Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"القتل الأسري" حبيس كلاسيكيات الوازع الديني والسوشيال ميديا

المجتمع بحاجة إلى إعادة بناء منظومة قيمية وأخلاقية حتى تستوي الحياة والأسرة والأزواج والأبناء

شهد عيد الأضحى عدداً من جرائم القتل الأسري في مصر (أ ف ب)

قتلت زوجة شابة زوجها طعناً بالسكين في قرية تابعة لمدينة طوخ (شمال مصر) بعد جولة من العراك اللفظي بسبب مصروفات العيد تطورت إلى ضرب الأول الأخيرة، ما أسفر عن استلالها سكيناً من المطبخ طعنته بها فسقط قتيلاً، وطعن زوج شاب زوجته بـ11 طعنة قاتلة أمام أبنائهما الثلاثة في قرية تابعة لمدينة المنصورة (شمال مصر) بسبب خلافات أسرية "بسيطة" ثم لاذ بالفرار. وقتل زوج زوجته بسكين اشتراه خصيصاً لهذا الغرض بمدينة بني سويف (شمال الصعيد)، لأنها كانت تخطط لخلعه.

جرت وقائع كل هذه الحوادث في الأيام القليلة السابقة لعيد الأضحى المبارك وأثناءه. وعلى الرغم من أن قتل الزوج على يد الزوجة، أو العكس، لم يصل بعد إلى درجة التصنيف باعتباره "ظاهرة"، فإن تواتر القتل الأُسري في فئة عمرية شابة وبين مستوى تعليمي واقتصادي بعيد كل البعد عن الأمية والفقر، يعكس انفلاتاً سلوكياً بنمط جديد غير معتاد في المجتمع المصري.

القتل الجديد

اعتاد المجتمع المصري ارتباط جرائم القتل بالإرهاب أو المخدرات أو البلطجة أو ما يسمى بـ"جرائم الشرف" أو الصراع على مال أو مسروقات. خريطة القتل في القاهرة الكبرى خلال عام 2020، بحسب ما أعلنته الأجهزة الأمنية، تتضمن 338 جريمة قتل. بلغت نسبة القاتلات من النساء 21 في المئة، والأطفال نحو عشرة في المئة، والباقي رجال. وبلغت نسبة جرائم القتل التي دارت رحاها داخل البيوت نحو 24 في المئة، أي نحو ربع جرائم القتل التي حدثت خلال عام.

رحمة ومودة

لكن وقوع حفنة من جرائم القتل الأسري خلال عطلة العيد خلف أبواب البيوت المغلقة أبطالها أزواج وزوجات، وضحاياها كذلك، وجميعهم حظي بتعليم جامعي ونوعية حياة أبعد ما تكون عن البؤس أو العوز أو الشقاء، والأدهى من ذلك أنها زيجات بُنيت على حب ومودة وما اعتقد الأهل والجيران أنه رحمة.

الرحمة التي خرجت من الشباك ليدخل التعدي بالضرب ثم الطعن بالسكين من الباب صدمت المجتمع المصري في العيد. ريهام ومحمد ارتبطا بعلاقة حب لمدة ثلاث سنوات قبل أن يتزوجا بقرية في طوخ. وقبل العيد بساعات، نشب خلاف بينهما بسبب شحن عداد الكهرباء. فمنذ رُكب جهاز تكييف (مبرد هواء) بناء على رغبة الزوجة، والعداد يحتاج إلى شحن مستمر. وفي يوم الجريمة، نفدت الكهرباء، ونفد معها صبر محمد، بعدما أصرت الزوجة على معاودة الشحن بسبب حرارة الجو. تصاعدت المعركة الكلامية ما أدى إلى تطاول من قبل الزوج على زوجته وحاول خنقها، فما كان منها إلا أن هرعت إلى المطبخ وعادت بسكين غرسته في صدره أمام ابنتهما "رهف" (عامان) و"أحمد (عام واحد).

أجمل الاختيارات

المثير أن آخر ما كتبه الزوج المقتول على صفحته بـ"فيسبوك" قبل أن يغادر الدنيا على يد زوجته "وتبقى هي أعظم انتصاراتي وأجمل اختياراتي". وإذا كانت زوجة محمد اختارت له القتل طعناً، فإن زوج ياسمين اختار لها المصير نفسه. الجريمة الثانية التي وقعت في المنصورة بطلاها؛ الجاني طبيب الأسنان محمود وزوجته الطبيبة البشرية ياسمين. قصة حب أخرى بدأت بغرام وهيام، وأسفرت عن ثلاثة أطفال وحب ووئام بشهادة الأهل والجيران، وانتهت بـ11 طعنة وجهها الزوج إلى زوجته أمام الصغار قبل أن يهرب.

واتضح فيما بعد أن الزوجة كانت قد اتصلت بوالدتها في الليلة السابقة لمقتلها وطلبت منها المجيء لأنها تشعر بخوف من زوجها وأنه قد يُلحِق بها شكلاً من الأذى. وجاء رد فعل الأم "طبيعياً" بالمقاييس الثقافية والاجتماعية المصرية، إذ هدأتها بأنها ستحضر في صباح اليوم التالي، وأنهت كلامها لابنتها بنصيحة مفادها أن عليها أن تتغاضى عن أخطاء زوجها وتحافظ على بيتها وأولادها وحياتها الأسرية!

اختلاف أسماء القتلة والمقتولين

تفاصيل سلسلة الجرائم الأسرية التي شهدتها مصر خلال الأيام القليلة السابقة لا تختلف كثيراً. فقط تختلف أسماء القتلة والمقتولين أقرب الأقربين. يقول "ي أ"، (62 سنة)، أن ابنته كان يفصل بينها وبين القتل على يد زوجها بضع دقائق. الابنة (32 سنة) تزوجت بعد قصة حب طيلة أيام الدراسة، وبعد عامين من العمل في الشركة نفسها. كلاهما خريج جامعة ذات صيت ومصروفات باهظة، وكلاهما ينتمي إلى أسرة "محترمة" بمقاييس المجتمع المصري؛ "أب وأم متعلمان، وأبناء خريجو جامعات بمصروفات عالية، ويرتادون نوادي رياضية كبيرة".

يحكي كيف أن ابنته استنجدت به ذات مساء بعدما تعرضت للضرب على يد زوجها وبعدما أنجبا ابناً وابنة في سن المدرسة. لكن هذا لم يعنِ الكثير للزوج الذي أراد أن يكمل حياته بعد الزواج كما كانت قبله؛ سهر وسفر وأصدقاء بديلاً عن الأسرة وتعاطي مواد مخدرة على سبيل الترفيه في الإجازات، والاعتماد على الأهل لسد الثغرات وتطييب خاطر شريك الحياة. والأدهى من ذلك اعتبار الضرب وسيلة طبيعية للتعبير عن الغضب ثم الاعتذار مذيلاً بـ"ما زلت أحبها".

الحب والضرب والأهل

الحب والضرب وترجيح كفة الحياة الشخصية على الأسرية وتدخل الأهل بحسن أو سوء نية أمورٌ تضرب عصب الأسر الشابة المتعلمة المنتمية إلى الطبقة المتوسطة وما حولها. ويظن البعض أن التعليم يحوي التربية بالضرورة، وهو خطأ شائع تنفيه مجريات الأمور.

خلو التعليم من مكون التربية، كما يشير أستاذ علم النفس التربوي محمد صالح، "حيث مركز الدروس الخصوصية (سنتر) حل محل المدرسة التي كانت تسهم في بناء شخصية الطالب، بالإضافة إلى سبل التربية والتقويم والتدريب على السلوك الصحيح وتعريف الحقوق والواجبات والخطأ والصواب، أدى إلى وجود ملايين الخريجين الجامعيين، بينهم من يحمل درجتي الماجستير والدكتوراه، لكنهم يعانون عواراً تربوياً تظهر آثاره في عدم القدرة على تربية الأبناء بشكل إيجابي، أو التعامل مع الزوج أو الزوجة بطريقة صحيحة، أو القدرة على إدارة الغضب ومواجهة المشكلات التي تنشأ في داخل الأسرة المكونة حديثاً".

شيوع الطلاق في الأسر المكونة حديثاً يقول الكثير عنها، وعما يعتريها من مشكلات تجعل من العنف ظاهرة متصاعدة ومن جرائم القتل الزوجي علامة منذرة بخطر داهم. أرقام الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء المعلنة العام الماضي تشير إلى ارتفاع كبير في حالات الطلاق. "في عام 2019، حدثت 237.7 ألف حالة طلاق، بمعدل حالة كل 2.11 دقيقة، بزيادة قدرها ثمانية في المئة مقارنة بعام 2018".

الطلاق طوق نجاة

وبينما يحلو للبعض تعليل ارتفاع عدد حالات الطلاق في ضوء سهولته مقارنة بسنوات مضت، بالإضافة إلى استقلالية المرأة ما يساعدها على اتخاذ القرار، إلا أن الباحثة في شؤون المرأة، عبير سليمان، تقول في تصريحات صحافية، "إن استمرار الحياة الزوجية المعطوبة خطر أكبر بكثير على الأسرة من الطلاق، وأبرز أسبابه حديثاً هو العنف الأسرى وعدم التوافق بين الزوجين في الكثير من الأمور، والأهم هو غياب المفاهيم الصحيحة ومعنى الحياة الزوجية". تضيف "أن غياب المنظومات التربوية عن القيام بدورها فى التوعية بمفاهيم الزواج الصحيحة زاد من حجم المشكلة كثيراً، مع تصاعد العنف الأسري كرد فعل لعدم القدرة على التواؤم في منظومة الزواج".

العنف الأسري الذي وصل في أيام عيد الأضحى إلى جرائم قتل يتحدث عن نفسه بلغة الأرقام، فمنظومة الشكاوى التابعة للمجلس القومي للمرأة تحفل بشكاوى تتعلق بالعنف الممارس داخل منظومة الزواج لتحتل الصدارة.

الصدارة للبيت

الصدارة في جرائم العنف لم تعد للشارع، بل ينافسه البيت، أو يوشك على منافسته. صحيح أن عدد جرائم القتل الزوجي لم ترتقِ إلى درجة الظاهرة، لكنها تشهد تحولات كبرى. التحولات الأحدث خرجت من عباءة الضائقة المادية وتسللت خلسة لتصل إلى نظيرتها الأخلاقية والسلوكية.

المدير السابق للمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، سعاد عبد الرحيم، تقول، "إن العامل المادي لم يعد هو السبب الرئيس في جرائم القتل الزوجي. فهناك عوامل أخرى مساعدة مثل العصبية الزائدة وتراكمات تظهر في لحظة غير متوقعة وانعدام الشعور بالرضا في الكثير من الزيجات". وتضيف قائمة من الأسباب مثل "الضغوط الاجتماعية والأسرية والاقتصادية لمجاراة المحيطين، بالإضافة إلى هشاشة الكيان الأسري بأبطاله من زوج وزوجة واعتبار التخلص من الآخر بالطلاق أو الضرب أو القتل حلاً مطروحاً".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

أستاذ الطب النفسي، محمد المهدي، طرح في مقال له توليفة من الأسباب التي تسهم في مسألة العنف والقتل الزوجي. فبين "قلة اضطرابات النوم بسبب ساعات العمل الطويلة للأب وتعدد الأدوار التي تقوم بها الأم، وقضاء ساعات طويلة على منصات التواصل الاجتماعي، وانعدام القدرة على مواجهة التحديات الأسرية الحقيقية التي تنشأ في كل بيت، بالإضافة إلى تفكك دعائم الترابط الأسري، وتحول العنف والكراهية والتدمير إلى معانٍ عادية في الشارع أو الأعمال الدرامية، وطول المدة التي يمضيها الزوجان والأبناء على منصات التواصل الاجتماعي تدور أسباب التفكك وما يؤدي إليه من مشكلات يتحول بعضها إلى عنف يصل إلى درجة القتل".

طرح كلاسيكي

طرح عاملَي السوشيال ميديا ومعها الأعمال الدرامية، بالإضافة إلى الابتعاد عن الدين طرح كلاسيكي متكرر في أغلب التحليلات الاجتماعية. تتواتر هذه الأيام أحاديث لا حصر لها عن منصات التواصل الاجتماعي التي اخترقت خصوصية المصريين لا سيما الشباب، وشوهت الثقافة المصرية والعادات والتقاليد الشرقية والسلوكيات والتصرفات الملتزمة، باعتبارها أحد أبرز أسباب العنف الزوجي الذي يفضي إلى القتل.

ومعها أيضاً تتصاعد نبرات الهجوم الموسمية على الأعمال الدرامية التي تتضمن مشاهد عنف أو قتل، بالإضافة إلى العلاقات المفتوحة بين الجنسين، وترويجها وتناقلها عبر منصات التواصل الاجتماعي، لتكون عاملاً مساعداً ومسانداً لزيادة العنف داخل البيوت الزوجية الشابة الأكثر تأثراً بها. وهناك من يتحدث عن الاقتداء بثقافة الغرب التي لا تناسب قيم الشرق المحافظ الملتزم، والولع بالتقليد، وهيمنة ثقافة الاستهلاك، وقائمة طويلة لا تخلو دائماً وأبداً من "ضعف الوازع الديني".

الوازع الديني دائماً وأبداً

الوازع الديني الذي يبدو واضحاً وضوح الشمس في الشارع المصري حير الجميع. رجال الدين يقولون إن البعد عن الدين والانشغال بالأمور والملذات الدنيوية هما المتهمان الرئيسان في العنف الأسري وقتل الأزواج والزوجات. وكثيراً ما يتداخل العاملان، فيشير رجال الدين إلى إساءة استخدام منصات التواصل الاجتماعي وعرض مشاهد وتدوينات تحمل معاني الحب والود بين الزوجين، وهي المعاني التي يؤكد رجال الدين أنها يجب أن تبقى خلف أبواب البيوت المغلقة.

لكن أبواب البيوت المغلقة لم تلتفت إلى استغاثة الطبيبة القتيلة بوالدتها وتمسك الأخيرة بتلابيب العادات والتقاليد الأصيلة من "حافظي على بيتك" و"تحملي وثابري واصبري" و"سأمر عليك صباحاً". فبالإضافة إلى أن الزوجة لم يطلع عليها الصباح، فإن الإصرار في العقد الثالث من الألفية الثالثة على أن تتحمل الزوجة (وأحياناً الزوج) ما تمر به من أجل الحفاظ على الكيان الأسري أدى إلى جريمة قتل.

أممية المنصات

جرائم القتل الزوجي الأخيرة التي شهدتها مصر لم تلتفت كذلك إلى أن منصات التواصل الاجتماعي سمة أممية، وليست حكراً على دولة أو ثقافة أو مجتمع بعينه. ورغم ذلك لم تؤد بالضرورة إلى اختلال قيم وتزعزع مبادئ وعنف أسري وقتل زوجي. وأفلام العنف والإثارة موجودة في أغلب دول العالم، وليست حكراً على دولة من دون أخرى. كما أن ضعف الثقافة الدينية موجود في العديد من المجتمعات، ومنها ما لا دين فيه أو له، وعلى الرغم من ذلك لا تُعلل الجرائم من هذا المنطلق.

ومن منطلق المجتمع وظروفه والتغيرات التي تحدث فيه وتنعكس على المواطنين، يقول أستاذ علم النفس التربوي، محمد صالح، "إن فهم مثل هذه الجرائم الغريبة التي حدثت خلال الأيام القليلة الماضية لا يستوي دون النظر إلى التغيرات الكثيرة التي حدثت في المجتمع المصري، والتجاذبات العنيفة بين التناقضات. فمثلاً لدينا شد وجذب شديدان بين التشدد الديني سواء في المظهر أو التصرفات من جهة والتطرف في التحلل من الأصول والقيم والسلوكيات القويمة. ولدينا أيضاً شد وجذب بين التمسك بالماضي من دون النظر إلى ما ينفع وما لا يصلح، ونبذ الماضي برمته من دون تفرقة. ونعاني أيضاً بين رغبة الأجيال الشابة في الزواج والاستقرار ورغبتهم في الاحتفاظ بحياة ما قبل الزواج".

يضيف، "لدينا تعليم وليس لدينا تربية، ولا تفكير نقدي، ولا قدرة على التعلم. لدينا تعليم لكن من دون تنمية مهارات أو قدرات إدارة الأزمات والتعامل مع المشكلات. المسألة أكبر من مجرد زوج قتل زوجته، أو زوجة طعنت زوجها، أو دين بعدنا أو اقتربنا منه، أو سوشيال ميديا نلصق بها كل كبيرة وصغيرة. المجتمع كله في حاجة إلى إعادة بناء منظومة قيمية وأخلاقية حتى تستوي الحياة والأسرة والأزواج والأبناء".

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات