Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

ديوان "لا أحب أبي" لعائشة السيفي يكسر سلطة النماذج السائدة

قصائد الشاعرة تعيش صراعا بين اللغة التراثية ومعطيات الحداثة

لوحة للرسام فادي يازجي (صفحة الرسام على فيسبوك)

يستعصي ديوان الشاعرة العمانية عائشة السيفي "لا أحب أبي" على التحليل والقراءة، ما لم نهب بمرجعين اثنين تحكما في رؤية الشاعرة ووجها، على نحو خفي صورها ورموزها وطرائق تصريف القول عندها، والمرجعان هما: 1- نص القصيدة الغنائية ذات الطابع الوجداني ونخص بالذكر القصيدة الرومانسية والرمزية الجديدة (سعيد عقل، نزار قباني)، 2- نص القصيدة الحديثة في تجلياتها الأخيرة مع سعدي يوسف ومحمود درويش. هذان النصان ظلا يجريان تحت سطح القصيدة، يشدان مختلف نماذجها أشد انسجام وتوافق.

خلعنا مصطلح "الرومنطيقية الجديدة" على شطر من مدونتنا المعاصرة حيث الشعر تعبير عن الانفعالات والمشاعر، أو إذا أردنا الدقة قلنا، إنه "ترجمة" يتم بمقتضاها نقل الأحاسيس من وجود داخلي، غامض، مشوش إلى وجود خارجي واضح جلي يتحكم فيه نظام دقيق هو نظام اللغة. وعبارة الترجمة تشير، في هذا السياق، إلى أن الشعر، في المقام الأول، هو انتقال من لغة إلى أخرى، اللغة الأولى هي لغة المشاعر والأحاسيس، أما اللغة الثانية فهي لغة الكلام والإيقاع. ويترتب على ذلك أن الشعر ليس الانفعال فحسب، وإنما هو طريقة مخصوصة في التعبير عن ذلك الانفعال. ولما كان الانفعال حالة ذاتية وجب أن تكون طريقة التعبير عنه طريقة ذاتية أيضاً، أو إذا استخدمنا عبارات شعراء هذه المرحلة قلنا وجب أن يكون الشعر قادراً على الإعلان عن "تفرده وتميزه".

الرومانطيقية والحداثة

هذه القصيدة الحديثة تضم في الواقع عدداً من التجارب الشعرية، ولكل تجربة خصائصها الفارقة. لكن هذه التجارب ظل يجمعها، على اختلافها، احتفاؤها بالدال وإيلاؤها أساليب القول عنايتها الكبرى. هذا الفهم لفاعلية الشعر بوصفها فعلاً لازماً يشد الانتباه إليه قبل أن يشده إلى شيء آخر خارجه. واهتمام هذا الشعر بأدوات القول لا يعني أنه منفصل عن النصوص السابقة غير مرتبط بها. فقصائده موشومة بنيران نصوص أخرى، لعل أهمها النص الصوفي، والنص الشعري الغربي. كما أن هذه القصيدة جمعت بين النظام الإيقاعي القديم بقواعده المقررة وقوانينه المقدرة، والنظام الإيقاعي الجديد.

 ويتجلى هذا الجمع أقوى ما يتجلى في مدونة عائشة السيفية التي يتداخل فيها الإيقاعان: الإيقاع الحديث والإيقاع التقليدي القائم على وحدة القافية والروي والبحر. لكأن الشاعرة تريد أن تقول إن هناك "شيئاً ما" لم يمت في القصيدة ذات الإهاب التقليدي، شيئاً ما زال قادراً على الكلام، على عقد أواصر مع القارئ، على النهوض بأعباء التجربة. هذا الشيء هو الذي سعت الشاعرة إلى اختباره في قصائدها، إلى مساءلته واستنطاقه.

أما أثر القصيدة الحديثة، فيتجلى في الاهتمام باللغة اللازمة التي تحيل القارئ على نفسها قبل أن تحيله إلى ما هو خارج عليها، لغة تشبه الزجاج المعشق الذي يشدنا لزخارفه وألوانه قبل أن يشدنا إلى ما وراءه. إن مهمة اللغة، في هذه المجموعة، ليست محاكاة الأشياء والتشكل طبقاً لصورها القائمة في الواقع الخارجي، وإنما مهمتها الأولى أن تتجاوز دلالاتها المعجمية، وحدودها النفعية، أو إذا استخدمنا عبارة النقاد القدامى أن تدور على غير أسمائها، ليستصفي الشاعر منها إمكانات غير متوقعة، ومعاني جديدة كامنة في طياتها. لهذا يمكن أن نعد كل قصيدة من قصائد هذا التيار "استعارة موسعة" يسلمنا، خلال قراءتها، الرمز إلى رمز، والصورة إلى الصورة في ضرب من التداعي الذي لا يرد.

في قصائد الشاعرة احتفاء واضح بالمشاعر والأحاسيس، ويتجلى ذلك من خلال دوران الديوان على محورين كبيرين هما الاحتفاء بالطفولة من ناحية، وبالتجربة العاطفية من ناحية أخرى.

الطفولة والشعر

من أهم المحاور التي يدور عليها هذا الديوان محور الطفولة. والطفولة عود إلى الانفعال الأول، أي عود إلى المعرفة البدئية القائمة على الحس والغزيرة. ومن شأن هذا الانفعال أن يخلع روعة المجهول على المعلوم، ويعيد إلى الأشياء غموضها الأصلي فترتد الشاعرة بنتاً تتهجى من جديد أبجدية الكون وتتقرى عناصره بعينين واسعتين وشوق عارم.

هذه الطفولة تتبدى في الديوان طفولتين: طفولة الكون، وطفولة الكائن. فبعض القصائد تبدو– إذا أخذنا بتقسيم "فيكو" للتاريخ- قادمة من عصر الآلهة، ويبدو الشاعر كما لو كان شاهداً على انبثاق العالم من العماء الأكبر... كأن العالم خرج للتو من فوضاه الأولى، لا أحد يسكنه غير الشاعر الذي يمجد انبثاقه من الملاء المعتم ويسمي أشياءه.

والتسمية في الديوان وظيفة الشاعر، عن طريقها تخرج الأشياء من حيز الغياب إلى رحابة الحضور، فتنكشف بعد تسترها وتتضح بعد غموضها... فتنقشع الفوضى وتستتث العناصر. لكن الأسماء، في حضرة الكائنات المفارقة، لا تكشف بقدر ما تحجب، والأوصاف لا تبدي بقدر ما تخفي. لهذا يتفزع الشاعرة إلى المجاز تلو المجاز. غير أن المجاز لا ينقل الصورة، وإنما ينقل انفعال الشاعر بتلك الصورة، أي أن المجاز لا يحيل على الموصوف وإنما يحيل على الواصف. هكذا تصبح الصورة ذريعة الشاعر للإفصاح عن غائر مشاعره وعميق رؤاه. فالشاعرة– في سياق هذه الرؤيا- قرينة الراعي "أورفيوس" الذي استقر في الذاكرة الثقافية رمزاً للفرح واكتمال الارتواء... الغناء لغته، واللعب وظيفته، والدهشة أداة معرفته. وربما كان موضوع الطفولة الذي تردد في الديوان رمز هذه الرؤيا ومجلاها في آن.

التجربة العاطفية

حضر الحب في هذا الديوان ضمن احتفالية الشاعرة الكبرى بالحياة. لكن "قصائد الحب" هنا تختلف عن الغزلية العربية "اختلاف وتباين وافتراق". فالحب هنا يفك بفعله الخالق العالم من أسر الموت ويتيح للطبيعة أن تتجدد باستمرار. هذا الحب هو مجلى المقدس، في حضرته يتحول الشعر إلى نشيد طويل يعدد آلاء الجوهر الإنساني بوصفه تجسيداً للمطلق. فيتم الوصل من جديد بين الشعر والشعيرة والقصيدة والعقيدة بعد طول افتراق وانفصال:

فالرجل والمرأة في شعر عائشة صورتان في مرآة واحدة، أو مرآتان تكشفان عن صورة واحدة! فالإثنينية الظاهرة، إن هي إلا صورة للأحادية الباطنة، فهذه عين تلك، طرداً وعكساً. إن الحب طريق إلى العبور من المعلوم إلى المجهول، ومن المحدود إلى المطلق... به تتوسل الشاعرة لتنفذ إلى ما وراء الأشياء المتلفع بالغموض.

إن الناظر في ديوان "لا أحب أبي" يقف على صراع بين لغتين اثنتين: لغة منجزة، وأخرى في حال إنجاز، اللغة الأولى هي لغة التراث المحملة بأصوات الشعراء القدامى، واللغة الثانية هي لغة الحداثة الشعرية التي تسعى إلى "الخروج على ميراث القبيلة" قصد ابتكار طقوسها وطرائق أدائها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

اللغة الأولى هي لغة الذاكرة، وهي ذاكرة تستحضر نصوصاً كثيرة، بعضها يرتد إلى عصر الرواد وبعضها يرتد إلى عصور أقدم، لغة تستأنس بالتشابيه وتجنح إلى الحكم وتستعيد الإيقاع القديم. أما اللغة الثانية، فهي لغة جديدة تستدعي الرموز والأساطير وترتدي الأقنعة وتستشرف أساليب في الأداء حديثة وتسعى إلى ابتكار أشكالها على غير مثال سابق. فالشاعرة منغرسة في أديم التراث منفلتة عنه في آن واحد. فشعرها بهذا المعنى يمثل الاستمرار والانقطاع والاسترجاع والاستباق، وربما آلت قيمة هذا الديوان إلى هذا التردد بين زمنين: زمن آفل، وآخر قادم، فهي التواطؤ والخروج، التواطؤ مع نصوص الذاكرة، والخروج عليها في الوقت ذاته.

لكن الشاعرة لم تستنسخ الخطاب الشعري القديم مثلما فعل كثير من شعراء جيلها، وإنما ركبت من أمشاج نصوصه النص الذي يقول تجربتها، فالتراث كان بمثابة اللغة التي أسست في حيزها الشاعرة كلامها المخصوص.

هذا الصعود إلى الينابيع لا يبطن في نظرنا أي حنين إلى الوراء. فالشاعرة لم تكن تسعى إلى بعث الماضي بقدر ما كانت تسعى إلى بعث الحاضر، ولم تكن تتوق إلى إحياء النص القديم بقدر ما كانت تتوق إلى شحن النص الجديد بقوة ذلك النص القدي يمكن أن نعتبر ديوان عائشة السيفية "لا أحب أبي" خروجاً عن سلطة "الأنموذج" الذي رسخ في الشعر العماني تقاليد في الكتابة استحكمت صورها في العقول والأذهان حتى كانت بالقوانين أشبه. وتأسيساً لشكل من الكتابة جديد يعقد مصالحة بين عالمين ظلا في الثقافة العمانية متباعدين: "عالم النص" و"نص العالم".

لم يكن هذا التحول تحولاً في طرائق الأداء وأساليب الكتابة فحسب؛ وإنما كان أيضاً تحولاً في تمثل فعل الإبداع وتصور وظيفة الكتابة بحيث صار الشعر ضمن هذا التحول شكلاً من أشكال الوجود...

 

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة