Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"اللطخة الصفراء" التي أعادت فن فرمير إلى الواجهة

عندما أخرج الكُتاب الفرنسيون "صامت دلفت" من وهدة النسيان

لوحة "مشهد من دلفت" ليوهانس فيرمير (متحف هولندا الوطني)

كان نحو من مئتي عام قد مرت على رحيل الفنان الهولندي يوهانس فان در مير عن عالمنا فطواه نوع غريب وظالم من نسيان يصعب العثور على مبرر له. ففي خارج حلقات نخبة الجامعين والمؤرخين لم يعد أحد يذكر ذاك الذي بات فيرمير مختصر اسمه، وستقوم شهرته المتبقية على قلة عدد أعماله الباقية والمتداولة حتى وإن كان من ظل يتذكره ينسب إليه عدداً من اللوحات يصل إلى ضعف عدد تلك التي تركها.

هوى فرنسي

ولكن بشكل مفاجئ وتحديداً في عام 1866 حين كان ناقد فني فرنسي يدعى ثيوفيل ثوري– بورجيه يشتغل على بحث سياسي يتعلق بالارتباط بين الفن الهولندي ونزوع الهولنديين إلى مناصرة النظام الجمهوري، وجد نفسه أمام أعمال فنية مدهشة تتماس مع الحياة اليومية. وهو سرعان ما راح يبحث حتى اكتشف أن تلك اللوحات من إنتاج عدد من رسامين متزامنين لعل أهمهم بالنسبة إليه كان فرمير الذي لفرط إعجابه به راح ينسب إليه عدداً كبيراً من لوحات سيتبين لاحقاً أنها ليست له، بل سيسعى لدى السلطات الفرنسية كي تشتري لوحة له ستصبح من الأشهر لاحقاً، هي "شاغلة الدانتيلا" التي باتت معلقة في اللوفر منذ عام 1870، وكان ذلك الاكتشاف الفرنسي الكبير الأول لفرمير وستتبعه "اكتشافات" أخرى لعل أهمها ذاك الذي سيكون بقلم الشاعر والدبلوماسي بول كلوديل- الذي سيركز خصوصاً في واحد من مقالاته المهمة على لوحتين لـ"صامت دلفت"، وهو اللقب الذي سرعان ما أُعطي لفرمير في وقت قُلص فيه عدد اللوحات التي يمكن أن تنسب إليه، إلى أقل من 35 لوحة، هما الوحيدتان اللتان تصوران مشهدين خارجيين: "زقاق" و"مشهد من دلفت". والحال أن هذه اللوحة الأخيرة التي تحمل توقيع فيرمير وتاريخاً محدداً لإنجازها هو 1661، ليست فقط واحدة من أكبر لوحات الرسام مساحة (98 سم ارتفاعاً مقابل أكثر من 117 سم عرضاً)، بل سيجعل منها فرنسي آخر هو الكاتب مارسيل بروست في الجزء السادس، "الأسيرة" من روايته الكبرى "البحث عن الزمن الضائع" واحدة من "أجمل اللوحات في العالم" إن لم تكن "أجملها على الإطلاق".

اللوحة ذات الجمال القاتل

لكن بروست لم يكتف بذلك، بل حدد لتلك اللوحة دوراً في بعض صفحات الرواية. ففي ذات يوم يقرر الصحافي والكاتب بارغوت، أحد الشخصيات الرئيسة في "الأسيرة" أن يقوم بزيارة معرض للفن الهولندي يقام في متحف الأورانجري. وهناك أمام مرأى لوحة "مشهد من دلفت" يذهل الكاتب متحدثاً عن "تلك اللطخة الصفراء" التي لمحها في اللوحة فسحره سرها. ولا يلبث أن يقع ميتاً لفرط تأثره. ولئن كان بروست قد وصف هنا بشيء من المبالغة تجربته الخاصة حين زار المعرض نفسه ووقف أمام نفس اللوحة قبل كتابته الرواية ووصفه لمصير بارغوت بسنوات؛ فإن باحثاً إيطالياً سوف يضع كتاباً بعد ذلك بسنوات يؤكد فيه أنه ليس ثمة في اللوحة في حقيقة الأمر أي وجود لتلك "اللطخة الصفراء الشهيرة" بل إن بروست اخترعها ليجعلها سبباً في القضاء على الشخصية في الرواية. وبالتالي نوعاً من التورية لما حدث له هو شخصياً حين أقعدته صدمة صحية بعد زيارة المعرض ومشاهدة اللوحة مع فارق أساسي هو أن الصحافي بارغوت كان مصيره أسوأ بكثير من مصير مبدعه!

مالرو على الخط

المهم أن أولئك الفرنسيين الثلاثة وكلهم من كبار الكبار في زمنهم، ومنهم بعض كبار المبدعين في كل الأزمنة، تمكنوا من إعادة فيرمير إلى الوجود وإلى واجهة الحياة الفنية في أوروبا والعالم بشكل بات متواصلاً منذ ذلك الحين، بل حتى دفع المثقف والكاتب الكبير أندريه مالرو إلى تلقف الكرة من بعدهم ليخص فيرمير بعدد لا بأس به من صفحات وصف فيها أعماله وأسهب في ربط تلك الأعمال بالمناخ السياسي والفني الذي كان سائداً في هولندا يوم تصدى شعب ومثقفو تلك الجمهورية الصغيرة لثلاث من أعتى القوى الأوروبية في ذلك الحين: إسبانيا وفرنسا وإنجلترا، وكان الفن خير سلاح استخدموه في تلك الصراعات. لكن مالرو لم يتوقف عند ذلك البعد الذي كان، على أي حال وكما أشرنا، البعد الأساسي الذي حرك ثوري – برجيه، بل تجاوز ذلك ليطرح على فن فيرمير أسئلة لا تزال صالحة للنقاش حتى أيامنا هذه. ففي ما يشبه التحليل البوليسي تنبه مالرو مدهوشاً إلى أن معظم الشخصيات التي رسمها فيرمير في المشاهد الداخلية على الأقل كانت تتشابه إلى حد كبير في ملامحها وثيابها وربما سلوكها أيضاً، ليستنتج من ذلك أن الفنان إنما ركز بشكل أساسي على أفراد عائلته وربما على امرأته أيضاً هو الذي، على سبيل المثال، رسم امرأة حاملاً في ما لا يقل عن ثلاث لوحات. ويلفت مالرو إلى أن هذا الموضوع لم يكن مطروقاً بكثرة في الرسم. ومعنى هذا أنه كان استثنائياً دنا منه فيرمير لأسباب ربما تكون محض عائلية!

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الزوجة والابنتان

ويضيف مالرو أن المرأة في لوحة "امرأة بالأزرق تقرأ رسالة" لا بد أن تكون زوجة الرسام كاتارينا بولنس، كما أن الفتاتين اللتين رسمهما فيرمير في لوحتيه "الفتاة ذات القبعة الحمراء" و"فن الرسم" لا يمكن أن تكونا سوى اثنتين من بناته، بينما، ودائماً في رأي مالرو، لا يمكن للشخصية المرسومة في لوحة "الجغرافي" أن تكون سوى فيرمير نفسه ما يجعل من هذه اللوحة أوتوبورتريه، بل من معظم لوحات فيرمير الداخلية والعائلية بورتريهات لأشخاص يعرفهم جيداً بل يمكنه أن يرسمهم من الذاكرة وإن في أدوار متعددة لكل شخصية منها. بل يقول باحثان وضعا كتاباً حديثاً عن فيرمير أن "الجرأة وصلت بمالرو إلى حد اقتراح إمكانية وضع ترتيب زمني للوحات فيرمير ينطلق من الأعمار المفترضة للشخصيات المرسومة" (يوهان بروتايس وإيلوا روسو في كتابهما المشترك "فيرمير والمعلمون الهولنديون").

بين العلم والانبهار

فهل نحن هنا أمام كلام علمي أم أمام مجرد انبهار بفن ذلك الصامت الأبدي الذي كان هو يوهانس دي فيرمير والذي بعد غياب طال زمناً عن الساحة الفنية العالمية، نراه يعود بقوة إليها، وذلك بفضل كتّاب وباحثين فرنسيين سحرهم فنه وربما بخاصة ديمقراطية ذلك الفن. بل سحرهم أكثر عالم الألغاز الذي لم يكف منذ قرن ونصف القرن عن الإحاطة بفن الرجل وربما بحياته أيضاً. وفي هذا السياق يمكننا من دون محاولة الإجابة على العدد الكبير من الأسئلة الذي يطرح حول فيرمير وفنه، يمكننا أن نقول إن الكتب والدراسات التي صدرت عنه تكاد تتفوق عدداً على ما يصدر عن أي فنان آخر، لكن المدهش في الأمر هنا هو أن كل الكتب والدراسات التي تصدر عن فيرمير تعبق بطرح الأسئلة أكثر كثيراً مما تحفل بتقديم الإجابات. فمع فيرمير ليس ثمة مجال لأي يقين. بل تبدأ الأسئلة من مكان يبدو غريباً: لماذا لم يرسم فيرمير سوى ذلك العدد القليل جداً من اللوحات، حيث لا يوجد اليوم سوى أقل من ثلاث دزينات من لوحات تيقن الباحثون أنها من إنتاجه، هو الذي لم تكن له مهنة أخرى، ثم لماذا يتشارك معظم لوحاته بأحجام صغيرة جداً وندر من بينها تلك اللوحات الكبيرة الحجم التي ميزت أعمال مجايليه، وما الذي كان يفعله في الوقت الذي لم يكن يرسم فيه؟ صحيح أن يوهانس فان دير مير (1632 – 1675) لم يعش سوى ثلاث وأربعين سنة، لكن كان عدد من السنوات يكفي لرسم عدد أكبر كثيراً من اللوحات. فهل معنى هذا أننا ربما يتاح لنا مع مرور الزمن أن نكتشف لوحات أخرى له لا نعلم اليوم مكان وجودها أو نعرفها لكننا لا نعرف أنها من رسمه؟ اللغز مستمر بالتأكيد.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة