بعد مهرجان كان الذي انعقدت دورته الأخيرة في تموز الماضي، تظاهرة سينمائية أخرى هي "موسترا البندقية" (1 - 11 أيلول) تُقام في ظروف صعبة ومعقدة تتحدى جائحة كورونا. تلك الظروف التي يبدو أن العالم بدأ يعتادها ويتعامل معها كأمر واقع، غيرت الكثير في نمط عمل أعرق المهرجانات والتقاليد الراسخة فيها منذ سنوات، ولا أحد يعلم كيف سيكون المشهد مستقبلاً. هل سيكون هناك ما قبل الجائحة وما بعدها بالنسبة لهذه المهرجانات أم أنها ستعود إلى سابق عهدها، أي بالشكل الذي عرفناه قبل هذه الكارثة الصحية التي حلت بالعالم؟ فالوباء فرض ترتيبات وإجراءات بيروقراطية شكلية تستنفد الطاقة وتتطلب مجهوداً إضافياً كان يمكن توظيفه في الاهتمام بالأفلام. إنها مسائل لم نكن نعرفها سابقاً، وتفاصيل ما كانت موجودة في حساباتنا، كحجز مسبق للمقاعد في الصالات على موقع المهرجان وخضوع لفحص "بي سي آر" كل 48 ساعة، فانتظار النتيجة التي تظهر في البندقية بعشر دقائق فقط، وغيرها من المسائل التي وضعت عقبة إضافية في طريقنا لتغطية حدث ثقافي بهذا الحجم.
"الجواز الأخضر"
الضيوف والمشاركون في البندقية في دورته الـ78 أقل عدداً والصالات تعمل بنسبة 50 في المئة من قدرتها الاستيعابية، حد أن القِطر الذي يحدث فيه المهرجان بدا كمنطقة معزولة لذوي الامتيازات، لا يدخله إلا الذين لا غبار عليهم وحاملو ما بات يُعرف في إيطاليا بـ"الجواز الأخضر" الذي يؤكد أنك تلقيت جرعتين من اللقاح أو خضعت لفحص خلال الساعات الـ48 الأخيرة. وعليك إبرازه كي يُسمح لك بدخول الصالات والمطاعم والحانات أو حتى ركوب القطار السريع، وهذا قرار حكومي يسري على كل الأراضي الإيطالية. من دون "الجواز الأخضر"، لا تستطيع مشاهدة فيلم أو فعل أي شيء مهم في الـ"موسترا". هذا علماً أن المهرجان أقيم العام الماضي بإجراءات عادية اقتصرت على ارتداء الكمامات والحفاظ على التباعد الجسدي. وهو المهرجان الوحيد في العالم الذي لم تُلغَ له أي دورة، بل أصر على أن يُقام حضورياً لا افتراضياً. لكن الـ"موسترا" هذا العام عاد بإجراءات أكثر صرامةً وجديةً لا تشبه ما كانت عليه في الدورة الماضية، عندما استفادت من حدوثها زمنياً بين موجتين كوفيديتين. فالإدارة تخشى أن تكون مسؤولة بأي شكل من الأشكال في نشر الوباء الذي ظهر للمرة الأولى أوروبياً في هذا البلد، وشهد مذذاك أياماً سوداء، ولم يتاعف منه إلا بعد آلاف الضحايا.
ينطلق المهرجان مع "أمهات موازيات"، أحدث أفلام المخرج الإسباني الكبير بدرو ألمودفار الذي كان عرض هنا في العام الماضي فيلمه القصير "الصوت الإنساني" المقتبس من مسرحية لجان كوكتو، مع تيلدا سوينتون. امرأتان تلتقيان في غرفة أحد المستشفيات حيث تضعان مولديهما. امرأتان عازبتان حملتا عن طريق الخطأ. جانيس (بينيلوبي كروز) التي بلغت منتصف العمر غير نادمة على ما أقدمت عليه لا بل تبدو مبتهجة. أما المراهقة آنا (ميلينا سميت) فخائفة و"تائبة" لا بل مصدومة. تحاول جانيس تشجيعها أثناء تنقلهما في ممرات المستشفى. الكلمات القليلة التي تتبادلانها في تلك اللحظات تخلق رابطاً عميقاً بينهما. كعادته، لن يكتفي ألمودوفار بهذا القدر، فيتدخل بلمسته الدرامية ليحوّل هذا اللقاء إلى لقاء حاسم بين شخصين يغيّر كل منهما حياة الآخر.
الهوية وشغف الأمومة
في كلمة أرسلها مخرج "كل شيء عن أمي" إلى المهرجان، يقول: "يبدأ الفيلم بجانيس التي تبحث عن وسيلة لفتح مقبرة جماعية تحتوي على جثة والد جدها الذي قضى خلال الحرب الأهلية الإسبانية، ويُختتم بعد ثلاث سنوات بفتح القبر. بين لحظتي البداية والنهاية، حيث تنشأ علاقتها بآنا ومضاعفاتها غير المتوقعة، يروي "أمهات موازيات" حكاية الأسلاف والأحفاد، باحثاً في حقائق تأتي من الماضي (…). هذا فيلم يتحدث عن الهوية وشغف الأمومة من خلال ثلاث أمهات مختلفات. فهناك إلى جانيس وآنا، والدة آنا أيضاً، هذه المرأة الأنانية والخالية من أي غريزة أمومة. عيوب هؤلاء الأمهات المختلفات تماماً عن السيدات اللواتي ظهرن في أفلامي حتى الآن، هي التي جذبتني إليهن. هذه أصعب شخصية لعبتها بينيلوبي كروز في مسيرتها، وربما الأكثر إيلاماً. والنتيجة مدهشة. إلى جانبها، أضحت الشابة ميلينا سميت اكتشاف الفيلم الأكبر. يُبرز نقاء آنا وبراءتها الأجزاء المظلمة عند جانيس. كلتاهما برفقة جيدة في حضور أيتانا سانتشيز غيون وإسرائيل إليجالدي. في النهاية، سيشكل كل هؤلاء جزءاً من عائلة غير متوقعة قائمة على التنوع، وهذا أيضاً شيء حقيقي وأصيل".
صحيح أن الافتتاح إسباني صرف، ولكن للأميركيين حضورٌ قوي هذا العام في جزيرة الليدو حيث تجري نشاطات المهرجان، وذلك بعد دورة ماضية كان حضورهم فيها خجولاً بسبب الأزمة الصحية التي حالت دون انتقالهم من قارة إلى قارة. هناك ما لا يقل عن أربعة أفلام أميركية في المسابقة الرسمية التي تنطوي على 21 فيلماً، بالإضافة إلى عروض عالمية أولى خارج المسابقة لأفلام أميركية، مثل "دون" لدوني فيلنوف الذي ينتظره العالم أجمع، أو أحدث عمل لأحد الأبناء المدللين للسينما الهوليوودية، ونعني به ديفيد غوردن غرين العائد إلى البندقية بفيلم "هوليوود تقتل"، الذي يُعد تتمة لآخر جزء من سلسلة "هالووين" ولكن على طريقة المخرج الشاب. مع هذا الحضور الأميركي القوي الذي سيأتي بعدد من النجوم إلى "الموسترا"، من أمثال مات دايمون وبن أفليك وكريستين ستيورات وماغي غيلنهول وجوش برولين وجايمي لي كرتيس (الأخيرة ستكرم بجائزة عن مجمل مسيرتها) وغيرهم، يستعيد المهرجان الدور الذي لعبه طوال السنوات الأخيرة في أن يكون مدخلاً للـ"أوسكار". ولا ننسى أن ثلاثة أفلام هي "روما" لألفونسو كوارون و"شكل المياه" لغييرمو دل تورو و"الجوكر" لتود فيليبس حققت نصراً في الـ"أوسكار" وكانت فازت قبل ذلك بـ"الأسد الذهبي" في البندقية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
21 فيلماً في المسابقة التي يترأس لجنة تحكيمها المخرج الكوري الجنوبي بونغ جون هو ستشغل اذاً المهتمين بالفن السابع، سواء ممّن هم في الجزيرة الفينيسية أو ممّن كانوا بعيداً منها مسافات. توقف خيار المدير الفني ألبرتو باربيرا وفريقه على تشكيلة فيها توازن بين أسماء مكرسة وأخرى تنضم حديثاً إلى عالم المهرجانات. التجربة علمتنا أن العناوين البراقة على الورق ليست دائماً كذلك عندما نكتشفها على الشاشة. مع ذلك، هناك حفنة من الأعمال التي تثير حماستنا: "عالم آخر" للفرنسي ستيفان بريزيه، "عداد ورق اللعب" للأميركي بول شرايدر، "يد الله" للإيطالي باولو سورنتينو، "الإبنة الضائعة" للأميركية ماغي غيلنهول و"قوة الكلب" للأسترالية جاين كامبيون و"سبانسر" للتشيلي بابلو لاراين، وغيرها من الأفلام التي تروي العالم ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، ولنا عودة مفصلة إليها تباعاً في الأيام المقبلة، من دون أن نغفل عن وجود أقسام موازية في المهرجان مثل "أوريزونتي" و"أسبوع النقاد" و"أيام فينيسيا" التي تقدم أفلاماً رهن الاكتشاف.