Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

النقد الحضاري سبيلاً إلى ترسيخ الحداثة العربية

هشام شرابي تناول الأبنية والأنماط الثقافية وواجه السلطة الأبوية

لوحة للرسام إدوارد شهده (صفحة الرسام على فيسبوك)

برز خطاب النقد الثقافي في الفكر العربي المعاصر بعد هزيمة 1967 على خلفية القول بحتمية التحديث الثقافي، كمقدمة لتجاوز حال الانحطاط التاريخية، وبناء البدائل الفكرية القادرة على قيادة الأمة العربية نحو فعل حضاري يقلب مسارها، من التأزم والانكسار إلى تحقيق فعلي لما تطمح إليه من أهداف نهضوية ووحدوية وتحررية.

هذا الخطاب الذي شكّل الوحدة الناظمة للأفكار والرؤى والمواقف والتصورات التي تخترق أكثر من مدونة عربية منذ سبعينيات القرن الماضي، لا يزال يرتدي أهمية كبرى الآن، لأن استراتيجيته لم تستثمر بعد في مجال الحراك الحضاري الهادف إلى تجاوز الحال العامة التي يعيشها المجتمع العربي، الأمر الذي يؤكده كتاب هشام شرابي "النقد الحضاري للمجتمع العربي في نهاية القرن العشرين"، في طبعة ثالثة، مركز دراسات الوحدة العربية، وهو كتاب لا بد من العودة إليه لاسيما اليوم. ومع أن عبدالله العروي يعتبر رائداً ومؤسساً لخطاب النقد الثقافي في فكرنا المعاصر، والأول في انتهاج خط المقاربة الثقافية لانتكاس مشروع النهضة العربية، فإن هشام شرابي واحد من أبرز رموز هذا الخطاب، وقد ذهب به إلى جذور الإشكال التاريخي القائم في الأبنية والأنماط الثقافية العربية التي لم تكن لتفرز إلا واقعاً متأزماً ومتردياً.

وعي ذاتي 

تبعاً لهذا التصور الجذري، رأى هشام شرابي في مقدمة كتابه أنه "إذا أردنا لمجتمعنا العربي أن يتجاوز أزمته المتفاقمة، وأن يسترجع قواه ليدخل في مجرى التاريخ، فلا بد له من القيام بعملية نقد حضاري يمكنه من خلق وعي ذاتي مستقل". وفي صميم ما يرمي إليه نقد كهذا، نقد هيمنة البنية الأبوية في المجتمع العربي المعاصر وتجسدها في علاقات المجتمع وحضارته ككل، وسبل استئصالها جذرياً كشرط أساسي لعملية التغيير الاجتماعي، إلا أن بعض النصوص النقدية العربية، خلافاً لذلك، تعاني بانهماكاتها وموضوعاتها، بل بأسلوبها ولغتها، من الاغتراب والابتعاد عن قضايا المجتمع العربي وانهماكاته، والانشغال بالإشكاليات اللغوية والإبستمولوجية التي تشغل أصحاب الكتابات البنيوية والتفكيكية في الغرب، بينما الشرط الأساسي لأي مشروع نقدي يفرض تحديد الإشكالات الحقيقية للواقع العربي الراهن ومقاربتها بالأساليب التي يفرضها هذا الواقع.

رصد المؤلف المشاريع النقدية التي تناولت المأزق النهضوي العربي، سواء من موقع استشراقي استعلائي أو من موقع إصلاحي تجديدي. تصدى بالنقد للنقد الاستشراقي الذي نظر إلى العرب نظرة عنصرية، أكثر ما تمثلت في نصوص كتاب غربيين أمثال أندريه سرفيه ورفائيل بتاي وكارلتون كون. وصف سرفيه العرب بالتخلف الفكري والعقم الحضاري، نازعاً عنهم أي أصالة أو إسهام في الحضارة الإنسانية. ورأى بتاي أن العقل العربي تحكمه بنية ساكنة لا فاعلة، فيما وصف كارلتون المجتمع العربي بالفسيفسائي الذي تحكمه التناقضات البنيوية الناتجة من تركيبه القبلي والطائفي والإثني.

إزاء هذا النقد الاستشراقي قدمت الحركة النقدية العربية منذ السبعينيات من القرن الماضي خطاباً جديداً ونمطاً من الأفكار النقدية مختلفاً، فقُرئ التاريخ العربي قراءةً مغايرةً للقراءات السائدة. في هذا الإطار طرح العروي إشكالية النسبية التاريخية للمقولات الفكرية كافة، وكسر محمد أركون طوق الفكر التقليدي الذي احتكر تفسير التاريخ العربي الإسلامي، ليقرأ النصوص التاريخية قراءة جديدة. ودعا محمد عابد الجابري إلى قراءة الفكر العربي والفكر الغربي على السواء من منظور علمي حديث. وذهب هشام جعيط إلى أن البعث الحضاري ممكن على الرغم من التفسخ السياسي الذي يعانيه العرب، فيما دعا إلياس مرقص إلى تحديث ماركسي لا ينبع من محاكاة الغرب، وحليم بركات إلى معالجة المجتمع العربي وقضاياه من حيث هو "مجتمع مغترب عن ذاته يسعى جاهداً إلى تجاوز اغترابه".

المرأة ومصيرها

وعرض شرابي للأفكار النقدية في ما يتعلق بالمرأة ومصيرها في المجتمع القائم من خلال ثلاث مفكرات عربيات. فنوال السعداوي رأت أن قضية تحرير النساء ليست قضية إسلامية، بل قضية سياسية واقتصادية أساساً. وذهبت فاطمة المرنيسي إلى أن عملية تحرير المرأة تتطلب تغييراً جذرياً في صميم المجتمع، وليس مجرد عمل إصلاحي، فيما رأت خالدة سعيد أن المرأة العربية تعاني اغتراباً مزدوجاً، وما لم تصبح البنى الاجتماعية مهيأة لانطلاق شخصية المرأة ستبقى قضيتها مفتوحة.

في هذه السياقات النقدية يطرح هشام شرابي مشروع النقد الحضاري للمجتمع العربي الذي يتطلب، في رأيه، تغييراً جذرياً في اتجاهات هذا الفكر، قادراً على مجابهة الخطاب الأبوي المهيمن وتجاوزه، كما يتطلب في الوقت نفسه، تفكيك اللغة المهيمنة ومصطلحاتها وأساليب تعبيرها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

إن النقد الحضاري قادر، كما يرى شرابي، أن يجد طريقه إلى الوعي الجماهيري، وأن يفعل في الواقع العربي القائم. فالنظرية هي نوع من الممارسة، كما يقول ألتوسير، وفي الظروف التي نعيشها اليوم، فإن للنظرية النقدية دوراً مركزياً في تغيير الوعي الاجتماعي. إن مشروع الثورة في هذه المرحلة، حيث السلطة في ذروة قوتها، لم يعد مشروعاً قابلاً للتحقيق كما كانت الحال في بدايات القرن العشرين، غير أن أنماطاً جديدة من التحدي برزت منذ نهاية ذلك القرن، قادرة على مجابهة الوضع الراهن دون اللجوء إلى وسائل العنف التقليدية.

إن هدف النقد الحضاري هو نقد النظام الأبوي في كل تمظهراته البيولوجية والاجتماعية والسياسية والأيديولوجية، وتفكيك هذا النظام وتعريته أيديولوجياً، وإزالة الحجب التي تختبئ وراءها السلطة الأبوية، بغية كشف التناقضات في كل البنى والعلاقات التي تشكل القاعدة المادية للحضارة الأبوية.

في تصديه لإشكالية التغيير على الصعيد المعرفي، حدد شرابي هدف النقد الجذري في إطاحة الخطاب الأبوي الذي يدعي امتلاك الحقيقة الكاملة، وعلى الصعيد الأيديولوجي بالارتفاع عن الجدل التجريدي، باعتناق مبدأ الأيديولوجيا التعددية، انطلاقاً من أن الحقيقة، بما فيها الحقيقة الأيديولوجية تقوم على الاختلاف والإجماع في آنٍ، لا على سلطة فوقية واحدة، سياسية أو فكرية أو غيبية، وهذا ما ينطوي على إعادة النظر في عدة مسلمات، وتحويلها إلى إشكاليات، ومنها على سبيل المثال، إشكالية الوحدة بألوانها المختلفة، القومية والفلسفية والسياسية والدينية، وما ينطوي كذلك على إعادة النظر في معنى الفرد والإنسان، بحيث يتم تجاوز الانفصام المعنوي والفكري والحياتي، كخطوة أساسية تمكن المجتمع من الانتقال من مجتمع أبوي عاجز إلى مجتمع حر حديث.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة