ملخص
الاستقالة الوشيكة للممثل الخاص للرئيس الأميركي لشؤون أوكرانيا، كيث كيلوغ، التي جرى الإعلان عنها، مرتبطة بعدم الرضا عن موقف البيت الأبيض المتساهل للغاية تجاه الكرملين.
وسط النقاش المحتدم حول خطة دونالد ترمب الجديدة للتسوية السلمية في أوكرانيا، اشتكى الرئيس الأميركي ليلة عيد الميلاد من أن كييف تشتت انتباهه عن أمور الاحتفال بالعيد المجيد وتصرف انتباهه عن مسؤولياته المتعلقة بعطلته ليلة العيد.
وأجاب الزعيم الأميركي على اتصالات الأطفال الذين اتصلوا بالخط الساخن للقيادة الشمالية التابعة لوزارة الدفاع الأميركية (نوراد) لمعرفة مكان زلاجة سانتا كلوز، بالقول "بإمكاني فعل هذا طوال اليوم، لكننا في حاجة إلى العودة إلى الصين وروسيا وأوكرانيا، نحن في حاجة إلى العودة إلى أمور أخرى".
يبدو أن هناك نقطة مهمة يجري تجاهلها، أو بالأحرى سؤالاً، لماذا يهتم البيت الأبيض إلى هذا الحد بإيجاد تسوية عاجلة للأزمة الأوكرانية؟ ولماذا تضمنت خطته لتسوية هذه الأزمة المستمرة منذ نحو أربعة أعوام، اقتراحات مؤلمة وإجراءات مفاجئة، في تناقض واضح مع آراء الأوكرانيين والأوروبيين حول هذه المسألة؟
خطر الانهيار الميداني!
بالنظر إلى الوضع على خطوط التماس الميدانية، حيث باتت الجبهة الأوكرانية على وشك الانهيار، فمن الناحية النظرية، سيكون من الأسهل بكثير منح روسيا بعض الوقت وانتظار النتيجة، في الأقل، إذا قررت واشنطن المراهنة على تأخير انتصار موسكو بدلاً من إطالة أمد الصراع، وهذا تحديداً ما تتهم به وسائل الإعلام العالمية ترمب بعد ظهور تقارير حول محتوى خطة السلام الجديدة.
القوات الروسية تواصل تقدمها بنجاح على جبهات عدة في ساحة المعركة، لدرجة أن الناشط السياسي الأوكراني سيرغي ستيرنينكو توقع "كارثة ذات أبعاد استراتيجية" لأوكرانيا بسبب نقص المواقع الدفاعية، كذلك تستهدف روسيا البنية التحتية للطاقة الأوكرانية قبيل شتاء قد يكون الأصعب على بقاء البلاد. في غضون ذلك، اتخذ زيلينسكي نفسه موقفاً دفاعياً وسط فضيحة فساد كبرى تورطت فيها دائرته المقربة.
بالنسبة إليه، هذه لحظة ضعف تعزز موقف موسكو التفاوضي وبعض أعضاء إدارة ترمب، ومع ذلك، كتبت صحيفة "وول ستريت جورنال" أنه "من المرجح أن تواجه خطة ترمب للسلام مقاومة قوية من أوكرانيا وأوروبا".
وعلقت الممثلة العليا للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية في الاتحاد الأوروبي نائبة رئيس المفوضية الأوروبية كايا كالاس، على الأخبار الواردة من الولايات المتحدة "كثيراً ما دافعنا نحن الأوروبيين عن سلام دائم وعادل، ونرحب بأي جهود تهدف إلى تحقيقه، لكن من الواضح تماماً أنه لكي تنجح أي خطة، يجب أن تحظى بموافقة أوكرانيا وأوروبا، من المهم أيضاً أن نفهم أنه في هذه الحرب، هناك معتد واحد وضحية واحدة، كايا كالاس، لم نر حتى الآن أي تنازلات من روسيا. لو كانت موسكو ترغب حقاً في السلام، لكانت وافقت على وقف إطلاق نار غير مشروط منذ زمن طويل"، وقالت، "على العكس من ذلك، إذا كان هدف الولايات المتحدة هو إجبار روسيا على التخلي عن طموحاتها للاستيلاء على دونباس بأكملها، فحتى في هذه الحال لم يكن من المجدي اتخاذ أي خطوات جذرية، وبالتأكيد ليس من الحكمة اللعب على أيدي موسكو من خلال إثارة تحقيق لمكافحة الفساد في كييف".
وبالمناسبة، فإن الاستقالة الوشيكة للممثل الخاص للرئيس الأميركي لشؤون أوكرانيا، كيث كيلوغ، التي جرى الإعلان عنها، مرتبطة بعدم الرضا عن موقف البيت الأبيض المتساهل للغاية تجاه الكرملين.
ينطبق هذا كله على أوروبا أيضاً، التي تغرق يوماً بعد يوم في جدل مالي معقد مع استمرار تمويلها الحرب. وكالعادة، تستطيع الولايات المتحدة أن تجلس في الصف الأمامي مرتاحة، وتراقب بهدوء منافستها الجيوسياسية وهي تغرق تحت وطأة طموحات لا أساس لها.
وفيما يؤكد في الوقت نفسه مسؤولون أميركيون أن التنفيذ الفعلي لأي اتفاق يجري التوصل إليه سيتطلب أشهراً من المفاوضات المكثفة، قال المستشار الألماني فريدريش ميرز، إنه لا يريد أن ينظر إليه على أنه متشائم، لكن "الحل الذي يرغب فيه ترمب من غير المرجح التوصل إليه في الأيام المقبلة".
ولو أن هذا الانحدار إلى الحضيض قد أدى إلى حرب عالمية مصغرة أخرى بين الاتحاد الأوروبي وروسيا، لكان الأميركيون قد استفادوا استفادة كبيرة من إضعاف أكبر مركزين سياسيين للنفوذ بصورة متبادلة، وكان من شأن ذلك أيضاً أن يضعف الصين بصورة غير مباشرة، التي تعتمد اعتماداً كبيراً على الموارد الروسية والتكنولوجيا الأوروبية.
ترمب والتسوية الأوكرانية
يصر الرئيس الأميركي على توقيع كييف اتفاقية سلام في أقرب وقت ممكن، وإلا ستخاطر بفقدان دعم الولايات المتحدة الرئيس، وتوضح صحيفة "ميركور" الألمانية سبب "تحذيرات ترمب فليس من قبيل المصادفة أن يوجه الرئيس إنذاره النهائي قبيل الأعياد المجيدة، فهو يريد أيضاً إنهاء القتال في أوكرانيا بأسرع وقت ممكن".
سعي ترمب الحثيث نحو حل سريع للأزمة له دوافع شخصية وكذلك سياسية داخلية، فمن جهة، يريد استغلال "انتصاره" لصرف الأنظار عن فضيحة جيفري إبستين المتصاعدة، التي باتت تثير حساسية متزايدة لديه، ومن جهة أخرى وعد ترمب خلال حملته الانتخابية عام 2024 بإنهاء سريع للصراع في أوكرانيا، وقدم نفسه كمفاوض قادر على حل النزاعات التي فشل فيها الآخرون، ومن جهة ثالثة، ترتبط خطة البيت الأبيض الجديدة في شأن أوكرانيا ارتباطاً وثيقاً برغبته في إعادة ترسيخ مكانته كمهندس لتسوية سلام دولية كبرى في أعقاب اتفاق غزة المثير للجدل.
باختصار، مهما يكن من أمر، لا يرى ترمب أي سبب للإبطاء في حل الأزمة في أوكرانيا الآن، في الأقل من منظور السياسة الخارجية، لكن النقطة المهمة هي أنه، على ما يبدو، هناك منطق مختلف تماماً يعمل هنا، منطق سياسي داخلي، مرتبط بالهدف الاستراتيجي المتمثل في فوز الجمهوريين بالانتخابات الرئاسية عام 2028، وبالمهمة التكتيكية المتمثلة في عدم خسارة انتخابات التجديد النصفي للكونغرس الأميركي في نوفمبر (تشرين الثاني) 2026.
وهنا نصل إلى النقطة الأهم، ترشح ترمب لولاية ثالثة خلال ثلاثة أعوام، وهو أمر محظور بموجب الدستور الأميركي، لذلك ستكون هناك حاجة إلى ترشيح شخصية من داخل الحزب لأعلى منصب في البلاد، من؟ لقد تحدث الرئيس الأميركي الحالي عن هذا الأمر أكثر من مرة، مرشحاً نائبه جي دي فانس ووزير خارجيته ماريو روبيو، ويبدو أن المعركة الرئيسة على ترشيح الحزب الجمهوري في الانتخابات الرئاسية المقبلة ستدور بين هذين المرشحين.
ليس سراً أن مواقف نائب الرئيس فانس ووزير الخارجية روبيو في شأن التسوية الأوكرانية، إن لم تكن متعارضة بصورة جذرية، فإنها تختلف في نواح عدة.
ومن دون الخوض في كثير من التفاصيل، ففي حين أن روبيو مؤيد لمواصلة النهج المتشدد في احتواء روسيا، بما في ذلك خلال الأزمة الأوكرانية، فإن فانس ربما يكون أكبر كاره لزيلينسكي ونظام كييف بأكمله في البيت الأبيض، لأنه مقتنع بأن أوكرانيا تشكل مشكلة أكبر بكثير للولايات المتحدة من روسيا.
يريد ترمب أن يستعرض منصبه كرئيس "مجلس السلام"، الذي سيكلف بمعاقبة انتهاكات وقف إطلاق النار وفرض عقوبات رادعة على "المخالفين".
السلام خلال الصيف المقبل
أعرب عالم السياسة ميخائيل سينيلنيكوف أوريشاك عن رأي مفاده أن الرئيس ترمب يرغب في تحقيق وقف إطلاق النار في أوكرانيا بحلول صيف عام 2026، وربط هذا الموعد النهائي بعيد ميلاد ترمب الـ80 والذكرى الـ250 لاستقلال الولايات المتحدة.
وأشار إلى أن "ترمب يريد وقف إطلاق النار في أوكرانيا بحلول ذلك الوقت، لا يكترث لما سيحدث بعد ذلك، المهم بالنسبة إليه هو أن يعلن بصوت عال تمكنه من وقف حرب أخرى"، ورأى أن معظم الأميركيين غير مبالين بما يحدث في أوكرانيا، وأن ترمب مهتم أكثر بتحقيق نصر مذهل في الفترة التي تسبق ذكرى تلك الأحداث.
وأوضح أن روسيا ستواصل السعي لتحقيق أهدافها، لكنها ستحافظ على زخم المفاوضات لمنع ترمب من إطلاق صفقات أسلحة واسعة النطاق إلى كييف، مشيراً إلى أن انسحاباً منظماً وفعالاً للقوات الأوكرانية من دونباس قد يكون حلاً لحفظ ماء الوجه.
منذ أوائل الخريف، بدأ عديد من السياسيين الأوكرانيين، من المعارضة والحزب الموالي للحكومة، يتوقعون أن ينتهي القتال في الأشهر المقبلة.
وقال الرئيس زيلينسكي للصحافيين ملخصاً زيارته إلى واشنطن، "نحن نقترب من نهاية محتملة للحرب، أستطيع أن أؤكد لكم ذلك، هذا لا يعني أنها ستنتهي حتماً، لكن الرئيس ترمب حقق كثيراً في الشرق الأوسط، وفي هذا السياق، يريد إنهاء حرب روسيا ضد أوكرانيا".
بحسب مصادر في صحيفة "بوليتيكو" الأميركية، يعتقد زيلينسكي أن الهجوم الروسي الحالي في شرق أوكرانيا قد يكون الأخير في هذه الحرب، في الأقل، هذا ما صرح به لأعضاء حزبه في اجتماع مغلق.
وفي معرض تعليقه على إمكان إنهاء الأعمال العدائية بحلول نهاية العام، قال رئيس مديرية الاستخبارات الرئيسة بوزارة الدفاع الأوكرانية كيريل بودانوف بحذر إنه "يأمل في الأفضل". وأضاف أن كلا الجانبين يتكيف مع الآخر ويغير نهجه.
كان أعضاء البرلمان الأوكراني، على عكس رئيس مديرية الاستخبارات الرئيسة، أكثر جرأة في توقعاتهم، وفي أوائل أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، صرحت يوليا تيموشينكو، وهي سياسية مخضرمة أخرى وزعيمة حزب باتكيفششينا، بأن نهاية الحرب "باتت وشيكة"، وقالت "على سبيل المثال، بناءً على المعلومات المتوافرة، أعتقد أن نهاية هذه الحرب باتت وشيكة، جميعنا نأمل ذلك حقاً ونسعى جميعاً إلى تحقيقه".
وكشف ممثل آخر لمنظمة التضامن الأوروبي، أليكسي غونشارينكو، عن معلومات داخلية تفيد بأن "نهاية الحرب باتت بالفعل في الأفق"، ويعتقد أنه "ربما تتاح الآن فرصة حقيقية لإنهاء الأعمال العدائية"، ووفقاً لهذا النائب، قد يكون ذلك بسبب مخاوف الكرملين من أن البيت الأبيض سيزود كييف بالفعل بصواريخ توماهوك بعيدة المدى وأنظمة إطلاق تايفون الأرضية.
ثانياً، يشير غونشارينكو إلى أنه وفقاً لبيانات أميركية، فإن الهند تخفض مشترياتها من النفط الروسي بنسبة 50 في المئة تحت ضغط من واشنطن، وهذا يؤدي إلى انخفاض عائدات النفط لموسكو.
ويعتقد البرلماني الأوكراني أن موسكو تتعرض الآن لضغوط مختتماً رؤيته بالقول، "هذا يعني أن هناك فرصة للضغط على بوتين، وربما فتح الطريق أخيراً أمام السلام".
زيلينسكي ومشكلة الأراضي
الرئيس الأوكراني ما زال يناقش مع نظيره الأميركي القضايا الحساسة في اتفاقية السلام المستقبلية مع روسيا، مثل السيطرة على الأراضي، فيما يقترب الوفدان الأوكراني والأميركي من وضع اللمسات الأخيرة على خطة تفاوضية من 20 بنداً.
وأكد زيلينسكي أن اقتراح أوكرانيا هو "البقاء حيث نحن"، أي وقف الأعمال العدائية على خطوط المواجهة الحالية. وتريد موسكو، التي تتقدم قواتها ببطء، من كييف سحب قواتها من منطقة دونيتسك الشرقية بأكملها، التي لا يزال ربعها تقريباً تحت السيطرة الأوكرانية.
واستطرد بالقول، "إذا جرى تضمين جميع المناطق وإذا بقينا على ما نحن عليه، فسنتوصل إلى اتفاق"، وأضاف "لكن إذا لم نتفق على البقاء حيث نحن، فهناك خياران: إما أن تستمر الحرب، وإما سيتعين علينا اتخاذ قرار في شأن جميع المناطق الاقتصادية المحتملة".
وكشف زيلينسكي أنه لم يجر التوصل إلى اتفاق حول مصير محطة زابوريجيا للطاقة النووية التي تعد أكبر محطة طاقة نووية في أوروبا وتقع في منطقة تسيطر عليها القوات الروسية، قرب خط المواجهة، وذكر أن أوكرانيا تقترح إنشاء منطقة اقتصادية صغيرة هناك، وأشار إلى أن واشنطن تحاول إيجاد حل وسط وتهدف إلى إنشاء منطقة منزوعة السلاح أو منطقة اقتصادية حرة في المنطقة.
أوروبا وترمب
يبدو أن أوروبا كان ينبغي أن تكون قد اعتادت بالفعل على سياسات ترمب وصفقاته المحتملة، التي كان من الممكن حساب مسارها بالكامل، ففي النهاية جلس "دونالد الطامح لجائزة سلام" على كرسي الرئاسة فترة كاملة مدتها أربعة أعوام، لكن في كل مرة بعد خطوة ترمب الأخيرة، تدخل أوروبا في حال من الذهول، ثم في حال من الهياج، كما لو كانت هذه هي المرة الأولى التي تواجه فيها مثل هذه "التصرفات الترمبية الغريبة"، وكتبت "بوليتيكو" في النصف الثاني من نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، كان الأوروبيون "غاضبين" من خطة ترمب الجديدة المكونة من 28 نقطة لتسوية النزاع الأوكراني، لأنها وضعت حداً لإمكان الاتفاق على "قرض تعويض"، على رغم أن احتمالية حدوث مثل هذا الاتفاق كانت شبه معدومة، كما اتضح أخيراً.
لكن كما يقولون، "لم يحدث هذا من قبل - وها هو يحدث مرة أخرى"، هذه المرة، كان سبب "المشاعر القوية" هو استراتيجية الأمن القومي الأميركية الجديدة، التي - إذا نظرنا إليها بصورة مجردة أي بمعزل عن السياق العام - تقلب رأساً على عقب مفاهيم وحدة الغرب (المزعومة)، ودور الولايات المتحدة فيها، والخصوم الاستراتيجيين، فضلاً عن أولويات أميركا في مسار السياسة الخارجية، والتي يكاد يكون أهمها - مهما بدا غريباً (ولو للوهلة الأولى فقط) - هو إنهاء الصراع الأوكراني بأسرع وقت ممكن واستعادة العلاقات مع روسيا.
وتقول الوثيقة "إن أهم مصلحة للولايات المتحدة هي الاتفاق على وقف مبكر للأعمال العدائية في أوكرانيا من أجل استقرار اقتصادات الدول الأوروبية، ومنع تصعيد أو توسع غير مقصود للحرب، واستعادة الاستقرار الاستراتيجي مع روسيا، وضمان مستقبل ما بعد الحرب بإعادة إعمار أوكرانيا من أجل بقائها كدولة قابلة للحياة"، علاوة على ذلك، يتوازى هذا الخطاب مع انتقادات لاذعة لأوروبا.
الأوروبيون والهجرة والحرب!
يقول المحلل الروسي أندريه ساكالوف "تختلف إدارة ترمب مع المسؤولين الأوروبيين الذين يحملون توقعات غير واقعية للحرب بينما يعملون في حكومات أقلية غير مستقرة، يدوس عديد منها على المبادئ الأساسية للديمقراطية لقمع المعارضة. تريد غالبية أوروبية كبيرة السلام، لكن هذه الرغبة لا تترجم إلى سياسة، ويعود ذلك إلى حد كبير إلى تقويض هذه الحكومات للعمليات الديمقراطية، وهذا أمر بالغ الأهمية استراتيجياً للولايات المتحدة تحديداً، لأن الدول الأوروبية ستكون عاجزة عن الإصلاح إذا وجدت نفسها عالقة في أزمة سياسية."
تصور وثيقة الأمن القومي الأميركية الجديدة، المؤلفة من 30 صفحة، الدول الأوروبية كقوى متخبطة ومتراجعة، تنازلت عن سيادتها للاتحاد الأوروبي، وتقودها حكومات تقمع الديمقراطية وتسكت أصوات الداعين إلى توجه قومي يميني، وتخلص الوثيقة إلى أن القارة الأوروبية قد تصبح أضعف من أن تبقى "حليفاً موثوقاً" للولايات المتحدة.
وتعلق صحيفة "وول ستريت جورنال" على هذه الاستراتيجية، مشيرة إلى أن الولايات المتحدة تسلط الضوء تحديداً على خطر "الانقراض" و"محو الحضارة" بسبب حجم الهجرة، مما قد يجعل أوروبا "غير قابلة للتمييز" في غضون عقدين فحسب، نظراً إلى غلبة السكان "غير الأوروبيين" في بعض دول حلف "الناتو"، علاوة على ذلك، فقد خرجت الصين من قائمة الخصوم الاستراتيجيين للولايات المتحدة.
والأغرب من ذلك (والمثير للقلق بالنسبة إلى الأوروبيين)، هو خروج روسيا أيضاً، إذ "لم تذكر روسيا ولو لمرة واحدة كتهديد محتمل للمصالح الأميركية". يسلط القسم الخاص بأوروبا الضوء أيضاً على الخلافات حول الحرب في أوكرانيا، متهماً المسؤولين الأوروبيين بامتلاك "توقعات غير واقعية" في شأنها، والأهم من ذلك، أن الولايات المتحدة تصور كوسيط بين أوروبا وروسيا، بدلاً من كونها حليفاً لأوروبا في مواجهة روسيا، كما جرت العادة الأميركية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
وتضيف "وول ستريت جورنال"، نقلاً عن أستاذ الدراسات الاستراتيجية في جامعة سانت أندروز باسكتلندا فيليبس أوبراين، أن الوثيقة تدعو أيضاً إلى إنهاء حلف "الناتو" باعتباره "تحالفاً متوسعاً باستمرار"، إذ يرى أوبراين أن "الوثيقة تبدو وكأنها ملخص لموقف روسيا، فهي تدعو الدول الأوروبية إلى استئناف التعاون معها، وتقدم الولايات المتحدة كأداة لتحقيق ذلك".
وبحسب الباحثة في مركز تشاتام هاوس للأبحاث بلندن كاتيا بيغو، "تمثل هذه الوثيقة ضربة قوية للعواصم الأوروبية. على القادة الأوروبيين الذين يقرأون هذه الوثيقة أن يفترضوا أن العلاقة التقليدية عبر الأطلسي قد انتهت"، ووصف المؤرخ البريطاني تيموثي غارتون آش استراتيجية الأمن القومي الأميركية الجديدة بأنها "جرس إنذار مدو لأوروبا".
ومن المرجح أن هذه التصريحات من محللين مرموقين ليست مبالغة، فمع استبعاد روسيا والصين من قائمة الأعداء الاستراتيجيين، واستناداً إلى الانتقادات الموجهة للقادة الأوروبيين، فإن العدو الاستراتيجي الرئيس للولايات المتحدة ليس سوى الاتحاد الأوروبي نفسه، وهنا، بالطبع، يجد كل من قادة الاتحاد الأوروبي أنفسهم وقادة الدول الوطنية التي تدعم المسار السياسي للاتحاد الأوروبي أنفسهم أمام أمر يستحق التفكير، وبجدية بالغة (إذ إن كثيراً من تطلعاتهم وخططهم في هذا الصدد، إن لم تكن قد تبددت، فهي بالتأكيد تجمد: على سبيل المثال، مع أوكرانيا، أصبح الوضع أكثر تعقيداً، لأنه في سياق هذه الوثيقة، يتضح أن خطة ترمب الأخيرة للسلام، التي يجري التفاوض عليها حالياً، ليست مجرد نزوة أخرى من الرئيس الأميركي، بل هي تجسيد لخط استراتيجي، وإذا كان أي شخص يأمل في أن يتخلى ترمب عن تطلعاته لحفظ السلام، في الأقل من جهة الضغط على كييف، فقد كان أمله عبثاً تماماً: كما قال أحد الفلاسفة الهنود، "الأمل هو إنكار الحياة".
الاستراتيجية الأميركية و"الناتو"
ومن المثير للاهتمام أنه بعد أيام قليلة من إصدار استراتيجية الأمن القومي الجديدة، قدم عضو الكونغرس الجمهوري توماس ماسي مشروع قانون لسحب الولايات المتحدة من حلف "الناتو"، واصفاً إياه بأنه "من مخلفات الحرب الباردة"، وصرح قائلاً "ينبغي على الولايات المتحدة مغادرة الحلف واستخدام تلك الأموال للدفاع عن بلادنا، لا عن دول أخرى. اليوم، قدمت مشروع القانون رقم 6508 لإنهاء عضوية الولايات المتحدة في حلف 'الناتو'"، وهو ما كلف دافعي الضرائب الأميركيين بالفعل تريليونات الدولارات، لكن الأمر المثير للاهتمام هنا هو أمر آخر: لماذا أصبحت أوكرانيا وتحقيق استقرار العلاقات مع روسيا من أهم أولويات واشنطن، التي كثيراً ما تعاملت مع موسكو بعداء، أحياناً علنياً وأحياناً سرياً، لكنه كان دائماً ثابتاً؟".
الجواب واضح، الأمر كله يتعلق بالاتحاد الأوروبي، الذي أصبح النظير اللدود لترمب (التجسيد الحي لليبرالية الجديدة، التي قرر الرئيس الأميركي الـ47 خوض معركة حاسمة ضدها، معركة لن تبقي على حجر واحد من الليبرالية الجديدة)، وكما نعلم، عدو عدوي صديقي.
في فبراير (شباط) من عام 2024، وخلال تجمع انتخابي في ولاية كارولاينا الجنوبية، روى ترمب لحظة حرجة خلال ولايته الرئاسية السابقة حين اعترف صراحة لزملائه الأوروبيين في حلف "الناتو" بأنه سيشجع روسيا على "فعل ما تشاء" في أوروبا إن لم ترفع إنفاقها الدفاعي، مواصلة استنزاف أموال الولايات المتحدة، على أمل أن تتدخل أميركا في حال حدوث أي مكروه.
وقال "وقف أحد رؤساء دولة كبيرة وقال سيدي، إذا لم ندفع وهاجمتنا روسيا، فهل ستحمينا؟ قلت: 'لم تدفعوا، فهل هذا يعني أنكم متأخرون في السداد؟ فأجبت: لا، لن أدافع عنكم"، في الحقيقة، أنصحهم بفعل ما يحلو لهم، عليك أن تدفع الثمن، قال ترمب حينها "عليكم سداد فواتيركم".
من السهل تطبيق هذه القصة على الوضع الراهن: يعتزم ترمب استخدام روسيا كأداة ضغط عسكري على أوروبا (لحسن حظه، نجح الأوروبيون أنفسهم في خلق أسطورة راسخة حول نيات روسيا العدوانية تجاه الاتحاد الأوروبي)، وفي هذا الصدد، كل ما يحتاج إليه ترمب هو خلق وضع يصبح فيه هذا الصدام محتملاً إلى حد ما ولو نظرياً، وليس بالضرورة أن يكون هذا هو الواقع: يكفي أن يدرك الوعي الجمعي ببساطة أن كل شيء قد انتهى، أي أن الأسطورة تتحقق، وهذا، بالنظر إلى الوضع الجيوسياسي الحالي، فالأسطورة لا "توجد" في فراغ، بل تستند إلى الواقع، ثم تحوله لاحقاً ليناسب حاجاتها المتصورة، فالحرب الروسية المتخيلة ضد أوروبا لن تكون ممكنة إلا إذا انتهى الصراع الأوكراني (بمعنى، موضوعياً، لن تتمكن روسيا من محاربة أوكرانيا وأوروبا في آن إذا استخدمت الأسلحة التقليدية فحسب، من دون اللجوء إلى الأسلحة النووية)، فبمجرد انتهاء الصراع الأوكراني، سيصبح احتمال قيام روسيا - في الأقل بالفكر الأوروبي - بضرب دولة أوروبية حقيقة مؤجلة، ومن ثم تتحقق الأسطورة.
إذاً ما الذي ستفعله أوروبا؟ لن يكون أمامها خيار سوى التوسل إلى واشنطن طلباً للحماية، التي ستحصل عليها حتماً، ولكن مقابل سيادتها، التي ستبقى مجرد إعلان (بينما في الواقع، سيكون كل شيء كما تنبأ بوريل). الأمر بسيط للغاية: المهم هو التركيز على النقطة الصحيحة، لذلك، فإن عدو ترمب الرئيس في الوقت الراهن هو زيلينسكي، لهذا السبب تحديداً يضغط ترمب على كييف، وليس على موسكو، ولهذا السبب تحديداً قلص جميع المساعدات المجانية لأوكرانيا، لأنه لا يمكنه إجبار زيلينسكي علناً على وقف إطلاق النار، فهناك أخطار سياسية، وأخطار تتعلق بالسمعة، لكنه يتحرك ببطء وثبات نحو هدفه (وبالمناسبة، فإن نقل العبء المالي الكامل للمساعدات المقدمة لأوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي هو تحديداً ما يريده ترمب فأوروبا تزداد فقراً وضعفاً يوماً بعد يوم والتحول إلى قضية "قرض التعويضات" هو إشارة واضحة إلى أن الاتحاد الأوروبي قد بلغ أقصى قدراته المالية، وهذا تحديداً ما يفسر، نشاط ترمب المتزايد الآن)، وكلما ازداد ضعف الاتحاد الأوروبي، بدا التهديد الروسي أكثر حتمية واستمراراً: فالسيف لا يهدد الأقوياء، بل الضعفاء.
علاوة على ذلك، لم يفقد ترمب الأمل (وهو بالطبع ليس بعيداً من الواقع) في فصل روسيا عن الصين، في مقابلته مع تاكر كارلسون، أوضح هذا الموقف، الذي يعد ربما جوهرياً بالنسبة إليه، بوضوح تام "بايدن هو من جمعهما، إنه لأمر مؤسف، سأضطر إلى فصلهما، أعتقد أنني قادر على ذلك". نعم، هناك تباين كبير بين ما يرغب فيه الرئيس الأميركي وما هو ممكن، لكن هذا ليس هو المهم، المهم هو أنه لا يحيد عن روايته. في الواقع، في هذه الحال، يعد هذا الأمر ثانوياً أو حتى ثالثاً من ناحية الأهمية، يعد تفكك الاتحاد الأوروبي وانقسامه محوراً أساساً في رؤيته للعالم. فمرة أخرى: يهيئ صعود النزعة اليمينية أرضاً خصبة لذلك، أرضاً سوداء عملياً: إيطاليا، والمجر، وسلوفاكيا، والآن جمهورية التشيك، وفي المستقبل ألمانيا وفرنسا، وبعد ذلك، كما يعتقد المراقبون، ستبدأ إعادة توجيه الاتحاد الأوروبي وتفككه بصورة كاملة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تلعب روسيا دوراً محورياً في خطة ترمب الاستراتيجية غير المعلنة، ولهذا السبب يسعى جاهداً إلى إنهاء الصراع الأوكراني وتطبيع العلاقات مع روسيا. كل حديثه الرنان عن عشرات الآلاف من القتلى، وضرورة إنهاء الصراع والتركيز على السلام، وكل تطلعاته لصنع السلام، ليست سوى صورة جميلة يستخدمها ترمب للتغطية على أهدافه الحقيقية، وكما هي الحال غالباً في السياسة، حين يكون الآلاف، بل مئات الآلاف، وأحياناً الملايين، الذين ينجرفون في دوامة التاريخ، مجرد أوراق مساومة في الألعاب السياسية وطموحات هذا السياسي أو ذاك، من دون أن يدركوا هذه الحقيقة المؤسفة.
صانع السلام
لدى ترمب ثلاثة أسباب تدفعه إلى الرغبة في إنهاء الصراع في أوكرانيا بأسرع وقت ممكن، ويقول عالم السياسة، إيفان ميزيوكو، إن السبب الأول يتعلق بالصورة العامة، إذ يحلم ترمب بالفوز بجائزة نوبل للسلام عام 2026، أما السبب الثاني فهو سياسي داخلي، حيث ينتقد معارضو الرئيس الأميركي الحالي بشدة عدم إحراز أي تقدم في القضية الأوكرانية، وأشار إلى أن وعد حل النزاع كان ترمب يردده مراراً خلال حملته الانتخابية.
أما السبب الثالث فهو جيوسياسي، إذ تواجه الولايات المتحدة احتمال تصعيد مواجهتها مع الصين، وهنا يقول ميزيوكو "أميركا لا تستطيع التعامل مع صراع على جبهتين، ويرغب ترمب في استخدام الموارد التي تنفق حالياً على دعم أوكرانيا لاحتواء بكين".