Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

فنزويلا... و"فضلات الشيطان"

الوضع المأساوي الذي تعيشه فنزويلا اليوم هو نتيجة تراكمات تاريخية من الفساد الإداري والحكومة الاشتراكيَّة التي جاء بها الرئيس السابق هيوغو تشافيز

"بتروليوس دي فنزويلا" إحدى مصافي المجموعة النفطية الفنزويلية التابعة للدولة (رويترز)

"عشر سنوات من الآن، عشرون سنة من الآن، سوف ترون: النفط سيجلب لنا الدمار... النفط هو فضلات الشيطان"

هذه كانت نبوءة ألفونسو بيريز، وزير النفط الفنزويلي، ومخترع فكرة أوبك، الذي توفى في أواخر السبعينيات. ربما لم يكن دقيقاً في التوقيت، إلا أن ما يحصل في فنزويلا، اليوم، يؤكد أمرين: أن موضوع الفساد الإداري وسوء إدارة الموارد النفطية قديمٌ، وأنه كان ذا نظرة ثاقبة!

إن الوضع المأساوي، الذي تعيشه فنزويلا اليوم، هو نتيجة أمرين: الأول تراكمات تاريخية من الفساد الإداري، الأمر الذي قسَّم المجتمع إلى طبقتين: طبقة غنيَّة جداً، وطبقة فقيرة جداً، وما بينهما قليلٌ نسبياً. والثاني أن الحكومة الاشتراكيَّة، التي جاء بها الرئيس السابق هيوغو تشافيز في عام 1998، على أكتاف الطبقة الفقيرة، كانت الأسوأ من نواحٍ عدة، فأفقرت البلد إلى حد المجاعة، ولا أمل في إصلاح الوضع بعد هروب رؤوس الأموال الأجنبية والمحليَّة، وهجرة العقول والأيدي الماهرة إلى شتَّى أنحاء العالم، وفي ظل المقاطعة الاقتصادية الأميركية، وفي ظل وجود رئيسين، الرئيس نوكلاس مادورو، ورئيس مجلس الشعب خوان غوايدو، الذي اعترفت به أكثر من 50 دولة رئيساً مؤقتاً لفنزويلا.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

كما أن انخفاض إنتاج النفط بشكل كبير ومستمر زاد الأمور تعقيداً، لأن الحكومة بحاجة ماسة إلى أي دولار إضافي. ونظراً إلى وجود عقوبات أميركية، فإنه يباع الآن بثمن بخس. ويختلف الخبراء حول مستقبل النفط الفنزويلي، إلا أنه من الواضح أن ازدهار الإنتاج مرة أخرى يتطلب عدة سنوات، حتى لو تحوَّل الوضع السياسي إلى الأفضل في المستقبل القريب.

"البندقية الصغيرة" أول مصدّر للنفط في العالم
عرف النفط في فنزويلا منذ القدم، وكان السكان الأصليون، كما في فارس والعراق والخليج، يستخدمونه لعلاج الناس والإبل وفي طلاء السفن. ولعل أطرف ما في تاريخ النفط في فنزويلا أنها أول مصدر للنفط في العالم، إذ تم تصدير برميل نفط واحد إلى ملك إسبانيا لعلاج الروماتيزم وألم المفاصل في عام 1539، وكان كريستوفر كولومبس اكتشف فنزويلا في عام 1498، التي كان يقطنها سكانها الأصليون من الأراواكس والكاريبس. وتم إطلاق اسم "فينيسويلا" على المنطقة تصغيراً لمدينة "فينيس"، فأصبحت "البندقية الصغيرة"، وذلك بسبب قيام السكان الأصليين ببناء البيوت في منطقة البحيرات، الذي جعلها تشبه مدينة "البندقية". وعلى الرغم من أن البرتغاليين والإسبان هم أول من هاجر إلى فنزويلا، فإنه كانت هناك هجرات ألمانية كبيرة إلى المنطقة.

استقلت فنزويلا عن الإسبان في عام 1811، لكن هزة أرضية ضخمة في المدن المستقلة أدت إلى سيطرة إسبانيا عليها في العام التالي. ولم تحصل فنزويلا على استقلالها مرة أخرى إلا في عام 1821 على يد سيمون بوليفار، الذي اعتبره الرئيس الراحل هيوغو تشافيز ملهمه وأباه الروحي، وكان يكرر مقولاته دائماً في خطبه الرسمية وبرنامجه الإذاعي الأسبوعي. وقام تشافيز بتغيير اسم فنزويلا ليصبح "جمهورية فنزويلا البوليفارية" نسبة إلى بوليفار، وبسبب جهود بوليفار أصبحت فنزويلا جزءاً من جمهورية كولومبيا الفيدرالية الكبرى، التي ضمَّت في ذلك الوقت كولومبيا وفنزويلا وبنما، ثم استقلت فنزويلا بنفسها في عام 1830، بينما انتزعت بنما من كولومبيا بمؤامرة أميركية.                                                 

وعانت فنزويلا الحرب الأهليَّة منذ استقلالها وحتى عام 1903، عندما تم إرساء السلام فيها، وتعاقب بعد ذلك عديدٌ من الرؤساء على فنزويلا، كان أشهرهم الديكتاتور خوان فيسنتي غوميز، الذي حكم مدة 27 سنة ابتداءً من عام 1910، وجاء أغلب التطورات السياسية في فنزويلا، كما حصل في العالم العربي، في الأربعينيات من القرن الماضي عندما تم إصدار قانون المعادن وسمح بالتعددية الحزبية وتأسيس نقابات العمال، الأمر الذي سمح بنوع من الحرية السياسية، التي لم تكن موجودة من قبل.

ويرى بعض المؤرخين أن فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية أسهمت في هذا التغيير، بسبب انخفاض أسعار النفط بشكل كبير بعد الحرب، وانشغال الناس بالحركة السياسية، وظهور طبقة متوسطي الدخل، التي كان لها دورٌ كبيرٌ في إرساء قواعد الديموقراطية في فنزويلا، ونظراً إلى اهتمام الولايات المتحدة بفنزويلا تم في الخمسينيات توقيع اتفاقية خاصة مع فنزويلا، التي أسهمت في ترسيخ قواعد الديموقراطية، في الوقت الذي تعهدت فيه الولايات المتحدة بالدفاع عن ذلك البلد الغني بالنفط. وقد ضمنت تلك المعاهدة والنظام السياسي الجديد وجود حكومات موالية للولايات المتحدة دائماً حتى جاء هيوغو تشافيز، الذي استغل النموذج "الأميركي" في فنزويلا للوصول إلى السلطة، ثم انقلب على أميركا، واستمر الرئيس الحالي نيكولاس مادورو على نفس النهج. ولمَّا اندلعت المظاهرات بكثافة وتفجَّرت الأوضاع بشكل كبير بسبب الوضع المأساوي، قررت الولايات المتحدة فرض عقوبات اقتصاديَّة إضافيَّة، وسحب الاعتراف من الرئيس الحالي والاعتراف برئيس مجلس الشعب خوان غوايدو، رئيساً مؤقتاً لفنزويلا.

وقامت فنزويلا في الأربعينيات والخمسينيات بشق شبكة من الطرق الضخمة، التي لا مثيل لها في أميركا اللاتينية، وقامت ببناء مئات المدارس وعشرات المستشفيات والاهتمام بالصناعة، بهدف إنتاج السلع محلياً بدلاً من استيرادها، لكن انتشار الفساد الإداري، خصوصاً مع ارتفاع أسعار النفط في السبعينيات، أدى إلى تدهور البنية التحتيَّة، وهبوط مستوى الخدمات العامة، وزيادة فجوة الدخل بين الأغنياء والفقراء.

وجاء انتخاب تشافيز في آخر عام 1998 بأغلبية قدرها 56%، عندما كانت فنزويلا في إحدى أسوأ المراحل في تاريخها، إذ انخفضت أسعار النفط في تلك الفترة إلى أقل من 10 دولارات للبرميل، وانتشرت البطالة، ووصل العجز في الميزانية والديون الخارجية إلى مستويات تاريخية. لذلك فإنه لا يمكن لوم تشافيز وخليفته مادورو على كل المشكلات، التي تعانيها فنزويلا حالياً، لكن يلام كلاهما على عدد من سياساته الاقتصاديَّة والماليَّة، وبعض الخطوات السياسية الخاطئة، خصوصاً أن أسعار النفط ارتفعت بمقدار 3 أضعاف في عام 2000، ولم تؤد إلى تحسُّن الاقتصاد الفنزويلي، ورغم أن تشافيز ومادورو أصبحا رئيسين عن طريق انتخابات مدنيَّة، فإنه ينظر إلى حكمهما على أنه حكمٌ عسكريٌّ ديكتاتوريٌّ، ويعتبر البعض أن الانتخابات الأخيرة، التي نجح فيها مادورو مزوّرة.

وكان للقادة العسكريين دورٌ كبيرٌ في تاريخ فنزويلا، إذ تعاقب على فنزويلا 53 رئيساً بين عامي 1830 و2019، كان منهم 35 من الجيش، ومدة 169 سنة، و17 فقط من المدنيين ولمدة قدرها 60 سنة. ويذكر أن هناك خدمة عسكريَّة إجبارية في فنزويلا، لكن انتشار الفساد الإداري أدى إلى قيام العائلات الغنية بتوظيف أبناء العائلات الفقيرة كي يخدموا بدلاً من أولادهم في الجيش، ونظراً إلى معدلات البطالة العالية والإنفاق الكبير على التسليح، لجأ أفراد الطبقات الاجتماعيَّة الدنيا إلى الانضمام إلى الجيش، لأنه يوفر لهم ما لا توفره القطاعات الاقتصاديَّة الأخرى، الأمر الذي نتج عنه وصول تشافيز وغيره من أفراد الطبقة الفقيرة إلى السلطة، كما نتج عن ذلك عودة تشافيز إلى السلطة بعد الانقلاب العسكري في شهر أبريل من عام 2002، عندما رفض الجنود، وهم من الطبقات الفقيرة، إطاعة أوامر القيادة العسكرية الرافضة تشافيز، والتابعة للطبقة الغنية، وهي الطبقة نفسها التي تدعم حكومة مادورو حالياً.

فنزويلا والنفط العربي
اُكتشف النفط في فنزويلا بعد اكتشافه في إيران، لكن قبل اكتشافه في دول الخليج بعدة سنوات. وكانت فنزويلا من أكبر دول النفط في العالم عندما اُكتشف النفط في السعودية. ومع توسّع عمليات الاكتشاف والتنقيب بعد الحرب العالميَّة الثانيَّة، بدأ النفط العربي ينافس النفط الفنزويلي، وأسهم في دعم موقف شركات النفط العالميَّة، التي كانت الحكومة الفنزويلية تحاول الضغط عليها للحصول على مزيدٍ من العائدات.

ومع مرور الزمن تمكَّنت الحكومة الفنزويلية من تحقيق بعض المكاسب من شركات النفط العالميَّة، بما فيها نظام المناصفة في الأرباح. إلا أن هذا رفع تكلفة النفط الفنزويلي، وزاد من منافسة النفط العربي له، ومع الزمن خسرت فنزويلا حصةً سوقيةً كبيرة للعرب.

هنا أدركت الحكومة الفنزويلية أن عليها القيام بشيء ما، وبعد مداولات قرروا إرسال وفد إلى الدول العربية "لتثقيفهم" نفطياً في كيفية التعامل مع شركات النفط العالمية، وطرحوا على الدول العربية مشروع المناصفة في الأرباح، الذي راق للحكومات العربية وقتها، لأنها كانت بحاجة ماسة إلى المال، إلا أن هذه الحكومات لم تدرك أن الفنزويليين يقومون بذلك كي يستردوا حصتهم السوقية من العرب! أمَّا إيران، فإنها لم تستطع فعل أي شيء، لأن عودة الشاه بعد الانقلاب على انقلاب محمد مصدق تضمنت سحب قطاع النفط الإيراني من سيطرة الشاه تماماً، لصالح شركات النفط العالميَّة، لذلك كان يحاول مقارعة شركات النفط العالميَّة مستتراً بالدول الأخرى.

ووجدت الحكومة الفنزويلية ضالتها في الأنفونسو بيريز، الذي كان يطمح إلى توحيد الدول النفطية النامية تحت لواء واحد لمواجهة المعسكرين الغربي والشرقي، ومساعدة بقية الدول النامية، وعندما التقى وزراء فنزويلا والسعودية والعراق والكويت وإيران لتأسيس أوبك، كان لكل منهم هدفهم المستقل عن الآخرين، وهدف حكومة فنزويلا هو تحجيم المنافسة من الشرق الأوسط، هذا يعني أن بذور الشقاق ضمن دول أوبك كانت هناك منذ اليوم الأول.

ومن عجائب القدر الآن أن فنزويلا هي رئيسة أوبك الآن، ويمثل فنزويلا وزير نفطها، الذي كان جنرالاً في الجيش، وهذا أوقع الولايات المتحدة في مأزق، لأن هناك مشروعاً لمحاكمة أوبك بتهمة الاحتكار في الكونغرس الأميركي، فإذا قامت الولايات المتحدة بالضغط على أوبك لطرد ممثلي فنزويلا الآن، ووضع ممثلين لحكومة خوان غوايدو، فإن هذا يعني اعترافاً ضمنياً للولايات المتحدة بأن أوبك منظمة دولية لا منظمة احتكارية!

ونظراً إلى أن التطورات تسير بوتيرة سريعة في فنزويلا، فإنه من الواضح أن الأيام القادمة حُبلى بمفاجآت كبيرة، قد تتضمن انقلاباً عسكرياً، وقد تتضمن حرباً باردة طويلة المدى بين الأميركيين والروس تبقى النظام الحالي على ما هو عليه، سيكون الشعب الفنزويلي ضحيتها.  

اقرأ المزيد

المزيد من آراء