Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

عندما كتب سمير قصير عن رواية حمال الغيطاني "الزيني بركات"

عشرون عاما قبل مطاردة المخبرين الكاتب الشاب واغتياله

تمثال لسمير قصير في وسط بيروت (غيتي)

بعد عشر سنوات من صدورها للمرة الأولى في مصر أواسط سنوات السبعين، تُرجمت رواية جمال الغيطاني "الزيني بركات" إلى الفرنسية، لتشكل حدثاً أدبياً مهماً تناولته الصحف والمجلات الفرنسية المتخصصة بنوع من احتفال عامر بالدهشة. وكان ذلك في عام 1984 أي في وقت لم تكن الحياة الأدبية الفرنسية والأوروبية بشكل عام تعرف من الكتّاب العرب سوى نجيب محفوظ الذي سيفوز بعد حين بجائزة نوبل، وتوفيق الحكيم إضافة إلى بضعة أسماء أخرى معروفة لدى أوساط النخبة. ومن هنا لم يكن غريباً أن تعنون مجلة "لير" التي كانت قد أضحت المجلة المرجعية في عالم الأدب في فرنسا مقالاً عن "الزيني بركات" بكلمة واحدة: اكتشاف!

نصّ من سمير قصير

أما صحيفة "لوموند دبلوماتيك" فقد طلبت من الكاتب اللبناني الشاب حينها، سمير قصير، الذي كان في باريس منكباً على إنجاز أطروحته حول مدينة بيروت، أن يكتب مراجعة نقدية للرواية. وسمير قصير هو طبعاً نفسه الباحث والمناضل الذي سوف تطارده قوى استخباراتية بعد ذلك في بيروت، لينتهي الأمر باغتياله في أحد شوارع العاصمة اللبنانية غير بعيد من مسقط رأسه في منطقة الأشرفية عبر جريمة لا تزال حتى اليوم "مجهولة الفاعل". ولئن كان سمير قصير قد عاش مطارداً خلال السنوات الأولى من القرن الجديد بعد رجوعه إلى بيروت وانخراطه في النضالات اللبنانية والسورية والفلسطينية، فإنه حين كتب مراجعة رواية "الزيني بركات" كان لا يزال في سنوات نشاطه الفكري الأولى ولا تزال سنوات النضال البيروتية بعيدة عنه.

سطور مبكرة

ومع هذا لنقرأ هذه السطور مما كتبه قصير للصحيفة الفرنسية: "هناك رئيس كبير من رؤساء الشرطة يريد أن يعرف كل شيء. وهو بالفعل يعرف كل شيء عن كل شيء. وهناك مخبرون حاضرون دائماً يخشون مخبرين آخرين. وهناك شريحة عسكرية ومؤامرات في القصور. ولقد جمع الكاتب المصري جمال الغيطاني في (الزيني بركات) تلك العناصر الكفيلة بأن تصنع واحدة من أعتى الدول القامعة. وهذه العناصر تكاد تكون مكتملة فهي لا ينقصها حتى ولا الطالب المثالي بشكل ساذج ولا الشيخ المحترم الذي يتحدث عن (ضمير الأمة) في ذلك العهد....". وذلك العهد كان في الرواية العهد المملوكي، ما جعل سمير قصير يختم تلك الفقرة قائلاً: "كان العهد عهد نهاية الحقبة المملوكية وكانت القاهرة تبدو شبيهة بالعديد من عواصم أيامنا هذه العربية".

من قاهرة المماليك إلى بيروت

يوم كتب هذه الكلمات لم يكن سمير قصير يعرف أن بيروت التي كان يشتغل على تاريخها ستكون، وتحديداً بالنسبة إليه واحدة من تلك العواصم التي تشبه قاهرة المماليك، ولكن بعد عشرين عاماً من كتابته ذلك التعليق. فهو بعدما عاد إلى بيروت مكللاً بنجاحه الجامعي وقد صار ذا شأن في الفكر ولكن كذلك في النضال السياسي، كان من نصيبه أن يجابه بدوره نفس نوعية المخبرين ورئيس الشرطة الذين التقاهم قبل ذلك في "الزيني بركات"، وكان هو المطارَد هذه المرة وتحت سمع وبصر سلطة في بيروت كانت عاجزة حتى عن حمايته، حيث نعرف أن رجال الأجهزة في لبنان والمأتمرين بأوامر الاستخبارات الشقيقة التي كانت تسيطر على البلد، كانوا يطلبون رأسه في وقت كان يعتبر حتى صديقاً لرئيس الحكومة اللبنانية رفيق الحريري، الذي في الوقت الذي كان فيه قصير يلاحَق في شوارع بيروت أولمَ الحريري له في دارته في نوع من إعلان حمايته له. وبالتالي تبدى وضعه غريباً وأحياناً طريفاً: فهو في المساء ضيف على مائدة زعيم البلاد وخلال النهار مطلوب من المخبرين.

بطل تيان آنمن الحقيقي!

وتحضرنا في السياق طرفة تعود إلى تلك الأيام نفتح هلالين لنرويها، حيث إذ كان قصير في زيارتنا في الصحيفة التي كنا نعمل فيها طلب منا حين أراد المغادرة أن نرافقه حتى سيارته لأن ثمة مخبراً يلاحقه وينتظره في الشارع. رافقناه يومها مع زميل لنا وكانت المسافة نحو ثلاثمئة متر. ما إن نزلنا من مبنى الصحيفة حتى أشار سمير إلى شاب منهك متعب يقف في ناصية الشارع قائلاً: هذا هو مطاردي. وفي الحقيقة ما إن بدأنا نسير حتى راح الشاب يتبع خطانا. وأمام مرآه أخذتني الشفقة عليه وعلى موقفه والتفتّ إلى سمير أسأله ممازحاً: ترى هل يمكنك أن تتذكر الآن حكاية الشاب الصيني حامل الكيس والسائر غير مبال أمام دبابة تحاول مطاردته وتفاديه في الوقت نفسه في ساحة تيان آنمن في بكين؟ رد الصديق بالإيجاب متسائلاً عما جعل الحكاية تخطر في بالي؟ سارعت أسأله بدوري: من هو في رأيك بطل تلك الحكاية؟ قال: الشاب المنتفض بالطبع. قلت وأنا نصف مازح/ نصف جادّ: أبداً، بل هو سائق الدبابة. "كيف؟" سألني سمير فقلت له: لو أنك تقرأ الكاتب الأرجنتيني بورخيس جيداً لأدركت بالمقارنة مع حكايتك، أن البطل في هذه الحكاية التي نعيشها الآن هو هذا الشاب البائس الذي يطاردك مقابل مرتب لا يزيد على 500 دولار شهرياً دون أن يعرف من أنت ولماذا يطاردك؟ وربما رأى صورتك أمس على شاشة التلفزة وأنت تأكل مع رئيس الحكومة ولا يجرؤ حتى على أن يسأل رؤساءه عن كل هذه الأمور المحيرة. بل لا يجرؤ حتى على التساؤل لماذا هو فقير وأنت لا بأس بأمورك. في رأيي، وربما في رأي بورخيس أيضاً هو البطل الحقيقي. البطل الذي يسير وحيداً بائساً متعباً لا يعرف ماذا يفعل فيما أنت مخفور بصحفيين وتعتبر من أعلام البلد!

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الدولة البوليسية

طبعاً كانت الحكاية أقرب إلى المزاح لكن سمير قصير لم يدرك الجانب الفكه فيها، هو الذي ظل يسألني مرات ومرات عن كيف أنني أدخلت بورخيس في الحكاية من أساسها! مهما يكن فلنترك هنا تلك الحكاية التي نتذكرها كلما خطرت رواية جمال الغيطاني في بالنا، ولنعد إلى ما كتبه سمير قصير عن ترجمتها الفرنسية قبل عقدين من تجدد حكاية "الزيني بركات" معه هو شخصياً عشية اغتياله. فسمير قصير يختم مقالته على هذا النحو الذي يعبق بقدر كبير من الدلالات: "إن الخلاصة التي نوردها للرواية لا تقول في الواقع كل ما فيها. فالرواية التي هي عبارة عن تاريخ للزمن الماضي، هي في الوقت نفسه وصف وتاريخ للزمن الراهن. أو بالأحرى تحقيق حافل بالأناقة وبالقفزات حول الدولة البوليسية؛ وليس معنى هذا أن التاريخ يخدم في هذه الرواية كذريعة لتقديم خطاب سياسي. بل بالعكس نجد أن كل شيء هنا يكمن في الكتابة المشغولة بشكل متميز. هذه الكتابة التي تضعنا مرة أمام وصف للسفر ومرة أمام فرمانات عامة. ثم أمام تقارير للشرطة فأمام رسائل سرية. والحال أن هذا الاشتغال على النص يبدو رائعاً حين يقتضي الأمر إبراز شهاب الدين بن زكريا، الذي هو رئيس الشرطة في السلطنة. هو شخصية تذكرنا بـ(أوبو) ديكتاتور ألفريد جاري في المسرحية الشهيرة. شهاب هذا يقاسم الزيني بركات بطولته الرواية. وهو يمتلك ملفات حول كل ما في الدولة بل حتى حول أمور قد لا تهم أحداً. وهو يحلم بالحصول على المزيد والمزيد من الملفات. إنه يسيطر على الشارع ويراقبه ويرتب الإشاعات ويبثها ويكتب نصوص القوانين، ويصادر كل ما يروق له، حتى وإن كان ما يروق له محظياً من محظيي السلطان (!). إنه عملاق من عمالقة التعذيب يمارس التجسس وكأنه رسالة عظمى ويصل به الأمر إلى حد عقده مؤتمراً يحضره دهاقنة رجال الشرطة في العالم بمن فيهم رئيس شرطة دولة الفرنجة ورئيس شرطة دولة البرتغال. وذلك لكي يستفيد من تجارب كل واحد منهم ويصل إلى ابتكار وسائل بوليسية جديدة".

الحياة تقلد الفن من جديد

في نهاية الأمر، من يقرأ هذه السطور التي كرسها سمير قصير للحديث عن رواية "الزيني بركات" قبل عقدين من معايشته ما سيبدو بكل وضوح وكأنه تطبيق لاحق للوصف الذي أورده حتى من خارج رواية جمال الغيطاني وبعيداً من حفلة المزاح بيننا وبينه، سيدهشه، إذ يبدو فيه الكاتب الشاب الراحل مغدوراً، وقد وصف باكراً نفس تلك الدولة التي ستطارده وربما تكون هي التي ستختتم مطاردته باغتياله. ترى أفليس في وسعنا مرة أخرى أن نتحدث عن الحياة التي تقلد الفن؟

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة