Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الأدب الجزائري المكتوب بالفرنسية: الذاكرة الإيجابية

كي نتمكن من صناعة مستقبل مشترك على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي والسياسي

كل سعي إلى ترميم الذاكرة المشتركة بين الجزائر وفرنسا عليه العودة إلى الأدب المكتوب بالفرنسية (أ ف ب)

كثر الحديث عن الذاكرة أو "الذاكرات" (بالجمع) في الجزائر، حتى إن أصحاب القرار أسسوا أخيراً قناة تلفزيونية متخصصة سُمّيت "الذاكرة". وقد تشعب النقاش، في الجزائر وفي فرنسا على حد سواء، في شأن الذاكرة بإيقاعات مختلفة، من نقاش جدلي وآخر حكيم وثالث أيديولوجي، منذ أن قدّم الباحث المتخصص في تاريخ الجزائر البروفيسور بنجامين ستورا ذو الأصول الجزائرية تقريره حول "الذاكرة المشتركة" إلى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في 20 يناير (كانون الثاني) 2020.

لا توجد ذاكرة "قحة" "نقية" لأمة "نقية" "قحة"، الذاكرة متعددة دائماً، هي ماضٍ مركّب، مكسب متداخل، كل ذاكرة هي بالضرورة مخترقة بذاكرات إنسانية أخرى.

هناك ذاكرات تتشكل في عنف الحروب، وأخرى في تعايش الإثنيات، وثالثة في المنافسات التجارية والاقتصادية ورابعة في الأدب واللغات المشتركة.

القليل مَنْ لم يقرأ ويحب رواية "نجمة" لكاتب ياسين، "الربوة المنسية" لمولود معمري، "الدار الكبيرة" لمحمد ديب، "العطش" لآسيا جبار، "ابن الفقير" لمولود فرعون، "أهديك غزالة" لمالك حداد، "الحبة في الطاحونة" لمالك واري، "المؤذن" لمراد بوربون ونصوصاً سردية بديعة أخرى كتبها الجيل الأول من الكتاب الجزائريين باللغة الفرنسية. وعلى الرغم من أن هذه النصوص مكتوبة بالفرنسية، سَوّقت بشكل ذكي ومبدع وإنساني صورة الحرب التي كان يخوضها الثوار ضد فرنسا الاستعمارية.

بالنسبة إلى هؤلاء الكتّاب، فإن اللغة الفرنسية ليست لغة المستعمر، إنها سلاح ضد الاستعمار، إنها قبل كل شيء لغة فولتير التنويري، ورامبو الثائر، وزولا العادل، وروسو المتأمل، وباسكال المفكر، وبول إليوار شاعر الحرية، وسيمون دو بوفوار المناضلة، وسارتر الفيلسوف الملتزم، ومالرو مقاوم النازية، وأراغون الثوري، وإلزا تريولي الغاضبة وروني شار النص الشعري الاستثنائي... إنها اللغة الفرنسية التي ككثير من اللغات أسست لعالم جديد على المستوى الإبداعي والإنساني.

اللغة الفرنسية بالنسبة إلى الكتاب ذوي التعبير الفرنسي هي أيضاً لغة تلك النخبة الفرنسية التي لم تتوقف ولم تتخلف عن معركة الدفاع عن استقلال الجزائر ضد بلدها فرنسا المستعمِرة، من أمثال سارتر وسيمون دي بوفوار وجزيل حليمي وفرانسيس جونسون وموريس أودان وبيير شولي ومجموعة حملة الحقائب وغيرهم.

أعتقد أنه كي نعيد ترتيب قطع رقعة بازل الذاكرة الجماعية، وأن نعيد لها أبعادها الكاملة من دون إقصاء، علينا أن نحرر المخيال الجزائري من عقدة الخوف من اللغة الفرنسية، وعلى الجزائري أن يتخلص من تلك الصورة/ الحكم القيمي التي ترى في هذه اللغة ذراعاً من أذرع الكولونيالية فحسب، والسعي إلى تأملها بين أيدي النخبة الفرنسية التنويرية التي تمثل رأسمالاً كبيراً من أصدقاء الثورة الجزائرية الذين ناضلوا من أجل استقلال الجزائر.

كثيرون هم القراء الذين استمتعوا بنصوص سردية جزائرية مكتوبة بالفرنسية من الجيل الثاني والثالث، على غرار "الخلع" لرشيد بوجدرة، "الباحثون عن العظام" للطاهر جاووت، "النهر المحول" لرشيد ميموني، "الشمس تحت الغربال" لرابح بلعمري، "الشرنقة" لعائشة لمسين وغيرها من الكتابات التي حاورت الجزائر المستقلة بكثير من الجرأة والإنسانية، وقدّمت الاستقلال كمشروع غير كامل، كحلم لم يتحقق في الواقع كما كان يتصوره الشهداء والثوار.

من دون شك، إن النشيد الوطني كما العلم الوطني هما فخر للأمة ورمزها، إلا أن الاستقلال لا يتحدد في رفع العلم الوطني بكل حرية وبهجة على أسطح العمارات أو على واجهة المؤسسات. والاستقلال أيضاً لا يسكن في كلمات النشيد الوطني الذي يردده التلامذة بفرح ونشوة في ساحات المدارس. الاستقلال هو مشروع اجتماعي وسياسي وثقافي قادر على الوصول بالبلد المستقل إلى مصاف الدول المتقدمة العصرية والديمقراطية العادلة، والقادر أيضاً على خلق قطيعة مع البنى السياسية والاجتماعية والذهنية للاستعمار.

بكثير من التألق والتميز تتواصل الكتابة الإبداعية الأدبية بالفرنسية في جزائر اليوم، ومعها تستمر تقاليد القراءة الأدبية باللغة الفرنسية، وبكثير من الرغبة والإقبال. وفي الوقت ذاته، تستمر حالة سيكو-ذهنية تتميز بالكراهية المختلطة بالشغف لهذه اللغة ولهذا الأدب. حب وكراهية في الحال ذاتها. وهو ما يمكن تسميته بظاهرة العقدة السيكو- سياسية التي تتطلب منا، نحن النخب، قراءتها والبحث عن مسبباتها الجديدة والقديمة. وأعتقد أن النخب الجزائرية الحرة مطالبة بالعمل ليس على "تحرير التاريخ" "Décoloniser l’Histoire" كما دعا إلى ذلك المؤرخ الجزائري محند شريف ساحلي (1906- 1989) في كتابه "Décoloniser l’Histoire"  المنشور عام 1965، لكننا مطالبون في جزائر اليوم بـ"حل عقدة التاريخ" "Décomplexer l’Histoire". ولإدراك مرتبة "حل عقدة التاريخ"، علينا أن نعرف كيف نفك رموز الذاكرة المشتركة الإيجابية ما بين الجزائر وفرنسا، ويمثل الأدب المكتوب بالفرنسية واحداً من مكونات هذه الذاكرة الإيجابية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

في جزائر اليوم، يتعدد الكتّاب بالفرنسية، وتتراكم النصوص الإبداعية السردية المتميزة التي تعرف نجاحاً أدبياً عالمياً. وفي ظل هذا الإبداع، تتوسع الذاكرة المشتركة الإيجابية التي يجب البحث بداخلها عن إمكانية خلق مستقبل ناجح ومأمول بين الجزائر وفرنسا، بعيداً من الكراهية أو النسيان، إذ تعود علاقة الجزائري إبداعياً باللغة الفرنسية إلى قرن من الزمن، وفي الأساس منذ أن نشر كل من الكاتبين عبد القادر حاج حمو نصّيه "مكتوب" عام 1925 و"زهرة زوجة المنجمي" Zohra femme du mineur الصادرة في 1929، ومحمد ولد الشيخ روايته "مريم بين النخيل" Myriem dans les palmes  عام 1930، لتتكرس عشية الحرب العالمية الثانية مع كتّاب مشبعين بالأيدولوجيا الوطنية الذين انخرطوا في قضية تحرير البلاد من الاستعمار بشكل مباشر عسكرياً وسياسياً وأدبياً بهذه اللغة.

ومن خلال هذه اللغة الفرنسية، وفي خضم معركة التحرير والاستقلال، شكّل الكتّاب باللغة الفرنسية رأسمالاً كبيراً من الأصدقاء الفرنسيين المنتمين إلى اليسار ومن التيار الليبرالي أيضاً. لقد وجد هؤلاء الكتّاب الوطنيون أنفسهم ونصوصهم محاطين بعناية النخب التنويرية الثورية الفرنسية. ونشرت النصوص الوطنية الأولى بالفرنسية في أكبر دور النشر التي كانت تقف إلى جانب الثورة التحريرية الجزائرية. ويذكر لنا تاريخ النشر في فرنسا الاحتفاء الذي عرفته روايات محمد ديب وكاتب ياسين ومولود معمري ومولود فرعون وآسيا جبار ومالك حداد وجان عمروش وآخرين.

إن النصوص الروائية الجزائرية المكتوبة باللغة الفرنسية بما حملته من أيديولوجيا وطنية تحريرية والمساندة الثقافية والسياسية التي أبدتها النخب الفرنسية وهي تحتفي بهذا الأدب، هي الذاكرة المشتركة الإيجابية بين الشعبين الجزائري والفرنسي التي يجب علينا إبرازها للأجيال الجديدة، كي نتمكن من صناعة مستقبل مشترك على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي والسياسي.

اليوم، بعد قرن على ولادة الأدب الجزائري المكتوب بالفرنسية، فإن كتّاب من الجيل الجديد، الجيل الرابع، من أمثال مصطفى بن فضيل ومهدي أشرشور وعدلان مدي وشوقي عماري وكمال داود وكوثر عظيمي وليندة شويطن وجواد رستم تواتي وغيرهم، يواصلون مغامرة الكتابة بالفرنسية بكثير من التميز الذي يجعل نصوصهم تحظى بانتباه كبير لدى القارئ الجزائري والفرنسي وفي اللغات التي تُترجم إليها هذه النصوص.

لقد واصل كتّاب الجيل الجديد، جيل الاستقلال، وجيل العشرية السوداء، مغامرتهم الإبداعية بهذه اللغة وفيها، إذ تمكّن الكاتب الجزائري اليوم من "جزأرة" اللغة الفرنسية، أي إعطائها روحاً جزائرية من حيث البناء النصي والتكسير القاموسي وإدخال الغريب والتوليد.

إن كل بحث يسعى إلى ترميم الذاكرة الإيجابية المشتركة بين الجزائر وفرنسا، عليه العودة إلى هذا الأدب المكتوب بالفرنسية، فهو فصل مهم يمكن أن يكون فاتحة لذاكرات أخرى محرِّرة للفرنسي وللجزائري على حد سواء، من أمراض الماضي والدخول في معركة بناء مشتركة من أجل المصلحة العامة.

المزيد من آراء