Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

ليو جين يون يروي الطلاق على الطريقة الصينية

سخرية سردية تستدر تعاطف القارئ وتتجنب حكم الرقابة

لوحة للرسامة سعاد مردم بيك (صفحة الرسامة على فيسبوك)

منذ أن تعرف العرب إلى نتاج الأدباء الصينيين الأوائل، عبر ترجمة أعمالهم الروائية، لا سيما الحاصلان منهم على نوبل للآداب، عنيت غاو كسينغيان عام (2000)، ومو يان عام (2012)، ولا يزال هذا العالم موضع إثارة وتساؤل عن عوالم الصين الخاصة وقضاياها المجتمعية والسياسية المعاصرة التي لم تعد خافية، لا سيما أن للأدب أكثر من غيره، القدرة على النفاذ إلى المشاكل الكبرى التي يعاني منها المجتمع الصيني (وأي مجتمع آخر)، إذ يكشف عنها الأديب الفرد، من خلال إعادة تشكيله شخصياته النموذجية وتركيزه على قضية أو ظاهرة لا بد أن تكون مستلة من صميم الحياة الاجتماعية التي تنتمي إليها هذه الشخصيات، إن صح اعتباره روائياً واقعياً، شأن الكاتب الذي يأتي الحديث عن إحدى رواياته.

إذاً، من هؤلاء الكاتب الصيني "ليو جين يون" (1958) الذي ترجمت إحدى رواياته إلى العربية بعنوان "طلاق على الطريقة الصينية" (دار المتوسط -2021) علماً أن أعمال له (روايات ومجموعات قصصية) ترجمت إلى أكثر من أربعين لغة، ونال جائزة "ماودون" في الأدب، وهي تعادل نوبل للآداب في الصين.

ولئن كان غاو كسينغيان متأثراً بالإنتاج الأدبي الوجودي والعدمي لبيكيت، وأنطونين آرتو، وبريشت وغيرهم، وكان مو يان مغرقاً في عالم الأساطير الصينية وساعياً إلى إحيائها، فإن كاتبنا ليو جين يون المتأثر برائد الواقعية الصينية الساخرة لو شون (1881-1936) يملك من الجرأة، في ظل النظام الصيني الديكتاتوري الذي أحكم رقابته على الكاتبين الأولين، على المناورة في تناوله قضايا اجتماعية واقعية، وهو المولود من أسرة فقيرة وسط مقاطعة خنان، وفي نزعته الانتقادية الذكية التي تتيح له معالجة أكثر المسائل حساسية، في حياة الشعب الصيني، وطبقاته الفقيرة، من منظار الفكاهة والكوميديا الرمادية والبيضاء، وعبر استراتيجية التضخيم، والمبالغة، على ما يسميه البعض الكوميديا ديللارتيه، والمواقف المضحكة التي تستدر تعاطف القارئ، وتتجنب لومة الرقابة الغشيمة، وتلقي بأضوائها الكاشفة على مواطن الفساد في مؤسسات الدولة الصينية الموكولة إلى الحزبيين ذوي المصالح، وعلى صرف النفوذ فيها، والخيانة، والازدواجية، والميل الغالب إلى المصلحة الشخصية، والكثير مما لا تحسن دراسة اجتماعية معمقة الكشف عنه، على حد سواء.

القاضي والمرأة

إذا، تبدأ رواية "طلاق على الطريقة الصينية"، في فصلها الأول، بمشهد يمثل مقابلة جرت بين القاضي وانغ قوانغ داو الشاب، وامرأة ريفية تدعى "لي شيوليان"، وقد أتت مدعية للقاضي بأن طلاقها من زوجها السابق "تشين يوخه" مزيف، وبالتالي ينبغي إبطاله من أجل أن تعاود الزواج بزوجها، ليستبقي كلاهما ولداً من زواج سابق، فيجتمع لهما ولدان في المحصلة الأخيرة، وبصورة قانونية. إلا أن الأمور لا تلبث أن تسير عكس ما تتمناه "لي شيوليان"، هي الواضعة طفلة لشهرين خليا، وقد خالفت قانون الدولة الصينية بوجوب أن تكون للعائلة الواحدة ابن أو ابنة واحدة، فحسب، في حين أنه كان للزوجين ولد غير هذه. فكان الطلاق السبيل الوحيد لعدم تجريم الأب العامل "تشين يوخه". إذ يرفض القاضي ادعاءها بزيف الطلاق، حالما تبرز له الوثيقة الرسمية بذلك. وما السبيل الملتوي الذي قصدت سلوكه لي شيوليان سوى التهرب من تبعات قانون الولد الواحد، ولمعاقبة زوجها المطلق الذي سارع إلى الزواج من امرأة أخرى، بدلاً من إعانتها على حبك الحيلة، والعودة إلى الزواج من "لي شيوليان" حفظاً للولدين.

ولما أيقنت لي شيوليان بعبث الدعوى، ورفض القضاة الاستجابة لها، انتقلت إلى خطة أخرى هي الانتقام بالقتل. ولكن كيف السبيل إلى ذلك وطليقها بطول 185 سنتم، "قوي البنية، عريض المنكبين" (ص:25)؟ إلا أنها سرعان ما صرفت النظر عن القتل، بعد انكفاء معظم المتدخلين عن هذه المهمة، واتضاح رعونتها. ثم إن شعور الظلم راح يتنامى في نفس "شيوليان" هذه، إذ خيبها القاضي "وانغ قونغ داو"، ثم عضو اللجنة القضائية، ثم رئيس الهيئة القضائية، بعد خديعة زوجها الأول، وعزمت على تقديم شكوى ضد هؤلاء جميعاً، مضافاً إليها شكوى ضد نفسها!

ولما كانت هذه الشخصية الشعبية (البطلة العادية) ثابتة العزم، ومدركة أنها خاسرة كل شيء، سوى كرامتها، أرادت أن تبلغ شكواها إلى أعلى سلطة ممكنة في الدولة، فرفعت لافتة كتبت عليها "مظلومة" وأبقتها مرفوعة لدى مرور العمدة، فطلب إبعادها وحبسها سبعة أيام.

ولدى خروجها من السجن قررت المضي إلى بكين العاصمة، تشكو أمرها إلى القيادة، وذلك في مناسبة انعقاد مؤتمر القيادات ونواب المحافظات كلها. وقد أمكنها بالحيلة التسلل إلى قاعة النواب، والمرافعة عن نفسها بالقول "أنا مظلومة". ولئن حُبست لانتحالها صفة النائبة، فإن المسؤول الكبير سرعان ما استدعاها من سجنها، لتدلي بما تشكو منه، ولتشفي بعضاً من غليلها بذكرها وقائع الرشوة والفساد، والمماطلة، وغيرها، أبطالها القضاة، والموظفون المرتشون، والمحافظ، ممن لم ينظروا في شكواها وردوها خائبة. وللحال، صدرت الأوامر بتنحية هؤلاء، وتعيين آخرين مكانهم. أما صيتها، في كونها امرأة مهابة من الدولة، فبات على كل شفة ولسان، لا سيما من موظفي المقاطعة وقضاتها حيث تقيم.

فساد وإرتشاء

ولكن الرواية لا تنتهي عند هذا الحد؛ إذ تكشف وقائع الفصل الثاني ("تمهيد/ بعد عشرين عاماً") أن المرأة نفسها، "لي شيوليان" وقد بلغت التاسعة والأربعين من عمرها، ما برحت عازمة على الشكوى ورد الاعتبار لنفسها، واحتمال جر كثير من الموظفين، صغارهم وكبارهم، إلى الإقالة والتغريم ما داموا فاسدين ومرتشين ولا يؤدون مهامهم الموكلة إليهم بنزاهة، وكأن شيئاً لم يكن! ولما كانت الدوائر القضائية والموظفون في المقاطعة، حيث تسكن "المرهبة"، تخشى من ذهاب لي شيوليان إلى بكين للشكوى، تلك السنة، أرسلت صديقاً قديماً لها بغية ثنيها عن الشكوى، بدعوى رغبته في الزواج منها، وهو "وانغ قونغ داو"، وكان ذلك لقاء خدمة يفترض بالدوائر الحكومية في تلك المقاطعة أن تعمل على تثبيت ابنه في وظيفته. وإذ تنطلي الحيلة عليها، وتوافق على الزواج منه، شرط تقديم الشكوى في بكين، يخلصها صديقها من إقامتها الجبرية المزعومة، ويمضيان، على صهوة دراجة نارية، تلاحقهما الشرطة المحلية لمنعهما من بلوغ بكين، عبر المسالك والطرقات، في المدى الواسع.  

ولا تنتهي المطاردة التي باتت فيها لي شيوليان وحيدة، إثر انكشاف أمر صديقها القديم، إلا بعد أن أبلغها ابنها، أن والده الذي تشكوه توفي، وأنه لا لزوم لتقديم الشكوى. ولكن المفارقة "الروائية" أن الرواية لا تختتم عند هذا الحد؛ إذ يبقي الروائي القسم الثالث والأخير (المتن/ للهو فقط، ص:285-304)، وفيه يعرض لنهاية شخصية المحافظ، على يد شرطيين آتيين لإعادته إلى البلدة ومحاكمته بتهمة خداع الحكومة.

لربما بدا النهج الذي اتبعه الروائي، في هذه الرواية كما في سائر ما كتب، أعني نهج اللعب على عدة أوتار في آن معاً فهو نهج بسيط أو ممكن تدبيره: عنيت به المراوحة في اللعب بين وتر التهكم، والضحك من المفارقات والمبالغات، ووتر الانتقاد الواعي أزمة المواطن البسيط والمسحوق تحت عجلة البيروقراطية المنتفعة، وإن في ظل غطاء من الشرعية الشعبية ممثلة في سلطة الحزب الشيوعي الصيني العليا.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

 ولكن النهج السالف صعب، ويحتاج من الكاتب قدرة كبيرة على ضبط الحدود الضيقة بين رواية التسالي الكوميدية، والمشاهد الضاحكة والموقعة توقيعاً مضبوطاً للغاية، وإعانتها في استكمال رسم الشخصية النموذجية (لي شيوليان)، وجعلها القطب المثالي، بسذاجتها النقية، ووفائها المبدئي، وتجردها من النفعية، بحيث تخول الحكم على أداء الموظفين في الدولة، صغاراً وكباراً، قضاة ورجال شرطة وأزواجاً سريعي التخفف من المسؤوليات. ولولا لذلك لما كانت هذه الرواية مرافعة مفحمة ضد قانون الطفل الأوحد، وقد استتبعت بنقاشات مستفيضة في أغلب الأوساط الرسمية والشعبية الصينية الضاغطة.

ثم أين الطابع الصيني المحلي في الرواية؟ للإجابة أقول إن الطابع الصيني لا يقتصر على الصلات الموصوفة في الرواية بين المواطنين والدولة ذات التوجه الشيوعي الظاهر، وإنما يتعداه إلى إبراز الفكر الشعبي الصيني الأصيل، والذي تمثل في عودة غالبية الشخصيات في الرواية إلى تراث الأمثال الشعبية الصينية، تمدهم بالقيم وبالتوجهات السليمة الواجب اتباعها سواء في علاقتهم بالسلطة، أو بعلاقاتهم فيما بينهم. وقد يكون ذلك عوداً سليماً على بدء حضاري.

للكاتب ليو جين يون تسع روايات أهمها "الموطن، وهراء، والموبايل، وعصر المتفرجين، ورب جملة بعشرة آلاف جملة"، وغيرها من المجموعات القصصية، وكتابة السيناريوهات لأفلام عديدة.

والإشارة الأخيرة إلى الترجمة الواثقة، من الصينية إلى العربية، التي أعدها كل من أحمد السعيد ويحيى مختار.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة