Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هل ارتبط غوستاف فلوبير حقا بالمربية اللندنية الحسناء؟

سجال إنجليزي – فرنسي حول واحدة من علاقات صاحب "مدام بوفاري"

غوستاف فلوبير (غيتي)

حدث ذلك في ثمانينيات القرن العشرين، يوم ازدهر نوع من أدب استكشافي يحاول أن يعثر على حكايات غرام غير معروفة في السير التي كانت تكتب أو تصور بوفرة لكبار مبدعي الماضي، فإن لم يعثر على حكايات من ذلك النوع يصار إلى اختراعها، كما حدث مثلاً حين جعل كاتب سيناريو فيلم "شكسبير عاشقاً" لشكسبير ملهمة حسناء تنتمي إلى الأرستقراطية الإنجليزية العليا، وجعلها كذلك ملهمته خلال كتابته مسرحيته الأشهر "روميو وجولييت"، والأكثر من هذا جعلها تتنكر في ثياب الرجال – حيث لم يكن مسموحاً للنساء بالتمثيل على خشبة المسرح – كي تلعب في المسرحية نفسها دور... الفتى العاشق! وكانت الحكاية كلها مسلية دون أن يكون لها أصل في الحقيقة، ولكن في المقابل كانت هناك حكايات كثيرة أعيد اكتشافها لعل أشهرها حكاية تلك الممثلة التي عشقها تشارلز ديكنز، وأفسدت علاقته بزوجته وبناته، وأفرد لها بيتر أكرويد صفحات بديعة في السيرة التي كتبها لصاحب "أوليفر تويست". تلك كانت حكاية مخترعة، وهذه كانت حكاية حقيقية... وكانت متعة القراءة أو المشاهدة في الحالتين مضمونة. فأين نموضع حكاية غرام "أدبية" أخرى لسنا واثقين حتى الآن من انتمائها إلى تلك الخانة أو هذه؟

فلوبير و"غرامه" الإنجليزي

ما نتساءل حوله هنا هو حكاية "غرام" يمكننا أن نتحدث عن افتراض وقوعها بين الكاتب الفرنسي غوستاف فلوبير وحسناء إنجليزية كان قد جيء بها من لندن لتشتغل في دارة أسرة فلوبير مربيةً لابنة أخيه كارولين. كانت المربية الحسناء، والتي أُثر عنها أن تجيد الفرنسية والإنجليزية معاً مثقفة وقارئة جيدة. والدليل أنها بعد فترة من إقامتها في ديار آل فلوبير ستكون هي المترجمة الأولى لرواية "مدام بوفاري" التي كان غوستاف قد أنجزها قبل ذلك بعامين، لكنها سترتبط خارج إطار هذا البعد الثقافي، وبحسب ما ترويه كاتبة إنجليزية معاصرة لنا هي هيرميا أوليفر، بالكاتب الفرنسي الشاب في ذلك الحين برباط عاطفي ليست الكاتبة واثقة من أنه سيتحول إلى علاقة حقيقية... "مجرد إعجاب" ستؤكد هيرميا في وقت تملأ فيه النص الذي صدر أولاً بالإنجليزية ثم ترجم إلى الفرنسية بعبارات متحفظة، مثل "على الأرجح"، و"من المحتمل"، و"ربما يمكننا أن نقول"، وذلك لأنها فيما كانت تنجز هذا الكتاب لم تتمكن من الحصول على ما يكفي من الوثائق كي تكتب بكل وضوح حول علاقة حقيقية أقامها فلوبير مع تلك الشابة حتى وإن كان هو قد ذكر في بعض مراسلاته شيئاً عن إعجابه الكبير بها "إعجابا جعلني أحبس نفسي أحياناً في خزائن البيت لكي لا أتجرأ على لقائها ومغازلتها"!

حماس فرنسي مضحك

ومع ذلك، في مقابل هذا التحفظ الإنجليزي المفهوم والمبرر، نجد كاتباً فرنسياً يدعى جاك لوي دوشين يسرع في عام 1984، أي بعد فترة يسيرة من صدور الكتاب الإنجليزي إلى إصدار كتاب بأكمله عنوانه "حياة غوستاف فلوبير الجنسية"، يركز فيه على تلك الحكاية، ناقلاً إياها من كتاب السيدة هيرميا أوليفر، واصفاً هذه الأخيرة بـ"المكتشفة الكبرى لهذا الغرام الكبير في حياة فلوبير". ولنذكر هنا بأن المؤلفة ستقول إنها ضحكت كثيراً لذلك التوصيف بقدر ما ضحكت من "تأكيدات" المؤلف الفرنسي المتحمس الذي بنى نظرية كاملة ومؤكدة على تخمينات أوردتها هي دون أن تكون متأكدة منها. ولقد تلا ذلك التصريح سجال فرنسي – إنجليزي حول الأمر أثار فضولاً كبيراً، وجعل كثراً ينقبون في مراسلات فلوبير وأوراقه، ولكن دون جدوى. صحيح أنهم عثروا على نفس ما كانت هيرميا أوليفر قد عثرت عليه: فالمربية المعنية وتدعى جولي هربرت عملت بالفعل لسنتين وأكثر قليلاً في دارة آل فلوبير، وتعرفت بالفعل على غوستاف، وساعدته في ترجمتها لروايته "مدام بوفاري" التي سيقول عنها فلوبير إنها "ترجمة رائعة" دون أن يكون ملماً باللغة الإنجليزية. كما أن جولي بعد تركها العمل وعودتها إلى لندن ستزور منطقة كرواسيه الفرنسية، حيث دارة فلوبير مرات عدة، كما أن فلوبير نفسه سيزور لندن بعد ذلك مرات ومرات، ولكن حتى وإن كان يفترض أنه التقاها هنا أو هناك، وربما تناول العشاء معها ذات مساء في مطعم لندني فاخر، فإنه لا شيء من ذلك كله يوصل إلى أي يقين بأنها كانت عشيقته.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

صاحب "ببغاء فلوبير" يتدخل

وهذا على الأقل ما أكده في مقال نشره حول الكتاب حين صدرت طبعة إنجليزية جديدة منه الكاتب الإنجليزي جوليان بارنز الذي يعتبر عادةً واحداً من أكبار الكتاب الإنجليز معرفة بالحياة الثقافية الفرنسية، بل خاصة حتى بحياة فلوبير لدرجة أنه وضع عنه كتاباً هو "ببغاء فلوبير"، حيث نجده في مقال تقريظي نشره في ملحق أدبي لصحيفة "تايمز" يشيد بالكتاب وبالعمل الدؤوب "الذي قامت به مؤلفته هيرميا أوليفر التي اشتغلت سنوات على موضوعها على الرغم من عدم تمكنها من العثور على ما يكفي من الوثائق" ومع ذلك تمكنت من "إبداع عمل أدبي كبير" عمل حافل بالحيطة والحذر و"بنزوع علمي لا شك فيه"، بحسب ما يؤكد بارنز على النقيض من الكاتب الفرنسي الذي "حوّل الحيطة إلى يقين والحذر إلى تأكيدات مضحكة". ويضيف بارنز أن حكاية فلوبير وجولي لم تكن لا حكاية شغف كبير، ولا حتى حكاية علاقة يمكن وصفها بالعابرة، "كانت بالأحرى صداقة جيدة قامت بين الاثنين، واستمرت طويلاً"، خاصة أن جولي كانت تتسم بتلك الوداعة واللطف اللذين كان فلوبير يحب وجودهما لدى نوع خاص من نساء يستنكف عن تطوير العلاقة معهن، لكنه يحفظ لهن مودة وصداقة مؤكدتين"، كحاله مثلاً مع "سيدة أخرى من النوع نفسه هي الآنسة ليرواييه ديلا شانتيبي، التي تراسل معها فلوبير سنوات طويلة دون أن يلتقيها ولو مرة واحدة"، لكنه ودائماً، بحسب بارنز، استوحى منها ومن شذرات تحراها عنها وتلمسها في اللغة التي كانت تكتب بها رسائلها له، ملامح أساسية لشخصية فليسيتيه في قصته "قلب بسيط". والطريف أن بارنز يقول في خاتمة مقاله إن هيرميا أوليفر مؤلفة الكتاب المعنون "فلوبير والمربية الإنجليزية" تنتمي هي الأخرى إلى نفس النوع من النساء، وربما كان ذلك ما دفعها إلى التفرغ سنوات طويلة لوضع الكتاب وكأنه نوع من سيرة ذاتية منشودة لها، هي التي لا باع لها أصلاً في الدراسات الأدبية، إذ اعتادت أن تكتب في الصحف المحلية المتخصصة في فن العناية بالحدائق، والتي تصدر حيث تعيش في منطقة ريفية إنجليزية!

أين الرسائل؟

بقي أن نذكر أن مقالاً آخر صدر حول الموضوع نفسه في ملحق أدبي إنجليزي آخر بدا أشد يقيناً مما يبدو عليه مقال بارنز، حيث أكد أن هيرميا أوليفر تبدو بين سطور كتابها على يقين من أن ما بين فلوبير وجولي كان غراماً، لكنها تركت البحث في حقيقة ذلك الغرام، بعد أن أعطت إشارات أولى، لمن سيتمكنون يوماً من العثور على الأدلة الكافية. وربما على رسائل متبادلة بين الفرنسي والإنجليزية أخفيت بمعرفتهما أو رغماً عنها لأسباب يمكن أن تكتشف حين تكتشف الرسائل، علماً بأن ثمة فرضيات تقول إن كارولين ابنة أخي فلوبير قد تكون هي من أخفى الرسائل أو دمرتها لسبب يبدو الآن غامضا. ولذا لا يمكن اليوم عند هذا المستوى الغامض من البحث الوصول إلى أي تأكيد يتحدث عن علاقة ما بين صاحب "مدام بوفاري" والمربية الحسناء التي ستبقى في تاريخ الأدب بوصفها أول من ترجم رواية غوستاف فلوبير تلك إلى الإنجليزية، حتى وإن كنا نعرف أن تلك الترجمة لن تنشر أبداً على الرغم من فائق إعجاب فلوبير بها!

المزيد من ثقافة