Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

فلوبير مؤسس الرواية الأوروبية الجديدة مع "مدام بوفاري"

150 تظاهرة فنية وأكثر من 200 لقاء في الذكرى المئوية الثانية لولادته

الروائي الفرنسي غوستاف فلوبير بريشة الرسام بيار فرانسوا أوجين (غيتي)

"مدام بوفاري... تبقى دائماً رواية الروايات التي لا يمكن للنقد الأدبي أن يتجاوزها. وفي وقت نتحدث عن أصول الفن، فإننا لا بد من أن نكون على استعداد للبحث عن فلوبير". هذا ما قاله الروائي النوبلي ماريو فارغاس يوسا في كتابه "مجون لا نهائي: فلوبير ومدام بوفاري"، وهو من أجمل ما قيل في رائعة غوستاف فلوبير، الذي يحتفل العالم بالمئوية الثانية لولادته (1821-2021). استغرقت "مدام بوفاري" خمس سنوات من الكتابة (من 1851 إلى 1856)، لكنها خلّدت صاحبها غوستاف فلوبير، وجعلته واحداً من أهم الروائيين العالميين، باعتبارها واحدة من أفضل الروايات العالمية على الإطلاق.

المصادفة أن الاحتفاء بفلوبير يتزامن مع احتفالية عالمية بالروسي العظيم دوستويفسكي في ذكرى مئويته الثانية أيضاً، بعدما أعلنت "يونيسكو" عام 2021 باسم صاحب "الجريمة والعقاب". وما يجمع بين فلوبير ودوستويفسكي ليس بقليل. كلاهما ولد عام 1881 (بفارق شهر واحد فقط)، ثم رحلا في وقت متقارب جداً، بفارق عام واحد فقط. (فلوبير 1880 ودوستويفسكي 1881). كلاهما أسهم في تغيير مجرى الرواية وانتقلا بها من الرومانطيقية إلى الحيّز الواقعي والنفسي. وانشغل أدبهما بالإنسان نفسه، بأخطائه وخيباته ومخاوفه ونزواته وطبائعه وتناقضاته... هما يجتمعان أيضاً في لائحة الكتّاب الأكثر قراءة على مرّ التاريخ. دوستويفسكي عبر أربعة أعمال هي: "الجريمة والعقاب" و"الأبله" و"الشياطين" و"الأخوة كارامازوف"، فيما ذُكر فلوبير مرتين من خلال تحفتَيه: "مدام بوفاري" و"التربية العاطفية". الاثنان عاشا تجربة قاسية مع العصاب، لكنهما صنعا من معاناتهما فنّاً وعبقرية وأدباً لا ينتهي. قد يكون مرض دوستويفسكي أكثر قسوة ووضوحاً في رواياته مما هو عند فلوبير.

لكن قلق فلوبير أو روحه المعذبة برزت في أولى كتاباته "مذكرات مجنون"، التي أنجزها في عمر الـ17 سنة، ولم تُنشر إلا بعد 20 عاماً من وفاته. وجاءت كتابته هذه اليوميات بعد لقائه امرأة تكبره بـ15 عاماً هي ماري شيزنغر، التي استحضرها في روايته "التربية العاطفية". ولعل كآبته الواضحة في يومياته، تعود إلى هذا الحب المستحيل، إضافة طبعاً إلى انشغاله بفكرة "الموت" الذي شكّل صورة طاردة في مخيلته، مذ كان طفلاً يلهو في مستشفى يملكه والده، الطبيب الشهير. التشابه بين فيودور دوستويفسكي وغوستاف فلوبير، تقابله اختلافات تبدأ بنشأة الاثنين، وفي خلفيتهما الاجتماعية، وظروفهما الاقتصادية وغيرها. ومن الناحية الفنية، كان دوستويفسكي أكثر غزارة من فلوبير. كما كانت أعمال دوستويفسكي تقوم على "البطل/ الرجل"، في حين اختار فلوبير أن يمنح المرأة حيّزاً أكبر في أعماله.

وفي روايته الأثيرة "مدام بوفاري"، قدّم الكاتب بطلة (امرأة) هي "إيمّا" التي فاقت فلوبير نجومية. بل إنها تجاوزت فكرة "البطل" الروائي، لتغدو أسطورة أدبية، ألهمت الفنون الإبداعية (في الموسيقى والرسم والسينما). بل إنها أثّرت في العلوم الإنسانية، إلى حدّ اشتقاق مصطلح علمي/ نفسي، من اسمها "بوفاريزم"، وهو يدلّ على التمادي في الخيال والحلم بعالم مغاير أو ربما معاكس للواقع.

ولعل اهتمام فلوبير بالشخصية النسائية نابع من ارتباطه الوثيق بأمّه، القارئة والحنونة. وكانت هي النسخة النقيضة لصورة والده العملي والقاسي. من دون أن ننسى أيضاً قصة حبّه لماري شيزنغر التي رأى فيها، كما يقول سارتر في كتابه "أبله العائلة" كثيراً من ملامح أمّه.

تحفته الروائية

"مدام بوفاري" هي نقطة المحور في حياة فلوبير. تطلبت منه وقتاً طويلاً، لكنها ظلّت السبب الأهم في تخليد اسمه مدى الحياة. وقد أعلن مراراً أن العمل عليها كان بطيئاً ومتعباً وشاقّاً، فكأن الكتابة عند فلوبير كانت نوعاً من الولادة. وهذا ما نقرأه في رسائل كثيرة كتبها إلى حبيبته الشهيرة لويز كوليت: "بعد تغييرات متعددة، أتقدم ببطء شديد في كتابة بوفاري..."، "لم أكتب في حياتي شيئاً أصعب مما أفعله الآن!  قد يستغرق مشهد النُزل هذا ثلاثة أشهر... لا أعرف. أشعر أحياناً بالرغبة في البكاء، لدرجة أنني أشعر بالعجز".

بدأ فلوبير كتابة "مدام بوفاري" عام 1851 بعد عودته من رحلته إلى مصر، في حين كان يكتبها في ذهنه مذ قرأ خبراً في جريدة عن امرأة أوحت له شخصية "إيمّا". عمل على الرواية حتى عام 1856، وكان مهموماً بمسألة الأسلوب، قدر اهتمامه بالفكرة وأكثر. نُشرت الرواية متسلسلة في مجلة Revue de Paris، ثم حوكم مدير المجلة ليون لوران بيشات والناشر ومؤلفها غوستاف فلوبير بتهمة "إهانة الأخلاق العامة والدينية والأخلاق الحميدة". هذه المحاكمة هي من أشهر المحاكمات الأدبية، وقد صوّر المخرج الأميركي فنسنت مينيللي، جانباً منها ضمن فيلمه المقتبس من الرواية، مدافعاً عن الجانب "اللاأخلاقي"، باعتباره جزءًا من الحقيقة والواقع والحياة. دافع عنه المحامي جول سينارد، كما تلقّى دعماً كبيراً من شخص فيكتور هوغو الذي كتب له: "أنت أحد القمم النبيلة التي تضربها جميع الضربات، لكن لم يُهدم منه شيئاً. الرواية ستحقّق نجاحاً مهماً في المكتبات".

 وفي إحدى الرسائل الموقعة بتاريخ 30 أغسطس (آب) 1857، كتب هوغو لفلوبير، قائلاً: "لقد صنعت كتاباً جميلاً، يا سيدي، ويسعدني أن أخبرك. بيني وبينك رابط خاص يصلني بنجاحاتك (...)، مدام بوفاري تحفة أدبية. أنت، يا سيّد، أحد العقول الرائدة في جيلك. استمرّ واحمل شعلة الفن عالياً"...  والمفارقة أن أدب هوغو هو ما دفع فلوبير إلى الكتابة. ففي العاشرة من عمره، حاول أن يُقلّد صاحب "البؤساء" من خلال قصة قصيرة كتبها، لكن والده لم يشجعه، خوفاً من أن يتعلّق ابنه بالأدب بدلاً من الطب (مهنة والده).

"مدام بوفاري" إذاً كانت مجرّد بذرة في رأس فلوبير يوم زار الشرق في رحلة دبلوماسية، رافقه فيها الكاتب والمصور مكسيم دوكان، زارا فيها مناطق مختلفة، أهمها مصر التي ارتبط وجوده فيها باسم "كوتشوك هانم"، الراقصة التي اتّخذها حاكم مصر سليمان باشا جارية له. انبهر فلوبير بجمالها، وإن ظلّت نظرته إليها خاضعة لمفهوم "استشراقي" نمطي، لا يرى في "المرأة الشرقية سوى ماكينة جنس، لا تُفرِّق بين رجل وآخر".

وعلى الرغم من أن فلوبير عبّر في كتاباته عن افتتانه بمصر، عاب عليه كثيرون نظرته الدونية إلى ما هو شرقي، وهذا ما فُهِم من كلامه عن النساء، البسطاء، السلوكيات...  وكان المفكر إدوارد سعيد قد توقّف في كتابه "الاستشراق" عند نظرة فلوبير الكولونيالية المتعالية للشرق، مثله مثل غالبية المستشرقين الغربيين الذين عملوا وقتها كناشطين في سياسات دولهم الاستعمارية. وقد تطرّق أيضاً إلى علاقته بالراقصة "كوتشوك هانم" ليحكي عن الربط الدائم بين "الشرق" و"الجنس" في المخيلة العربية.

البُعد السيرذاتي

كان فلوبير يرى في نفسه شخصيتين منفصلتين. الأولى هي شخصيته الواقعية، الخارجية التي يعرفها الناس. والثانية هي الشخصية الحميمة، الداخلية التي تتجلّى في أعماله. وكان يحاول دائماً ألا يعظّم من شأن الشخصية الأولى بالقول: "لا ينبغي أن يهتم القارئ بشخصي المتواضع الذي لا أهمية له. الشيء المهم فقط هو عملي الأدبي".  ومع ذلك، فإن النقّاد والقرّاء معاً، توقفوا عند البعد السيرذاتي في أعماله، خصوصاً أن روايته "التربية العاطفية" (كُتبت من 1864 حتى 1869) تضمنت أجزاءً من سيرته الذاتية، مثل لقاء السيدة أرنو، المستوحى من لقاء فلوبير مع إليسا شليزينغر في تروفيل خلال صيف عام 1836، وتجاربه كطالب في القانون خلال ثورة 1948 وغيرها الكثير من الذكريات الشخصية التي اعتمدها مواد مرجعية ووثائق في كتابه.

لكن الاهتمام بهذه الرواية لم يكن مبكراً. ففي البداية، لم تلقَ "التربية العاطفية" نجاحاً يُذكر، ولم تحقق مبيعات مقنعة، بل ذهب بعضهم إلى حدّ وصفها بـ"خيبة الأمل"، قبل أن يقول الناقد الإيرلندي جون بانفيل إن الرواية المعاصرة ولدت من رحم "التربية العاطفية".

من جهة أخرى، بحث قرّاء ونقّاد، وما زالوا يبحثون، عن البعد السيرذاتي في رواية "مدام بوفاري"، متكئين على عبارة باتت شعاراً مرافقاً لهذا العمل: "مدام بوفاري هي أنا". لكنها في الواقع أقرب إلى القارئ الذي توجّه إليه بوفاري، منها إلى الكاتب، باعتبار أنها مشاركة في ما كان يُسمّى "الحماقة البرجوازية" (مثل تشرّب أفكار مسبقة...)، ومتأثرة بالأدب السيّء وغيرها. لكن النقد الحديث توصّل أخيراً إلى أن هذه الجملة التي أوردها للمرة الأولى رينيه ديشارم في كتابه "فلوبير: شخصيته وأفكاره" (1909) ليست مثبتة أو موثّقة، وإنما تمّ تناقلها عنه، حتى باتت راسخة في العقول.

وإذا كان فلوبير قد قال فعلاً هذه الجملة لأحد أصدقائه، فهذا على اعتبار أن "إيمّا" هي شخصية "عالمية"، الشخصية التي لم تُرسم كـ"فرد" وإنما كـ"نموذج اجتماعي" un type social، وكصورة كرّست انتصار الواقعية النفسية على الرومانطيقية، كتيار أدبي جديد. ولكن هل هي فعلاً فلوبير؟ بماذا؟ وكيف؟ السجال ما زال قائماً.

احتفالات إلى نهاية العام

وبالعودة إلى الاحتفالية الفرنسية باسمه، نجد أن فلوبير، المولود في روان قبل 200 عام، يعود مجدداً من خلال أحداث ثقافية مختلفة في فرنسا، تحديداً في أنحاء النورماندي.

ولهذه المناسبة، حددت لجنة "فلوبير 21" الكثير من المشاريع، وقد تمّ إنشاء لجنة علمية وثقافية لضمان جودة هذه الأحداث الثقافية التي انطلقت أخيراً، وتستمر حتى نوفمبر (تشرين الثاني) 2021. ويقدّم بيت الشعر في النورماندي، قراءات ونشاطات تمثيلية ومسرحية، مستوحاة من روايات فلوبير ومن رسائله إلى حبيبته الشاعرة لويز كوليت، إضافة إلى مسابقات لكتابة القصص القصيرة وغيرها. كما يحتفل المعهد الفرنسي في الذكرى المئوية الثانية لميلاد فلوبير من خلال احتفالات وطنية على مدار العام، وستضم وزارة التربية الوطنية والشباب والرياضة غوستاف فلوبير في برامج السنة للعام الدراسي 2021- 2022.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وبدءًا من شهر أبريل (نيسان) 2021 وحتى يونيو (حزيران) 2022، سيكون هناك أكثر من 200 احتفالية بين طبعات كتب جديدة وعروض حيّة ومعارض ومؤتمرات وورش سياحية أو مسرحية. ولكن أمام استمرار الجائحة في فرنسا والعالم، قد تُقدّم بعض هذه الأنشطة عن بُعد، أو قد يتمّ تأجيلها إن تعذّر تقديمها افتراضياً.

عام 1881 كان ميموناً إذاً بولادة ثلاثة من أكبر أدباء القرن التاسع عشر، هم: فلوبير وبودلير والروسي دوستويفسكي. ويأتي عام 2021 للاحتفاء بهم وبنتاجهم الفنّي الخالد على مدار التاريخ. وفي ظل عزلة يعيشها العالم، قد لا نجد سوى أدبهم العظيم فرصة للتحليق خارج حدود الخوف والضجر والانتظار.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة