عاشت مدينة الجنينة عاصمة ولاية غرب دارفور، خلال الجمعة والسبت الماضيين يومين كابوسيين من الرعب والمواجهات العنيفة المميتة، سكبت فيها دماء غزيرة على ضفتي "وادي كجا"، الذي يجتاز وسط المدينة ويهديها وشاحاً من غابات أشجار النيم الوادعة تحوّلها إلى ظل كبير يزين مظهرها ويميزه.
لم تكن المدينة يومها سوى ثكلى الدم السوداني، الذي سلب أمنها، وأهداها الموت ليومين متتاليين في أعقاب أحداث قبلية دامية بلغ عدد ضحاياها حتى أمس الأحد، 83 قتيلاً و160 جريحاً، بحسب لجنة أطباء السودان بسبب مشاجرة بين شخصين في سوق معسكر كريدينق، تحوَّل إلى مواجهات مميتة، سرعان ما اجتاحت المدينة.
وأكد والي غرب دارفور، محمد عبد الله الدومة، في اتصال هاتفي لـ"اندبندنت عربية"، صباح الإثنين، هدوء الأحوال في المدينة وما حولها منذ ظهر أمس الأحد وحتى الآن، إذ لم تنشب أي اشتباكات فردية أو جماعية، أو أي من المظاهر المخلة بالأمن في ظل حظر التجول الشامل المطبق تماماً، وقال، "منذ ظهر أمس، الأحوال هادئة، لكن ليس معروفاً ما سيحدث لاحقاً". وكشف عن عدم وصول أي وفد من الحكومة الاتحادية إلى الولاية حتى اليوم، باستثناء وفد يضم خمسة من وكلاء النيابة العامة.
مجلس الأمن الوطني يتدخل
واتخذ مجلس الأمن والدفاع الوطني في جلسه طارئة، مساء أمس، حزمة من الإجراءات الأمنية والقانونية، لاستعادة الأمن في المدينة والولاية، على رأسها إرسال تعزيزات أمنية للسيطرة على الأوضاع وتأمين وحماية المواطنين والمرافق الحيوية إلى جانب تشكيل لجنة عليا للتقصي والتحقيق في الأحداث وتحديد جذور المشكلة ورفع التوصيات بشأنها.
وأعلن وزير الدفاع الفريق الركن يس إبراهيم، في تصريحات صحافية، أن قرارات المجلس تهدف إلى منع تكرار مثل هذه الأحداث بإنفاذ العدالة على الخارجين عن القانون ومحاسبة كل المتسببين في الأحداث، والشروع الفوري في استكمال انتشار القوات المشتركة لحماية المدنيين إلى جانب تنفيذ عمليات مشتركة عاجلة لنزع السلاح غير المقنّن، مع تشكيل لجنة عسكرية مشتركة لمراجعة الخطط الدفاعية والتأمينية لولاية غرب دارفور.
الأمن يسيطر على الموقف
وعقد المجلس اجتماعاً طارئاً برئاسة عبد الفتاح البرهان لمناقشة الأوضاع الأمنية في البلاد، بالتركيز على أحداث مدينة الجنينة والإجراءات التي اتخذتها ولاية غرب دارفور لبسط الأمن والاستقرار. وأعرب المجلس عن أسفه لتفاقم الأوضاع، وترحم على الأرواح التي أزهقت، متمنياً الشفاء العاجل للمصابين والجرحى، والوقوف على حجم الخسائر البشرية والمادية التي نتجت من الأحداث.
وقال وزير الدفاع يس إبراهيم، إن المجلس ثمّن الدور الذي اضطلعت به الأجهزة الأمنية والنظامية في الولاية، والجهود الرسمية والشعبية لاحتواء الموقف وتهدئة الأوضاع. وأوضح أن المجلس أحيط علماً بالتطورات على الحدود الشرقية، مؤكداً أنه على الرغم من التعبئة والحشد العسكري الذي تقوم به إثيوبيا في المناطق المواجهة للقوات السودانية في الفشقة، فإنها ستظل باقية في أراضيها حفاظاً على السيادة التي نصت عليها المواثيق والاتفاقيات التي تؤكد أحقية السودان لأراضي الفشقة. وناشد إثيوبيا سحب قواتها مما تبقى من مواقع لا تزال تحتلها في كل من مرغد وخور حمر وقطرآند، بأسرع ما يمكن التزاماً بالمعاهدات الدولية واستدامة علاقات حسن الجوار بين البلدين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
دعم جهود الولاية لاستعادة الهدوء
على الصعيد ذاته، قرر رئيس الوزراء السوداني عبد الله حمدوك إرسال وفد برئاسة تاج السر الحبر، النائب العام برفقة ممثلين لكل الأجهزة العدلية والأمنية، العسكرية والنيابة العامة، بصفة عاجلة إلى مدينة الجنينة لمتابعة الأوضاع واتخاذ القرارات اللازمة للمعالجة واستعادة الهدوء والاستقرار هناك. ووفق تعميم صحافي، من مجلس الوزراء، عقد حمدوك اجتماعاً عاجلاً لمناقشة تطورات الأحداث المؤسفة في الجنينة.
صراع قبلي تراكمي
في السياق، قال أبو القاسم إمام، والي غرب دارفور الأسبق، إن مدينة الجنينة تشهد صراعاً قبلياً تراكمياً بين مكونين قبليين معروفين منذ فترة ليست بالقصيرة، ظل يتفجر كل فترة وأخرى في مواجهات عنيفة ودامية، لأصغر الأسباب وأتفهها، حتى أصبحت الأحداث الجنائية الفردية تتطور مباشرة إلى ما يشبه الحرب بين الطرفين كما حدث يوم الجمعة الماضية، مبيناً أن موقع الولاية الطرفي وانفتاحها على الحدود، فضلاً عن التداخلات القبلية وتوفر السلاح، تعتبر من العوامل المساعدة التي تحفز على اقتناء وربما تكوين ميليشيات قبلية.
ووصف إمام ما حدث في مدينة الجنينة، بأنه جرح عميق ومأساة إنسانية تقضي على الحياة فيها، خصوصاً بعد تفاقم الأوضاع أكثر وارتفاع أعداد الضحايا بشكل كبير، بعدما هاجمت مجموعات مسلحة من القرى المجاورة في اليوم التالي للمواجهات عاصمة الولاية، بدوافع نصرة إخوتهم وإغاثتهم، الأمر الذي أثار الفزع، وحوّل المدينة إلى ما يشبه الحرب.
مخاوف تمدد المواجهات
وأعرب عن مخاوفه من تمدد الصراع وانتقاله إلى مناطق أخرى بين المجموعات المتصادمة ذاتها بحكم وجودها الجغرافي، ما قد يشكل خطراً على السلم الاجتماعي والأمن القومي الوطني، وهو ما على السطات المركزية العمل لتداركه بالسرعة والحسم والحكمة المطلوبة.
وأضاف الوالي الأسبق، "كانت الحكومات المركزية السابقة تعمل على احتواء الموقف مراراً، عبر معالجات سطحية وإجرائية ليست أكثر من مجرد مسكنات، إذ ظلت تتعامل مع ظواهر الأزمة بإجراء مصالحات فوقية والتوقيع على وثائق صلح ورقية بعيداً من المعالجات المجتمعية ومخاطبة أصل المشكلة، ما يعمّق التراكمات ويؤدي إلى تكرار الأحداث المؤسفة مرة تلو الأخرى". ولفت إلى أن الأدوات والمعالجات التقليدية كجمع السلاح وفرض هيبة الدولة وحالة الطوارئ مع أهميتها لبسط الأمن والهدوء، لكنها لا تمثل حلا نهائياً، ولا بد من حلول شاملة وواقعية تستبطن الجذور المجتمعية التي أصبحت متجذرة بشكل واضح.
هشاشة العلاقات وضعف الاستشعار
وتابع، كان حرياً بسلطات الولاية في أجواء مثل مدينة الجنينة، أن تكون يقظة من خلال تقصي المعلومات وتتبعها، والعمل الاستشعاري الاستباقي، بخاصة أن مواجهات مماثلة كانت قد وقعت بين المكونين نفسيهما العام الماضي وبسيناريو الشجار الشخصي ذاته، الأمر الذي كان سيمنع إزهاق كل هذه الأرواح وإثارة البلبلة والرعب واغتيال حياة المدينة.
في المقابل قال ناشط حقوقي في مجال فض النزاعات، ذو صلة وثيقة بمدينة الجنينة، فضَّل حجب اسمه، إنه من الضروري لتفادي مثل هذه الأحداث العنيفة المتجددة، النظر إليها في سياق تاريخها الدموي المرتبط بهشاشة العلاقات بين المجموعات السكانية، من أهل الأرض والسلطان أندوكا والقبائل العربية التي هاجرت إلى المنطقة منذ زمن بعيد.
أسباب تاريخية قوامها الأرض والموارد
يرجع الناشط الحقوقي، تلك الهشاشة إلى أسباب تاريخية سياسية واقتصادية جغرافية وأمنية، تمثل الموارد وعلى رأسها الأرض، داعياً إلى أهمية تمتين بنية المنظومة الأمنية بشكل متوازن حتى لا تُتهم بالمتحيز أو المتفرج بالنظر إلى طبيعة الصراع، معرباً عن أسفه من أن مثل هذه الأحداث يستغلّها بعض الجهات القبلية والاقتصادية وتجييرها لمصالح ذاتية.
وذكَّر بهذا الخصوص، بضرورة التمسك باللاءات الثلاث التي أكدها النائب الأول لرئيس مجلس السيادة، الفريق أول محمد حمدان دقلو، خلال الأحداث المماثلة في ديسمبر (كانون الأول) 2019 (لا غرامات، لا كرامات، لا ديات)، في إشارة منه إلى قطع الطريق أمام من سماهم الانتهازيين الذين يستغلون الأحداث من بعض الأعيان وتجار النزاعات.
وكانت مواجهات قد اندلعت بين مكونين قبليين في المدينة يوم الجمعة الماضي، عقب شجار أدى إلى مقتل أحد الأشخاص طعناً بالسكين في سوق في معسكر( كريندينق) للنازحين على شارع مطار المدينة، وتجدد العنف صباح السبت، عندما هاجم مسلحون من خارج المدينة ينتمون إلى أحد أطراف النزاع المخيم، مناصرة لأبناء قبيلتهم.
واعلن والي الولاية، محمد عبد الله الدومة، حظراً تاماً للتجول، شمل إغلاق جميع الأسواق وحظر التجمعات في أنحاء الولاية كافة، كما فوَّض قوات الأمن والجنود باستخدام القوة للسيطرة على الوضع. وكانت ولاية غرب دارفور مسرحاً لاشتباكات قبلية دامية مماثلة، أسفرت عن مقتل 54 شخصاً على الأقل ونزوح الكثيرين إلى تشاد.