Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

أطول يوم روائي أمضاه ليوبولد بلوم في ملحمة "عوليس"

الإيرلنديون احتفلوا في دبلن ببطل جيمس جويس في الذكرى 80 لرحيله

الكاتب الإيرلندي جيمس جويس: الذكرى الثمانون لرحيله (دار الآداب)

لم يفوّت الإيرلنديون يوم ليوبولد بلوم، بطل رواية جيمس جويس "عوليس" الذي يصادف 16 يونيو (حزيران) من كل سنة، فنزل مواطنون كثر الى شارع "ديوك ستريت" في دبلن، وأحيوا هذا اليوم الذي يعدّ من أطول الأيام الروائية عالمياً، فرقصوا وغنوا وشربوا ووجهوا تحية إلى جيمس جويس وبطل روايته، غير مبالين بوباء كورونا وبمتحوره الهندي الذي ينتشر في المنطقة. هذا التقليد السنوي المرتبط ببطل "عوليس" اكتسب هذا العام طابعاً فريداً، فهذه السنة هي سنة جيمس جويس، التي تصادف الذكرى الـ 80 لرحيله (1882-1941)، وهذا ما جعل هذا اليوم يومين، يوم بطل جويس ويوم روايته التي تعد من عيون الأدب العالمي المعاصر، مثلها مثل "دون كيخوته" أو "الإخوة كارامازوف" أو "الحرب والسلم" و"البحث عن الزمن الضائع" وسواها. يبدأ اليوم الذي تدور وقائعه في العام 1904، من الصباح الباكر في برج مارتيللو وينتهي ما بعد منتصف الليل في مدينة دبلن، بعدما قام البطل بجولته الطويلة في أرجاء المدينة. هذا يوم الذاكرة مثلما هو يوم الفكر ويوم النفس، يوم كأنه محذوف من التاريخ، بل كأنه يوم على حدة خارج مملكة النهار والليل.

وإن كانت الرواية هي رواية ليوبولد بلوم المسمى "عوليس" أو "اليهودي التائه"، فإن الرواية تبدأ مع بوك موليغان وستيفان ديدالوس منذ الصباح، ولن يظهر بلوم إلا بدءاً من الفصل الرابع وتحديداً عند الثامنة صباحاً، وكأنه يستعيد الصباح بدوره ليستعيد الحكاية.

مسار بلوم

يهيئ بلوم الفطور لزوجته المغنية التي تستعد للقاء مدير أعمالها الفنية أوالامبريزاريو "بويلان" المتحمس كما يصفه جويس. ثم يتوجه في العاشرة، بعد أن يرتاح من ألم في أحشائه عبر التأمل في الأدب، إلى الخارج، سالكاً شوارع دبلن، فلا تفوته واجهة محل ولا عابر سبيل ولا ضوضاء. وفي مركز البريد يجلب، تحت اسم هنري فلوري، رسالة موجهة من مارتا، المرأة السرية، ثم ينطلق إلى الشوارع من جديد وإلى بعض الأمور الصغيرة والشواغل اليومية، ثم يدخل كنيسة كي يشارك فيها بالقداس.

في هذه الرحلة، أو لنقل في هذا السفر الأول في الفصل السادس، يجتاز بلوم المدينة من جنوبها إلى شمالها قاصداً إحدى المقابر. يحضر جنازة رجل يدعى دينيام، محاطاً ببعض أصدقائه، عند الظهر يقصد بلوم في مكاتب صحيفة يومية اسمها "الإنسان الحر"، "كهف رياح وأخبار خاطئة". يرحب به المدير ثم يوبخه، وهنا يسوق جويس طرائف عدة عبر سلسلة من المقالات متناولاً تاريخ الصحافة وقضايا وظواهر مختلفة، مثل الإعلان والغناء والعدالة والرياضة والطيران، وكل هذه المقالات تُقرأ كما لو كانت في صحيفة. وعندما تدق الساعة الواحدة يعود بلوم إلى شوارع دبلن تائهاً باحثاً عن مطعم. يلتقي امرأة، يلقي كسرات خبز لطيور النورس وينهي ترحاله في مقهى، حيث يتناول سندويشاً وكأس بورغوني. في الثالثة يدخل بلوم مكتبة عامة ليتحدث مع بعض المثقفين عن مسرحية "هاملت" مقدماً نظرته إليها وإلى الدراما الشكسبيرية عموماً، ثم يستمر الحوار ويتعمق ليصبح حواراً فلسفياً يستند فيه بلوم إلى آراء أفلاطون وأرسطو الديالكتيكية، ثم إلى الامتثالية والطليعية. وبينما يتوه من ثم في الشوارع و"الأفكار"، بين الأرصفة والحانات، مغامراً مثقفاً يحب الموسيقى والغناء، تستسلم زوجته إلى إغراء "الإمبريزاريو" وتخون زوجها معه. إنها "بينيلوب" الخائنة، المرأة التي تنتظر زوجها وتخونه عبر انتظارها إياه. ثم يحل المساء وتبدأ المرحلة الليلية من مغامرة بلوم إلى أن يلتقي ستيفان ديدالوس ويتجها معاً إلى ما يشبه "قصر إيثاكا" لدى هوميروس، أي "الوطن المستعاد".

ملحمة يومية

لا يمكن تلخيص ملحمة "يومية" في سطور، ماذا عن التفاصيل الكثيرة جداً التي تحفل بها هذه "المتاهة" الروائية؟ بل ماذا عن المشاهدات واللقاءات والأحداث والوقائع والمصادفات التي يصخب بها يوم واحد هو في حقيقته يوم لا نهاية له؟ ماذا فعل ليوبولد بلوم ذو الـ 38 عاماً خلال هذا اليوم؟ ماذا فعل ستيفان ديدالوس والزوجة موللي اللذان يشكلان الزاويتين الأخريين لهذا المثلث الذي يؤلف بلوم زاويته الأولى؟ علاوة على أهمية مدينة دبلن وحضورها اللافت، وكأنها شخصية رئيسة في هذه الرواية، ففي هذه المدينة يتجسد فضاء الشخصيات وأزمنتها.

 

هذا اليوم يعيد الى ذاكرة الإيرلنديين والبريطانيين وسائر القراء في العالم رواية "عوليس" نفسه، التي لم تلق ترحاباً عندما صدرت في طبعتها الأولى عام 1922 في باريس، على الرغم من فرادتها حجماً ولغة ووقائع. كان جيمس جويس في الـ 32 عندما شرع في كتابتها وأنهاها في الـ 39، وكان أصدر قبلها "ناس دبلن" (1914) و"بورتريه للفنان شاباً" (1916)، ناهيك ببعض القصائد والنصوص الأولى. أمضى جويس إذاً سبع سنوات يتخبط في متاهة هذه الرواية التي لم تلبث أن أضحت رواية القرن الـ 20، التي رسخت الحداثة الأدبية وفتحت الآفاق أمام التجريب الروائي، الأسلوبي واللغوي. بدا حظ الرواية عند صدورها متعثراً، إذ حوت الطبعة الأولى منها كثيراً من الأخطاء الطباعية التي فاقت الألفين (دار شكسبير أند كومباني)، وواجهت الطبعة الثانية الحرق والثالثة المنع والمصادرة. إنها الرقابة الأنجلوسكسونية التي طاردتها، على الرغم صدورها في العاصمة الفرنسية، أما التهمة فهي "الفجور" الذي تفصح الرواية عنه. هكذا أحرقت "دار بريد نيويورك" 500 نسخة من طبعة "ذي أغوست برس" ثم صادرت إدارة الجمارك 499 نسخة من الطبعة الثالثة التي لم تتخط أصلا 500 نسخة.

لم يكن هذا القدر السيء هو الوحيد الذي واجهته الرواية - الظاهرة، فهي سرعان ما واجهت سجالاً في سنتيها الأوليين، كان المنتصرون لها فيه قلة قليلة. وكان مستهجناً حقاً أن يجد فيها الكاتب الفرنسي الكبير أندريه جيد "رائعة مزيفة"، أو أن يعتبرها الشاعر الفرنسي بول كلوديل "عملاً شيطانياً". وقيل حينذاك إنها رواية كتبت لئلا تقرأ، والطريف أن الجدل حول هذه الرواية ما برح قائماً حتى اليوم، بعضهم يعتبرها طويلة ومضجرة، وبعضهم يعدها أضخم عمل روائي عرفه الأدب العالمي، ويعتبرها أول "نموذج" للفن الروائي الجديد والبنية الروائية الحديثة، وأول عمل يرسخ ما يسمى "المونولوغ" السردي الذي يسميه بعضهم "تيار الوعي الداخلي".

المونولوغ الداخلي

أما أبرز ما ابتدعت رواية "عوليس" تقنياً أو فنياً فهو "المونولوغ الداخلي". هذا ما يجمع عليه النقاد الغربيون، فالقاعدة الأولى التي توفق بين عناصر عدة هي أصلاً تقنية الرواية نفسها القائمة على "المونولوغ الداخلي". وإن كانت أعمال سابقة عرفت هذا "المونولوغ "، مثل أعمال هوميروس وبعض التراجيديات الإغريقية وبضعة أعمال للروسيين دوستويفسكي وغوغول وسواهما، فإن جويس هو الأول الذي سعى إلى أن يجعل المونولوغ الداخلي (كطريقة في التعبير)، يسيطر على رواية بكاملها.

ولم يتمكن أي روائي قبل جويس أن يسبر منابع هذا "الحوار" وخصائصه ثم نتائجه وردائفه وأعماقه النفسية، ويقول الناقد الفرنسي جان كازو إن صدور "عوليس" يسجل تاريخاً حاسماً في ما يمكن تسميته "دخول الكلام الباطني من الأدب". ويتميز هذا "الحوار" لدى جويس بالطرافة والغرابة والتبسيط في وقت واحد، ويغيب عنه الترقيم (علامات الوقف)، وفيه تحذف الكلمات - المفاتيح، ويسعى دوماً إلى أن يمتزج بالفكر الغامض، إذ تتداخل الأحلام والفانتسمات والهواجس والذكريات. وكم حاول جويس في تأسيسه "الحوار الداخلي" أن يفيد من علم النفس، معتمداً نظريات فرويد ويونغ وسواهما، مستكشفاً عالماً نفسياً غير عقلاني، حلمياً وما قبل منطقي، وكل اكتشاف في هذا الحقل أو الميدان النفسي لا يمكنه إلا أن "يثوّر" المواضيع (الثيمات) والبنى الجمالية واللغوية. وعرف هذا "الحوار" رواجاً وأقبل عليه من ثم روائيون كبار، من مثل فيرجينيا وولف ووليم فولكنر وتوماس مان وسواهم، وبدا كأنه جاء رداً على حاجة ثقافية ونفسية متجذرة في ما يسمى "اقتصاد العصر". ومثلما أخذ هذا "المونولوغ" من علم النفس أعطاه بدوره ومهد، بصفته تياراً فكرياً لنشوء علم التحليل النفسي، أما في الرسم والشعر فهو أسهم بدوره في ترسيخ المعطيات السوريالية وأشكالها الجديدة.

قد يكون من الصعب تصنيف هذه الرواية التي وصفها أحد مترجميها إلى الفرنسية بـ "مصنع التساؤلات عن الكتابة وعن الفن الروائي"، فهي ليست رواية في المفهوم العادي أو الكلاسيكي للرواية، إنها تفتتح زمناً روائياً جديداً وترسخ شكلاً فنياً جديداً تندمج فيه عناصر كان من الصعب عليها أن تندمج سابقاً في عمل روائي واحد: الأسطورة، الملحمة، الحكاية، التاريخ، المرثية، الهجاء، النقد، التحقيق، الربورتاج، المهزلة، الدراما، الفن السيمفوني، الأوبرا، الكوزموغرافيا، كل هذه العناصر تنصهر في النسيج السردي الذي يضم أساليب شتى، تتعاقب وتظهر وتختفي وتتقاطع وتتجاوب.

التحولات الدائمة

إنها رواية "التحولات" الدائمة، تحيي أنواعاً من اللغات الجزيلة أو السامية، اللغة الاصطلاحية، اللغة العلمية، القانونية، الوصفية، الهاذية، المسرحية، الدينية. ولم يبالغ جويس نفسه عندما قال عن روايته، "كتبت 18 كتاباً في 18 لغة"، ويقصد طبعاً بهذا الفصول الـ 18 التي تتألف الرواية منها. وقد شبه بعض النقاد هذا البناء الروائي بما أنجزه هوميروس، مرتكزين إلى المخطط القائم على التمهيد أو المفتتح وهو يضم ثلاثة أجزاء، ثم على 12 فصلاً رئيسة تطابق "مغامرات" عوليس، وعلى خاتمة تكرر الأجزاء الثلاثة الأولى في التمهيد. ويمكن بسهولة أن يقارن القارئ بين الشخصيات الجويسية والأبطال الهوميريين، ليوبولد بلوم (عوليس)، ستيفان ديدالوس (تيليماك)، موللي بلوم (بنيلوب)، بيللا كوهين (سيرسه)، وتذكّر أفعال الشخصيات وتصرفاتهم على المستوى الرمزي ببعض الوقائع الهوميرية، فعندما كتب جويس روايته كان يتنقل بين مدن ثلاث هي تريست زوريخ وباريس، واعتبر الكاتب الفرنسي فاليري لاربو الذي أشرف على الترجمة الفرنسية الأولى للرواية مع جويس نفسه، أن رواية "عوليس" هي "محاكاة ساخرة" (بارودي) للأوديسية، وصيغة معاصرة لها".

واللافت أيضا أن الرواية تفتتح بصلاة الصبح التي تذكر بالصلاة التي وجهها هوميروس إلى "ربات الفن" وتيليماك إلى الإلهة أثينا. وكم بدا حقيقياً وصف الرواية بـ "الورشة الهوميرية" نظراً إلى انطلاقها من الأسطورة الشهيرة، ولكن ليس لتتبناها بل لتنقضها. وقد حسُن لبعضهم أن يسمي الشخصيات الجويسية بالشخصيات الهوميرية "المضادة".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ثمة إجماع نقدي على أن الفصل السابع من الرواية، وهو الخاص بـ "الفصاحة الصحافية"، يحتوي على نحو 96 صورة بيانية، وثمة إجماع أيضاً على أن الفصل الـ 11 يحاكي عبر موسيقية ألفاظه وأحداثه وعبر نسيجه الصوتي "متوالية" موسيقية في مضامينها وعناصرها الكاملة، وهناك إجماع كذلك على أن الفصل الـ 14 يعيد تطوير اللغة الإنجليزية من خلال "المعارضات" الأدبية المتواصلة، منتقلاً من العمق الساكسوني لهذه اللغة إلى "العامية" الأميركية، ولعل هذه القدرة اللغوية الفائقة جعلت جيمس جويس في مرتبة أمراء الكلمة في العالم، ومنهم دانتي وشكسبير وسيرفانتس وغوته، وهذا الثراء اللغوي الذي يثير الحيرة لا يسعى في الرواية إلى الانتظام في وحدة صارمة، على أنه أيضاً خلو من السديم اللفظي أو من المصادفات المجانية، والبناء الروائي بدوره لا يخضع، على تعدده، لأنظمة محددة ولا لعلاقات مدروسة تماماً أو لأهداف بعيدة المرمى.

ليست رواية "عوليس" مغامرة روائية وحسب، ولا مغامرة لغوية وأسلوبية فقط، إنها مغامرة روحية وعقلية أيضاً، استطاعت أن تعيد إلى الإنسان معنى الوحدة ومعنى الأزلية ومعنى قرابته العميقة للعالم. وعلى الرغم مما تحمل من مآس وآلام ومهازل عبثية، فهي تظل أجمل مديح يمكن أن يقال في الإنسان، حائراً وقلقاً وباحثاً دوماً عن حياة أخرى، حقيقية أكثر من الحياة نفسها.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة