Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

رحلة مع الفلاسفة في نظرية المعرفة (4)

أرسى رينيه ديكارت لفكره أربع قواعد ترشده في طلب المعرفة الحقة

يعد رينيه ديكارت أبرز العقلانيين في الفلسفة الحديثة (غيتي)

سردنا في الحلقة الثالثة رؤية الغزالي المعرفية، التي تركز على الجانب الروحي أكثر من الجانب العقلي أو الحسي، وكيف رد عليه ابن رشد، وأبطل عليه حججه في تكفير الفارابي وابن سينا، ودفاعه عن أفلاطون وأرسطو من منطلق معرفي، ودور ابن خلدون بمفهومه العلمي للمعرفة، والقريب إلى علوم العصر الحديث. 

من ديكارت إلى هيغل

يعد رينيه ديكارت (1596-1650) أبرز العقلانيين في الفلسفة الحديثة، وقالوا عنه هو مؤسسها، إذ تميز نهجه الفكري بإيجاد فلسفة عملية تهتم بالتجربة وتتفاعل مع نتائجها. فالمعرفة اليقينية التي لا يعتريها الشك، وفق رأي ديكارت، تعتمد على مدى معرفتنا بوقائع التجربة، والسبيل إلى ذلك، أن نقوم بعملية فكرية ثلاثية الركائز: حدسية وتجريبية واستنتاجية. الأولى لتسمية المبادئ الأولية الموضحة لكل شيء، الثانية من أجل أن نستخلص من هذه المبادئ نتائجها المباشرة، والثالثة في تناول الوقائع ومقارنتها مع مبادئ التفسير الموضوعة بشكل سابق للتجربة.

وأن "تعدد القاعدة جميع الأنشطة الفكرية التي يمكننا من خلالها الوصول إلى معرفة الأشياء من دون أي خوف من الخداع. فهي تسمح بحدسين واستقراء فقط. وأعني بالحدس ليس التأكيد المتذبذب للحواس، أو الحكم المضلل للخيال الخطأ، ولكن التصور الذي يتكون من الانتباه العقلي الواضح، فهو سهل للغاية ومتميز بحيث لا يترك مجالاً في ما يتعلق بما نحن عليه من فهم". (كتابات فلسفية، طبعة إنجليزية). 

إذ يعتقد ديكارت أن العلوم مترابطة بشكل وثيق لدرجة أنه لا يمكن دراسة علم ما بمعزل عن بقية العلوم. وأن العقل يمتلك وسيلتين للارتقاء إلى معرفة الحقيقة، الحدس والاستنتاج. الأولى، الإدراك البديهي الذي ينشأ من أنوار العقل، ويدرك الفكر اليقظ بوضوح وتمييز بحيث لا يطاله الشك، وليس الحدس المتقلب الذي نتلقاه عن طريق الحواس، أو الحكم المضلل الصادر من المخيلة المشوشة بالفطرة. الثانية، استخلاص من شيء نعرفه معرفة موثوقة مؤكدة، نتائج تنجم عنه بالضرورة، فهناك أشياء ليست بديهية في حد ذاتها لكنها يقينية، شريطة أن يستنتجها الفكر من مبادئ صحيحة.

بالاختصار، فإن القضايا الأولى الصادرة من المبادئ تكون معرفتها، إما عن طريق الحدس أو عن طريق الاستنتاج وفق ما يُنظر إليها، ولكن المبادئ نفسها معرفتها بالحدس وحده، والنتائج البعيدة بالاستنتاج فقط.

ولقد أرسى ديكارت لفكره أربع قواعد ترشده في طلب المعرفة الحقة، وهي:

القاعدة الأولى، ألا أقبل أي شيء على أنه حق ما لم يتبين لي بالبداهة أنه من الوضوح والجلاء بحيث لا يبقى لدي مجال للشك فيه.

القاعدة الثانية، أن أُقسم المشكلات المبحوثة إلى ما يمكن وما يلزم من تجزئة لحل هذه المشكلات بأفضل طريقة.

القاعدة الثالثة، أن أطرح أفكاري بالترتيب، مبتدئاً بأبسط الأشياء المستساغة علمياً، ثم بالتدريج إلى معرفة أكثر الأشياء تعقيداً.

القاعدة الرابعة، أن أضع في كل مجال الإحصاء والمراجعة الكاملة التي تجعلني على ثقة بأنني لم أهمل شيئاً ما.

صفوة القول، إن ديكارت يقابل بين العقل والحواس، فالأخيرة مجرد أدوات عملية يسدي نتائجها النفع العام في الحياة، إلا أنها خالية من القيمة بالنسبة إلى المعرفة. أما العقل، فهو نوع من الإشراق الخارق، والله هو الذي وضع في الإنسان فطرياً بعض الأفكار، وهي المعارف الأولية.

إن المعارف الأولية، بحسب قول باروخ سبينوزا (1632-1677)، هي أصلاً مغروسة بالإنسان تلقائياً، لأن الله هو جوهر هذا الوجود، وباقي الجواهر متضمنة فيه ومنبعثة منه. إن "الفكر هو صفة الله، أو أن الله هو تفكير الشيء، وإن الأفكار الفردية وهذا الفكر هي أنماط تُعبر بطريقة معينة وحاسمة عن طبيعة الله. لذلك، فإن الصفة التي تنطوي على مفهوم كل الأفكار الفردية، والتي من خلالها يتم تصورها، تتبع إلى الله. فالفكر إذاً هو إحدى صفات الله اللانهائية، التي تُعبر عن وجود الله الأبدي اللانهائي". (الأخلاق، طبعة إنجليزية). 

والإنسان يدرك الواقع الخارجي من خلال شكلين اثنين، وهما "الامتداد والفكر" أو "المادة والعقل"، وهما صفتان للجوهر الذي ندركه خارجياً بحواسنا كونه مادة، وبشعورنا باعتباره فكراً. كما أن هاتين الصفتين ليستا منفصلتين الواحدة عن الأخرى، وإنما هما جانبان خارجي وداخلي لحقيقة واحدة، الجسم في تكوينه العضوي، والذهن في الحالة العقلية المناظرة لها. وهكذا نحن نعرف الحقيقة، إما مادةً أو فكراً عن طريق الإدراك الحسي أو الفكرة فقط.

وفي تناوله لـ"قوة العقل"، يذهب سبينوزا في تقسيم المعرفة إلى ثلاثة أنواع، حسية استقرائية وعقلية استنتاجية وعقلية حسية. بالنسبة إلى المعرفة الحسية الاستقرائية، تكون فاعلة ومنفعلة بحسب الضرورة المعرفية التي تحصل عليها النفس، في الأولى، بوصفها تملك أفكاراً عامة، والثانية، بوصفها عاجزة عن إدراك طبيعتها وطبيعة الأشياء الخارجية، لأنها خاضعة إلى تأثيرات وعلل خارجية مناقضة لطبيعتها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

أما المعرفة العقلية الاستنتاجية أو التصورية، فإن النفس تسعى للتخلص من الغموص المتأتي من معرفتنا الحسية، وذلك بالانتقال من الجزئي إلى الكلي بواسطة المعرفة بالعقل من خلال الاستنتاج غير المباشر والحس المباشر.

والمعرفة العقلية الحسية أو الحدسية، يرتقي فيها العقل من الفكرة التامة للماهية الصورية لبعض الصفات الإلهية إلى المعرفة التامة لماهية الأشياء. وهذا "النوع الثالث من المعرفة" ينبثق من كفاية بعض صفات الله، المعرفة الكافية لجوهر الأشياء، وكلما فهمنا الأشياء بهذه الطريقة، فهمنا الله أكثر. وبذلك، فإن أعظم فضيلة للعقل، أي قوة العقل أو طبيعته، أو أعظم مساعيه هي فهم الأشياء وفقاً للنوع الثالث من المعرفة. وعندما نحقق كثيراً من العقل يكون الفهم هو فهم الأشياء من قِبَل النوع الثالث من المعرفة، فالعقل يرغب أكثر في فهم الأشياء من خلال هذه المعرفة.

وفي هذا الصدد، ينص سبينوزا، على أن "هذا واضح، لأنه بقدر ما نتصور أن العقل لكي يكون قادراً على فهم الأشياء من خلال هذا النوع من المعرفة، فإننا حتى نتصور أنها مصممة على فهم الأشياء بالمعرفة نفسها. وبناءً عليه، كلما كان العقل أكثر ملاءمة لهذه المعرفة، زادت رغبته فيها. ومن هذا النوع الثالث من المعرفة ينشأ أكبر قدر ممكن من الاقتناع العقلي". (المصدر السابق). 

وإن أعظم فضيلة للعقل هي معرفة الله، أو الفهم وفقاً للنوع الثالث من المعرفة، وهذه الفضيلة هي الأعظم بحسب العقل الذي يعرف المزيد من الأشياء بهذا النوع من المعرفة. لذلك، فإن من يعرف الأشياء وفقاً لهذا النوع من المعرفة، يصل إلى أكبر حالة من الكمال، ونتيجة لذلك يتأثر بغبطة عظيمة، ويصاحبه فكرة عن نفسه وفضله. وعليه، فمن هذا النوع من المعرفة ينشأ أكبر قدر ممكن من الاقتناع. 

وبناء على هذا المفهوم، يعتقد سبينوزا، أنه لا يمكن أن تنشأ محاولة الرغبة في أشياء المعرفة وفقاً للنوع الثالث من المعرفة (الحدس) من النوع الأول (الاستقراء)، ولكن من النوع الثاني من المعرفة (التصور). وهذا القول بديهي، لكل ما نفهمه بوضوح وبشكل متميز، نفهم إما من خلاله أو من خلال شيء آخر تم تصوره من خلاله؛ أي أن الأفكار المتميزة والواضحة فينا، أو التي تشير إلى النوع الثالث من المعرفة، لا يمكن أن تنبع من الأفكار المشوهة والمشوشة التي تشير إلى النوع الأول من المعرفة، ولكن من الأفكار المناسبة أو من النوع الثاني والنوع الثالث من المعرفة. ولذلك، لا يمكن أن تنشأ رغبة أشياء المعرفة من النوع الثالث من المعرفة من معرفة النوع الأول، ولكن من النوع الثاني فقط.

ويقترب ويلهلم لايبنتز (1646-1716) من ديكارت أكثر من سبينوزا، فقد أخذ منه تعريف الجوهر، لكنه رفض الإثنينية "الفكر والامتداد" أو "العقل والمادة"،  فالتعريف الحق هو وجود عدد لا متناه من الجواهر الفردة أو ذرات روحية "مونادات" (Monads)، وهي "الذرات الحقيقية للطبيعة، باختصار، عناصر الأشياء"، ومنها يتكون الوجود بأسره. وطبيعة هذا الجوهر أو الموناد، أنه حاصل في موضوع موجود بالضرورة في ذلك الموضوع، ولا يمكن أن يشترك في حمله أي موضوع آخر، وإلا فقد الجوهر استقلاله الذاتي. إذ إن لايبنتز يركز على مبدأ الاتصال بغية المحافظة على هوية الموجودات وثباتها، وكذلك على مبدأ المتعذر تمييزه في القوى المحركة، ولذلك فهو لا يسلم بالعلاقة الطبيعية الثنائية المشتركة بين حدين أو موضوعين. 

كما "يجب أن يكون كل جوهر مختلفاً عن الآخر. بالنسبة إلى الطبيعة، لا يوجد كائنان متشابهاً تماماً، ولا يمكن فيهما العثور على اختلاف داخلي، أو في الأقل اختلاف قائم على فئة نوعية جوهرية". (المونادية، طبعة إنجليزية). 

وعلى نهج ديكارت في الفلسفة العملية، أكد لايبنتز على التجربة والملاحظة والبرهنة الرياضية في طلب المعرفة والوصول إلى اليقين. وكذلك "من أجل فهم طبيعة الأفكار بشكل أفضل، من الضروري التطرق إلى تنوع المعرفة". (مؤلفات فلسفية، طبعة إنجليزية). 

ودعا لايبنتز إلى لغة عالمية علمية تخص الفكر الإنساني، وذلك بأن يحصل الأفكار البسيطة التي تجول في ذهننا وبين الأفكار المركبة التي تنتج عنها، وإذا ما تم له وضع القائمة عمد إلى رموز وإشارات، فاتخذ منها ما يدل على هذه الأفكار، وبذلك يمكننا أن نكوّن لغة علمية عالمية وبواسطتها يمكن التقليل من صعوبة البرهنة والاستدلال، ووفق تصوره، إننا بعد ذلك بمقدورنا أن نقول دائماً نحسب بدل من أن نناقش، وتصبح البرهنة عملية حسابية مضبوطة بعيدة عن غموض المفردات والمصطلحات.

وذهب لايبنتز إلى القول بأن الأفكار والمبادئ العامة مجرد استعدادات كامنة في النفس لا نشعر بها، وهذه الاستعدادات الفطرية في حاجة إلى نوافذ الحواس لكي تنتقل إلى مرتبة الشعور. ومن هنا، يأخذ لايبنتز بالفطرة من أجل أن يفسر يقين الحقائق وعمومها وبالتجربة ليبين وظائف الحواس وأثرها، إذ لولا الفطرة ما أفدنا من أي صورة حسية، وكذلك لولا التجربة لبقيت الاستعدادات الكامنة في حال سلبية، وإذا كان النظر السطحي يحملنا على الاعتقاد بأننا نعمل ونفكر تحت تأثير الأشياء، فإن التأمل العميق يعرفنا أن كل شيء تحت الإدراكات والانفعالات إنما تُبعث من قرارة نفوسنا بالفطرة التامة.

وجاء عمانؤيل كانت (1724-1804) ليتوسط ليس بين ديكارت ولايبنتز فقط، بل بين المفاهيم العقلية والتجريبية أيضاً، إذ عالج المشكلة الرئيسة في نظرية المعرفة التي تتعلق في مشكلة القضايا التركيبية القبلية وإمكانية وجودها، واعتمد في ذلك على المنهج التحليلي والطريقة التركيبية، وبذلك شيد نظاماً معرفياً جديداً يجمع ما بين التجريبي والعقلي.

إن "كل معارفنا التي تنشأ بالخبرة لا يمكن الشك فيها. فكيف يمكن إيقاظ حقيقة الإدراك في الممارسة بطريقة أخرى غير طريقة الموضوعات التي تؤثر على إحساسنا، وجزئياً من نفسها تنتج التصور وتثير جزئياً من قدراتنا في الفهم إلى نشاط، أو مقارنة أو للاتصال، وحتى الفصل بين هذه الأشياء، وبذلك لتحويل المادة إلى معرفة بالأشياء، وهو ما يسمى التجربة؟ وفي ما يتصل بالزمن، لذلك لا توجد لدينا معرفة سابقة على التجربة، بل تنشأ معها". (نقد العقل المجرد، طبعة إنجليزية). 

فوفق رأي كانت، أن استخدام العقل وحده والتغافل عن التجربة لا يقود إلى المعرفة، وإنما يؤدي إلى أوهام، وكذلك في استخدام التجربة فقط لا يقود إلى معرفة دقيقة، إذ لا تعترف بوجود مسبب أول الذي يعترف به العقل. فمعرفتنا بالعالم الخارجي بالقدر الذي له أساس في التجربة الحسية، فإن له أيضاً أساس آخر في العقل، ويسميها "المعارف القبلية" وهي موجودة سابقاً بالفطرة في الإنسان بشكل ثابت وصحيحة تماماً.  

ويتساءل كانت، "كيف يمكن للعقل البشري أن ينتج مثل هذا الإدراك بداهة كاملة؟ ألا تفترض هذه القوة التي لا يمكن أن تستند إلى الخبرة، أساساً ما من  الإدراك بداهة، والذي يكون مخفياً بعمق ولكنه قد يكشف عن نفسه من خلال هذه الآثار، إذا كانت بدايتها الأولى قد تم اكتشافها بجدية؟". (انتقاد لمستقبل الماورائيات، طبعة إنجليزية). 

الإجابة، إن نظرية المعرفة عند كانت تنطلق من مزج تركيبي بين الوقائع الحسية والأفكار العقلية، وذلك في تفادي الشك التجريبي، وتجنب التصلب العقلي في آن من خلال رؤية تهدف إلى تنظيم وفهم معطيات التجربة من جهة، وملأ بنيان العقل الفارغة من الوقائع من جهة أخرى. وعليه، توصل كانت إلى إن كل ما ينظم ويضفي بُنية على خبرتنا لا يمكن أن ينشأ من الخبرة، بل لا بد من أن تكون هذه القدرة على التنظيم والبناء والفهم من داخلنا.

بمعنى آخر، افترض كانت وجود ثنائية مؤلفة من ذات "العقل"، ومن شيء "العالم"، وبما أن "الأشياء في ذواتها" فلا بد أن تكون القوة المنظمة في الذات. أي إن العقل هو الذي يؤلف وينظم ويبني كل خبرتنا، فلا يصدر من الأشياء التي هي موضوع معرفتنا، وإنما من أنفسنا. فالعقل لا يعكس العالم الخارجي كما موجود، بل هو الذي يخلق هذا العالم من حيث تركيبه المنطقي. فالتجربة من غير نشاط العقل ليس بمقدورها أن تقدم إلينا إلا سلسلة من الأحوال العقلية المتتابعة مثل الصور. إنها ثنائية كانتية مغايرة عن ثنائية ديكارت.

وعلى الرغم من أن الصور والمقولات العقلية التي تنظم العالم ثابتة، لكن العقل لا يستطع أن يسبر غور الحقيقة، فمعرفتنا تبقى محدودة ضمن التنظيم الفكري الذي يشاهد الواقع، فلا نعرف العالم على حقيقته أبداً، وتستمر معرفتنا على ما يبدو لنا من العالم بواسطة تفكرينا لا أكثر.

ويوضح كانت أن الدافع الذي يجعلنا نفكر في العالم تفكيراً منظماً وعلمياً ليس في كون العالم الطبيعي عالماً رياضياً، بل لأن العقل الذي يقوم بعملية  التفكير بطريقة رياضية لا أكثر. فالعقل يؤلف الصور ويقدمها إلى نفسه ويدركها لأنه منطقي وعلمي، وهذه الصور العقلية أو البنية الفكرية التي تؤلف المعرفة تأسست على مبادئ علمية. 

وهكذا قلب كانت المفهوم التقليدي للمعرفة رأساً على عقب،  فما كان يُعرف أن المعرفة تحدث عندما تتأثر الذات بالشيء، إلى عكسها تماماً، إذ إن الشيء هو الذي يتأثر بالذات. بمعنى، أن الشيء الذي كما نعرفه هو الذي يتشكل ويتألف ويتكون بطريقة الذات ليس إلا. إن الافتراضات المعرفية هي العمود الفقري في نظرية المعرفة عند كانت، ولقد أثرت فلسفته على الكثير، بينهم هيغل.

بيد أن جورج هيغل (1770-1831) ذهب أبعد من كانت الذي جعل الحقيقة لا يمكن الوصول إليها، فعمد إلى إزالة التفرقة بين الفكر والواقع، خصوصاً أن "اليقين المباشر لا يجعل الحقيقة خاصة بها، لأن حقيقتها شيء كلي، في حين أن اليقين يريد التعامل مع هذا الكلي. من ناحية أخرى، فإن الإدراك يأخذ ما هو موجود ليكون كلياً". (الظاهراتية، طبعة إنجليزية). 

وبمقدور الإنسان أن ينفذ إلى الحقيقة تدريجياً، لأن كل حقيقة واقعية إنما هي الذات. كما أن المعرفة تبدأ من الحواس وتنتقل إلى الإدراك الحسي ثم الدخول في عملية الفهمنة، التي تخلق عبر جدليتها وعياً خاصاً بالواقع وما وراء الواقع. 

ووفق هذا المفهوم، يعتقد هيغل أنه تمكن من أن يطلق العنان للفكر بأن يخرج من حدوده المجردة ليرى كيف يكون العالم في ذاته، وإمكانية أن يكون لدينا معرفة مباشرة عنه أيضاً. فالعقل ذاته موجود فينا، وكذلك موجود في العالم بوصفه مبدؤه المعرّف له، وبذلك يمكننا معرفة الواقع بعقلانية، وأن العقل يجعل الواقع قابل للفهم.

بعبارة ثانية، الفكر يتحرك صوب المعقولية، ويتحرك الوجود نحو المعقولية، وكلاهما شيء وحد، والعقل يقيم الحدود لنفسه في عملية التطور التي تبدأ من الفوضى واللاوعي الغريبة على طبيعته، ثم يعود إلى ذاته الواعية، ومن الطبيعة يأتي العقل، لأن الطبيعة هي العقل المقنع، والعقل الذي يبدأ من الجهل يصل في نهاية المطاف إلى المعرفة والوعي، وهكذا نعود إلى المطلق (الله) الذي صدر منه الوجود بأسره.

وعندما يتناول هيغل الأفكار بوصفها تكشف عن المتناقضات وتتحرك حركة جدلية تجاه نقيضها، ثم تجاه تركيب أعلى، فذلك تجريد من حقيقة الواقع ووضعه في إطار صوري. الجدلية، بحسب مفهوم هيغل، هي قانون الوجود كما هي قانون الفكر، والتي تقودنا في كل ظاهرة طبيعة أو تاريخية أو منطقية إلى ما هو أبعد من نفسها، فعناصر الحقيقة مترابطة مع بعضها البعض بالطريقة نفسها التي تترابط بها الأفكار في العقل، كلما تزداد معرفتنا شمولاً وتنظيماً، إذ ليس هناك من حقيقة إلا بما يخص عالم معرفتنا، الذي هو أحاسيسنا وحولتها المقولات إلى أفكار ومُدركات وفقاً إلى إرادتنا.

والمقولات، برأي هيغل، هي أدوات للفهم تقدم الشكل والمعنى لأحاسيسنا، فهي التي تكوّن النسق العقلي والمنطق والعلّة لكل شعور أو فكرة أو أي شيء آخر. فكل شيء في نطاق خبرتنا هو تكوين معقد من مثل هذه العلاقات، التي بمقدور الحواس إدراكها كموجود موحَّد. والوجود المجرد هو أبسط أنواع المقولات وأكثرها شمولية، وبواسطتها نحاول فهم خبرتنا.   

إن محاولة هيغل إيجاد قاسم مشترك في العلاقة بين الفكر والواقع في نظرية المعرفة، لم تفلح وعرّضته إلى ارتكاب خطأ، إذ إنه يقر بأولوية الفكر على الرغم من واقعيته. كما أنه يجرد الحركة الصورية للأفكار المستخلصة من الواقع، ويمنحها وجوداً مستقلاً، ثم يستخلص الواقع وحركته من تلك الأفكار.

اقرأ المزيد

المزيد من آراء