مهرجان كان السينمائي (6 -17 يوليو (تموز) الحالي) ينتهي بعد بضعة أيام، وحتى كتابة هذه السطور يبدو أن فيلم "قهرمان" للمخرج الإيراني أصغر فرهادي هو الأقرب إلى الفوز بـ"السعفة الذهبية" للدورة الرابعة والسبعين، التي يترأس لجنة تحكيمها الأميركي سبايك لي. الفيلم كامل متكامل نصّاً وإخراجاً وتمثيلاً، ويقول الكثير عن المجتمع الإيراني الحالي وتناقضاته ونفاقه وقسوته. قبل ثلاث سنوات، كان فرهادي افتتح المهرجان بفيلم باهت صوَّره في إسبانيا مع نجوم مثل خافيير بارديم وبينيلوبي كروز، حمل عنوان "الجميع يعلم"، لكنه لم يُستقبَل استقبالاً جيداً، واعتُبر فرهادي دخيلاً في ثقافة لا يفقه منها شيئاً. الأمر كان واضحاً بالنسبة إلى كثيرين أن الرجل يعوم في مياه ليست مياهه وينسخ تجربة أفلامه في إسبانيا. الآن، عاد فرهادي إلى الأصل، إلى منبع حكاياته، إلى وطنه، ليصور فيلمه العاشر، والنتيجة باهرة على المستويات كافة.
"قهرمان" ("بطل" بالعنوان الفرنسي) يأخذ من مدينة شيراز موقعاً جغرافياً لحكاية بسيطة ومعقدة في آن معاً، حكاية من تلك التي يحبها المعلم الإيراني، لأنها تشكل تحدياً له ولسينماه. حكاية مفتوحة على صراعات، يجيد فرهادي كيف يولدها ويتعامل معها، ويحملها إلى ذروتها الدرامية لقطة بعد لقطة، لا بل يمكن القول إنه بات مرجعاً فيها. فمقابل كل حل عنده ثمة مشكلة، لا العكس.
المال والسجن
في هذا الفيلم الذي خطف قلب الصحافة العالمية، يطرح فرهادي مجدداً تيماته المفضلة وفي مقدمها الكذب، من خلال قصة رجل اسمه رحيم (أمير جديدي) يُسجن بسبب ديون لم يستطع تسديدها. نراه في البداية وهو يغادر السجن في مأذونية تستغرق فترة قصيرة، فيحاول إقناع صاحب الدين الذي وضعه في السجن بإسقاط حقه عنه مقابل أن يعطيه جزءاً من المال وتقسيط البقية على عدة أشهر. زوج شقيقته هو الذي يتولى إيجاد حل بينهما يحفظ كرامة الطرفين. إلا أن الأمور تأخذ مجرى مختلفاً، عندما يجد رحيم شنطة فيها قطع من الذهب. بدلاً من بيع محتواها وتسديد دينه، يقرر إعادة الشنطة إلى صاحبتها، الأمر الذي يجعله بطلاً في نظر الناس، فتصبح قضيته قضية رأي عام. يراهن رحيم على هذا الأمر كي يكسب تعاطفاً شعبياً يساعده على الخروج من السجن، وهذا ما يحدث بالفعل. بمساعدة الإعلام ووسائط التواصل الاجتماعي يصبح رحيم بطلاً قومياً ومثالاً يُحتذى، إلا أن هذا كله سينقلب عليه فجأةً بعد انتشار أقاويل تؤكد أن المسألة كلها مدبرة وملفقة. فبعد الصعود هناك الهبوط الذي سيذوق الرجل طعمه المر، وسيكون المتفرج شاهداً عليه، بكل ما ينطوي هذا السقوط على ألم معنوي.
كالعادة، يصب فرهادي اهتمامه على المعضلة الأخلاقية وكل شيء يدور حولها. كواحد من أهم المراقبين لمجتمعه، وبصفته حكواتي من الصنف الرفيع، يرسم هنا قصة مؤلمة لما تحمله من دلالات على انهيار قيم المجتمع. وجرياً على عادته أيضاً، يقول الأشياء ببساطة تعبيرية تفعل فعلتها في المُشاهد. هنا، لا شيء سوى علاقات بشرية يلتقطها فرهادي بقدرة عالية في تفجير الانفعال عند المشاهد. لا حركات كاميرا استعراضية، لا أحداث مبالغاً فيها، لا مؤثرات خارجية، لا شيء من كل ما يصنع بعضاً من السينما المعاصرة. يعرف فرهادي من أين يُمسَك المُشاهد وكيف يحاكي الواقع بتفاصيله، وهذا ما صنع أهمية السينما الإيرانية منذ البداية. لا يحتاج إلى تدليس سياسي يعطيه المصداقية في عيون المشاهد الغربي. كل شيء عنده يكتفي في ذاته. لا رمزية، ما نراه يتحدث عن نفسه بنفسه، ولو أن الفيلم بأكمله استعارة. هذه العناصر تجتمع لتجعلنا نذرف دمعة على مصير رجل عاكسته الظروف وتصر الحياة على عدم إعطائه فرصة ثانية.
من هو البطل؟
قد يسأل الواحد منا: مَن هو البطل في عنوان الفيلم؟ إلى مَن تُنسب صفة البطولة تلك؟ يعطي فرهادي الانطباع بأن الكل متساوون والكل على الحق. مشكلة العالم كما كان يقول المخرج الفرنسي جان رونوار هي أن الكل على حق. الرجل الذي استدان المال لا يبدو أكثر شراً من الذي أدانه. في لحظة، يسود اعتقاد أن صاحب الدين هو البطل، لكونه يقاوم استفزازات رحيم ويسامحه في أكثر من مناسبة. هو أيضاً ضحية؛ فعل خيراً ولم يجد شيئاً في المقابل. صحيح هو ليس الشخصية الرئيسة في الفيلم، لكن له دور مهم في تطور الأحداث. إطلالته محسوبة بدقة، ولكنها دامغة، كالمشهد إذ يعترض على اعتبار رحيم بطلاً نتيجة أنه قرر إعادة الشنطة إلى صاحبتها؟ يقول "أي بلد هذا الذي يكرم رجلاً قرر عدم فعل أمر شرير؟".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
"قهرمان" فيلم متجذر تماماً في المجتمع الإيراني المعاصر، حيث صيت الإنسان يرسم حياته ويقرر مصيره، وهو "الصيت" أحياناً أهم من أفعاله. حتى النظام القضائي غير بريء من هذا كله، ويسهم في تأجيج الصراع من هذه الناحية. فضلاً عن كونه مديراً بارعاً جداً للممثلين، يجيد فرهادي كذلك لعبة السيناريو الذي يقول حقائق ويخفي حقائق أخرى قبل رميها في وجه المشاهد. الرجل بات مرجعاً في هذا النوع من الكتابة السيناريستية. هنا، يذهب أبعد من أفلامه السابقة في جعل الموقف عبثياً إلى أبعد حد. يجد رحيم نفسه في فخ كبير، لدرجة أن البقاء في السجن قد يكون أرحم من الخروج إلى الحرية المزعومة، وهذا ما يلمح إليه المشهد الأخير الذي من المرجح أن يبقى طويلاً في ذاكرتنا.