدم القدرة على السيطرة على أعمال بالغة العنف قد يأتي بها.

وبينما ينتظر المصريون الكشف عن حقيقة ما جرى في مذبحة الإسماعيلية وكذلك طعن الإسكندرية، يتجاذب الجميع أطراف حديث "الاهتزاز النفسي" في عالم الجريمة، مع إشارات مستمرة إلى أن تسييس الاهتزاز النفسي والاختلال العصبي في أنظمة سياسية سابقة أفقد الاهتزاز أثره والاختلال وقعه لدى جموع المصريين.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات