Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

مهرجان البندقية السينمائي تتوجه الكمامات ولا ازدحام أمام الصالات

 الإسباني ألمودوفار يخرج من الجحر بفيلم قصير ومذبحة سربرنيتسا تحبس الأنفاس

حفلة افتتاح مهرجان البندقية بالكمامات (موقع المهرجان)

مهرجان البندقية مختلف هذا العام بتفاصيل كثيرة. عميد التظاهرات السينمائية الذي تأسس في عهد موسوليني افتتح دورته السابعة والسبعين الأربعاء الماضي في أجواء تهيمن عليها القيود واحتياطات السلامة العامة على نحو لم نشهد له مثيل: ضيوف يتجولون في أرجاء جزيرة الليدو (حيث يعقد المهرجان) بوجوه مقنعة، ومُجبرون على مشاهدة الأفلام وهم يضعون الكمامات، وتباعد اجتماعي، ورجال أمن على مداخل مقر "الموسترا" يقيسون حرارة الداخلين على أن يمنع دخول من هم حرارتهم فوق الـ37.5 درجة مئوية، صالات ضخمة لا تفتح أبوابها الا لعدد محدود من المشاهدين لضمان عدم الازدحام، وحجز مسبق للتذاكر يتيح الجلوس في مكان معين فقط... الشخص الوحيد الذي رفض التقيد بهذه الإرشادات هو المخرج الروماني كريستي بيو الذي كان خلال وجوده في مهرجان ترانسيلفانيا قد صعد إلى خشبة المسرح وألقى خطاباً مثيراً للجدل يقول فيه برفضه ارتداء الكمامة، معتبراً أنه ليس أمراً طبيعياً مشاهدة فيلم مدته 200 دقيقة بكمامة. بعد أيام من هذه "الحادثة"، ألغى المهرجان مشاركته في لجنة التحكيم وجاء بالممثل الأميركي مات ديلون بدلاً منه.

هذا هو الوضع المستجد على المهرجان الإيطالي الذي يعد أول حدث ثقافي وسينمائي دولي كبير يعقد في العالم في زمن جائحة كورونا. فمنذ الدورة الأخيرة من مهرجان برلين الذي عقد في فبراير (شباط) الماضي، لم يشهد العالم أي موعد كبير مع السينما. كلها ألغيت أو تأجلت أو انتقلت إلى العالم الافتراضي الذي لم يأتِ بنتائج مرضية. بالنسبة لمدير "الموسترا"، ألبرتو باربيرا، كان تنظيم هذا الحدث كان ضرورياً. أولاً لتحدي الأزمة التي يمر بها العالم على المستويات الثقافية والاقتصادية والاجتماعية والصحية، وثانياً لإعادة الروح إلى أمكنة صارت شبه مهجورة، تمهيداً لمرحلة ما بعد كورونا، وثالثاً للقول إنه آن الأوان للعالم أن يتأقلم مع هذا الظرف لأنه سيطول، وعلى بزنس السينما أن يستمر، وعلى الصالات أن تفتح مجدداً، وعلى الحياة مواصلة رسالتها السامية.

بديل معقول

إلى الآن، يبدو أن رهان باربيرا لم يكن مخطئاً، فهو قد استطاع أن يقدم بديلاً معقولاً، في حين أن كثيراً من المهرجانات الأخرى استسلمت أمام الخطر، خصوصاً أن المخاوف من موجة ثانية لكورونا بددت الآمال للنهوض بهذا القطاع المهدد بالموت. باربيرا رفض تحويل المهرجان إلى حدث يبث أونلاين، فهذا لا يتوافق ومفهومه للمشاهدة السينمائية.

الأجواء المهيمنة على المهرجان في الأيام الأولى كانت كئيبة بعض الشيء. غابت أيضاً السجادة الحمراء الشهيرة التي كان يمشي عليها النجوم العالميون مستعرضين مفاتنهم أمام فلاشات المصورين. لا مكان للبهجة والاحتفال هذا العام. يمكن القول إنها دورة تقتصر على التحدي، دورة إثبات وجود، دورة الحد الأدنى الذي يضمن الخروج التدريجي من الأزمة. دورة بعدد أقل من الصحافيين والضيوف والأفلام. كثر لم يشاركوا فيها لأسباب عدة: إما ان البلدان التي يأتون منها لا يزال مواطنوها محظورين من الدخول إلى الاتحاد الأوروبي، أو أنهم خائفون، أو أنهم لم يحمسهم البرنامج الذي تغيب فيه الأسماء الكبيرة.

انطلق حفل افتتاح المهرجان بتحية إلى الموسيقي الكبير إنيو موريكوني الذي غاب في السادس من يوليو (تموز) الماضي. الأوركسترا بقيادة ابنه أندريا عزفت إحدى مقطوعاته على صور من أفلامه. ثم كان دور رئيسة لجنة التحكيم الممثلة الأوسترالية كيت بلانشيت إلقاء كلمة عن أهمية التجمع في صالة سينما في زمن كهذا. خطاب مشابه، ولكن أكثر راديكاليةً، ألقته الممثلة الاسكتلندية تيلدا سوينتون المكرمة بـ"أسد ذهبي" عن مجمل أعمالها، وهي لم تتردد من الهجوم على منصات العرض التدفقي والسفن السياحية التي ترسو في ميناء البندقية من دون أي اعتبارات للأضرار البيئية.

إلا أن ذروة السهرة تمثلت في صعود سبعة من مديري المهرجانات السينمائية الأوروبية (برلين، ولوكارنو، وروتردام، وكارلوفي فاري، وسان سيباستيان، وكان، والبندقية) إلى المسرح لقول كلمة تضامنية أشبه بمانيفستو مع الصروح الثقافية التي هي المهرجانات، والتي يشعر الجميع بأنها مهددة في زمن تائه بين الجائحة والأزمة الاقتصادية التي تلوح في الأفق والدور الذي تلعبه المشاهدة المنزلية في تهجير المتفرجين من الصالات. وفي غياب الأميركيين الذين كانوا يضمنون فيلم الافتتاح منذ سنوات عدة، أسندت هذه المهمة إلى المخرج الإيطالي دانييلي لوكيتي (صاحب "حياتنا" - 2010)، وفيلمه "روابط" الذي يحكي عن علاقة زوجية متأزمة على أجيال عدة.

عودة ألمودوفار

غداة الافتتاح عرض "الصوت البشري"، الفيلم القصير الناطق باللغة الإنجليزية للمخرج الإسباني الكبير بدرو ألمودوفار، المعروض خارج المسابقة الرسمية التي تتضمن 18 فيلماً هذا العام. الفيلم مقتبس من مسرحية للفرنسي جان كوكتو كان ألفها في عام 1929. صور ألمودوفار الفيلم مباشرةً بعد دخول إسبانيا حيز الغلق (مات فيها إلى الآن 29 ألف شخص من كورونا). سيدة (تيلدا سوينتون) على شفير الانهيار العصبي تتصل بحبيبها وتتلو عليه مونولوغاً يمتد لمعظم مدة الفيلم. يأتي مخرج "كل شيء عن أمي" بفيلم غارق في الألمودوفارية، من هواجس اللون إلى نوع التمثيل. سوينتون التي تلعب دور فنانة شهيرة تنتظر رجلاً لن يأتي. هذا الرجل يجسد كل حياتها وشهوتها ورغباتها، لكن فجأةً قرر تركها بعد علاقة دامت ثلاثة أعوام. وهي قد حضَّرت له أغراضه بطلب منه، في انتظار اللقاء الأخير. هي تعلم جيداً أن هذا اللقاء لن يغير شيئاً في قراره، ولن يقنعه في البقاء.

لا علاقة للفيلم بالحجر المنزلي إلا إذا ربطنا بينه وبين فكرة العزلة والوحشة التي يغرقنا فيها الفيلم بكل تفاصيلها. خلال المؤتمر الصحافي الذي تلا العرض، صرح ألمودوفار بأن الجلوس في البيت لوقت طويل بسبب الغلق أثبت للناس الكثير من الأشياء، منها مدى اعتمادنا على الخيال. وأثنى على دور منصات العرض التدفقي، ولكن في الوقت نفسه كشف عن اكتشافه أن بيوتنا باتت أمكنة نسجن فيها. فهذا الحجر أثبت بأنه يمكننا أن نجد الحب ونحن في البيت، أو نعمل ونطلب الطعام من دون أي حاجة للخروج. وهذا ما يجده ألمودوفار أمراً في غاية الخطورة، خصوصاً أن الشركات اكتشفت أن إجبار الناس على العمل في البيت يعود عليها بتكلفة أقل. وأكد أنه لا يرغب في البقاء داخل جدران هذا السجن مستقبلاً. بالنسبة إليه، فالسينما تفتح المجال للمغامرة: الخروج وارتداء الملابس والمشي في الشارع واستعادة الحياة بكل أشكالها. قال: "مشاهدة فيلم تعني مشاركة لحظات مع أناس لا تعرفهم داخل صالة مظلمة. بعض الأشياء لا يمكن اكتشافها إلا في صالة مظلمة مع أناس لا نعرفهم. يمكن مشاهدة الأفلام بأي وسيلة، ولكن لكوني سينمائياً، فبإمكاني سماع تنفس المشاهدين، وهذا النوع من التواصل يتبدد عندما يشاهد الأخير فيلماً عبر نتفليكس".

مجزرة البوسنة

الفيلم الذي هز المهرجان في أيامه الأولى وجعل بعضهم يذرف الدموع محدثاً صدمة في نفوس الكثيرين هو "كو فاديس، عايدة؟" للمخرجة البوسنية ياسميلا زبانيتش، المعروض في المسابقة الرسمية. هذه ليست المرة الأولى التي تتحدث فيها السينمائية الأربعينية عن مآسي بلادها. ففي عام 2013 قدمت فيلماً جميلاً بعنوان "لأولئك الذين لا يستطيعون سرد الحكايات" عن ممثلة أسترالية تزور البوسنة بعد الحرب لتشهد على فصل من التاريخ الأليم. هذه المرة تأتينا بفيلم "مرهق" يحبس الأنفاس عن مُدرّسة تُدعى عايدة (ياسنا دوريتشيك) تعمل مترجمة لحساب منظمة الأمم المتحدة، ونراها تحاول شق طريقها وسط مذبحة سربرنيتسا. هذه المذبحة وقعت في البوسنة والهرسك بين 11 و22 يوليو (تموز) من عام 1995، وهي تعتبر أكبر مذبحة شهدتها أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، قتل فيها أكثر من 8000 شخص (رجال وشيوخ وأطفال) من المسلمين البوشناق على يد القوات الصربية بقيادة الجنرال راتكو ملاديتش الملقب بـ"جزار البوسنة".

الفيلم يستعير عنوان "كو فاديس"، رواية شهيرة للكاتب البولندي هنريك سينكيفيتش، عن اضطهاد المسيحيين الأوائل في روما القديمة. عايدة في فيلم زبانيتش تبحث عن زوجها وولديها الذين يختبئون في مكان ما ليحموا أنفسهم من المجزرة. على غرار "الطير المدهون" الذي صور معاناة صبي خلال الحرب العالمية الثانية، وعرض العام الماضي في البندقية، يقدم "كو فاديس، عايدة؟" للمشاهد تجربة انغماسية، وهي نزول حقيقي في فظائع الحروب من دون أي هبوط يذكر للإيقاع، محافظاً على تماسكه. يقول الناقد محمد رضا عن الفيلم: "هذا عمل مُوجع لأنه حقيقي. ينظر إلى الوضع من دون مواربة ولا تمويهات أو محاولات تخفيف. لا أعذار ولا اعتذارات والأمم المتحدة في هذا الفيلم شريك غير مباشر لتلك الكارثة. إنه عمل جيد الصنعة إلى حد بعيد. الخاص والعام يلتقيان في خط واحد لا يمكن فصله".

زبانيتش التي تقول إن هذه المجزرة تسببت بتروما لجيل كامل من البوسنيين، توخت الدقة في سرد الوقائع التاريخية، لكن لم تتوانَ عن تحميل قوات حفظ السلام بعض المسؤولية في الجريمة التي وقعت، معتبرةً أنهم لم يطلقوا رصاصة واحدة لحماية الضحايا، رغم توضيحها أن الفيلم ليس موجهاً ضد منظمة الأمم المتحدة.

المزيد من سينما