Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

مان راي النيويوركي شاهدا على زمن انبهار الأميركيين بباريس

مكواة بمنشار "هدية" إلى فيليب سوبو تسرق في  اليوم نفسه

مان راي (غيتي)

كانت بكل تأكيد هدية "مسمومة" تلك التي قدمها مان راي، الرسام والمصور الأميركي المقيم ذلك الحين في باريس إلى زميله وصديقه السوريالي فيليب سوبو، احتفالاً منه بافتتاح غاليري الطليعة الصاخبة، التي أسسها هذا الأخير وسط باريس. كانت الهدية عبارة عن مكواة من حديد ألصق على سطحها المصقول بعناية جزء من منشار أخشاب يتألف من أربعة عشر سناً حاداً، ما يجعلها بالطبع غير قابلة للاستعمال، ولكن كذلك غير قابلة لأن تعرض. مهما يكن من أمر قال مان راي حينها أن المكواة لم تصنع وتقدم كي تعيش طويلاً، بل مآلها أن تُفك في اليوم نفسه. هي هدية رمزية إذاً لا يتعدى زمن حضورها يوماً واحداً.

عصية على التفسير ولكن...

يومها وكما كانت حال كل عمل فني سوريالي، الحضور اعتبروا المكواة التي قدمت تحت عنوان ستعرف به على الدوام وهو "هدية"، عملاً فنياً بالتأكيد على نفس النمط الذي يشتغل عليه مارسيل دوشان ويحبذه أندريه بريتون زعيم السورياليين حقاً، يومها لم يطلب أحد من مان راي تفسيراً للمعنى الذي تحمله تلك الهدية، ولكن بعد حين وإذ كانت الهدية نفسها قد اختفت، ليس تبعاً لنظرية مان راي حول زوال العمل الفني مباشرة بعد عرضه، بل لأن ثمة من سرقها في اليوم نفسه محققاً لراي نظريته، وناسفاً إياها في الوقت نفسه، طلع من يعطيها تفسيراً يبدو أن تاريخ السوريالية استساغه. ويقول التفسير إن تلك القطعة الفنية صنعت بشكل آندروجيني كي تمثل الأنوثة والرجولة، إذ يندمجان في جسد واحد. فالمكواة تمثل العمل المنزلي، وهو عمل منوط عادة بالنساء ما يضفي على المكواة سمتها الأنثوية، أما المنشار فيرمز بالأحرى إلى مهنة النجارة التي اعتادت أن تكون ذكورية بامتياز، من هنا فإن المزج بين الأداتين في جسد واحد، إنما هو رمز لذلك الجسد المزدوج ما.... يعني إلغاء التفرقة بين الجنسين كجزء من برنامج العمل وفعل الإيمان السورياليين.

هل كان مان راي يقصد هذا عند أواسط سنوات العشرين من القرن الفائت، أم تراه قبل بالتفسير باعتباره أضفى عقلانية ما على الهدية التي ابتكرها، وربما صنعها على سبيل المزاح؟ لا يمكن أن نعرف تماماً. لكننا نعرف أن سرقة المكواة في ذلك اليوم بدلاً من اختفائها فنياً، أثار غيظ الفنان فما كان منه إلا أن أوصى أحد المصانع بإنتاج خمسة آلاف مكواة بمنشار على تلك الشاكلة وُزّع بعضها على الرفاق والأصدقاء، فيما طرح الباقي في الأسواق للبيع ما مكن مان راي من تحقيق ثروة لا بأس بها، وأدخله في الوقت نفسه عالم الفن السوريالي وغرائبه من الباب الواسع! وجعل للأميركيين موطئ قدم في عالم الفنون الباريسية والأوروبية عموماً.

الانبهار الأوروبي

كان ذلك في الزمن الذي أبدى فيه المثقفون الأميركيون انبهاراً بأوروبا، زاد أضعافاً مضاعفة عن انبهار زملائهم الأوروبيين بأميركا. في ذلك الزمن كان لا يمكن لمبدع أميركي أن يعتبر نفسه مهماً وواعياً إن لم يقم بـ"الرحلة الأوروبية" على غرار هنري جيمس. أما بالنسبة إلى عدد غير قليل من المثقفين الأميركيين، فإن الرحلة كانت غالباً ما تطول وتتشعب، لا سيما إن كانت إلى باريس التي كانت، في ذلك الحين وحسب تعبير أرنست همنغواي، "عيداً دائماً". وكانت "الرحلة" بالنسبة إلى البعض تتحول إلى إقامة دائمة أو شبه دائمة، بحيث سرعان ما يضحي المبدع الآتي من أميركا، جزءاً من الحياة الثقافية الأوروبية، وشاهداً عليها.

من هؤلاء كان مان راي، الأميركي الذي ارتبط بإقامته الباريسية وبالحياة الثقافية الفرنسية، وبخاصة بالتيار السوريالي، إلى درجة نسي معها كثيرون أنه فنان أميركي. مهما يكن فإن مان راي، مثل غالبية الفنانين الأميركيين الطليعيين، ولد في فيلادلفيا، أي في واحدة من تلك المدن الأميركية الشرقية التي تعد امتداداً أوروبياً في العالم الأميركي. ومن هنا كان انتماؤه إلى مدينته وإلى "الشاطئ الشرقي" الأميركي، خير مهيئ له لولوج العالم الأوروبي - الفرنسي ولوجاً طبيعياً، وللانخراط في الحياة الفنية الفرنسية وكأنه واحد من أبنائها.

الشاطئ الشرقي امتداد للقارة العجوز

ولد مان راي في 1890، وكان لا يزال في مطلع شبابه حين اكتشف عالم الفن التشكيلي والنشاطات الروائية الواصلة حديثاً من أوروبا إلى نيويورك. وهكذا بدأ يسهم في الحركة طوال العشرينيات من القرن العشرين، ولم يمنعه عن تحقيق حلمه الأوروبي سوى الحرب العالمية الأولى. ثم ما إن انتهت الحرب حتى بدأ يعد عدته للرحيل، ووصل إلى باريس حيث بدأت إقامته، في العام 1921، حاملاً معه في الوقت نفسه كاميرته كمصور فوتوغرافي يريد أن يواكب فن التصوير للحركة الدادائية، وقلمه ككاتب، وألوانه كرسام. ومنذ وصوله إلى باريس راح يتعرف على الأوساط الدادائية ثم السوريالية، وبدأ يصور أقطابها في الوقت نفسه الذي راح يختبر فيه أسلوب "التشعيع" في لوحاته الفوتوغرافية. وكانت له حظوة سريعة لدى الفرنسيين، إذ ما إن حل العام 1922 حتى كان واحد من رسومه يزين غلاف مجلة "الأدب" الطليعية. أما العدد الأول من مجلة "الثورة السوريالية" فزينه عديد من صور مان راي الفوتوغرافية ذات المضامين والأشكال الملتقية مباشرة مع أبرز تعاليم أستاذ السورياليين الشاعر أندريه بريتون.

منذ ذلك الحين، لم يتوقف مان راي عن الإسهام في الحركة السوريالية رساماً ومصوراً ومنظراً، بل يقال إنه كان الأكثر نشاطاً، والأكثر حرصاً دائماً على عدم انتهاء الحركة إلى الانشقاق. وهكذا حملت الأعداد المتعاقبة من مجلة "الثورة السوريالية"، ثم أعداد مجلة "مينوتور"، عشرات من رسوم مان راي وصوره، بحيث أن اسمه اشتهر في أنحاء العالم كافة. وهو كان خلال ذلك يمعن في تجريبيته التصويرية، مستخدماً في لوحاته عشرات الأشياء ذات الدلالة، جاعلاً من الصورة عملاً فنياً غريباً. وفي الوقت نفسه كان لا يكف عن تصوير أبرز ممثلي الحركة التشكيلية والشعراء السورياليين، بحيث لم تعرف ملامح معظمهم  إلا عبر صوره.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

بعد العودة إلى أميركا

أما بالنسبة إلى تجاربه في الرسم، فإنها في باريس تضاءلت، كماً ونوعاً، عما كانت عليه في نيويورك، حيث إن فترة 1914 - 1920 النيويوركية ظلت بالنسبة إليه عصره الذهبي كرسام، بينما شهدت باريس عصره الذهبي كمصور. غير أن هذا لا يمنع من الإشارة إلى أن ثمة بين اللوحات التشكيلية التي رسمها مان راي في فرنسا، أعمالاً اشتهرت ولفتت الأنظار بشاعريتها، منها مثلاً لوحته "مناظر سويدية" (1929) و"ساعة المرصد" (1932) و"العشاق" (1934). إضافة إلى لوحته الشهيرة التي تمثل "المركيز دي ساد" دون أن ننسى طبعاً تلك "الهدية" التي صارت ولو لحين أشهر أعماله.

وفضلاً عن ذلك كله، خاض مان راي لعبة الإخراج السينمائي، وحقق أواخر سنوات العشرين، ضمن نطاق السينما الصامتة فيلمين شهيرين هما "نجمة البحر" و"أسرار قصر دي". ولكن بين مان راي الرسام والسينمائي والمصور كانت الأفضلية دائماً لمان راي المصور، لا سيما بفضل تلك الصور الكثيرة ذات "الحوائج الحسابية والهندسية" التي حققها في 1936 وكانت بداية لسلسلة صوره التي سميت "معادلات شكسبيرية".

في 1940 عاد مان راي إلى الولايات المتحدة حيث أقام طوال فترة الحرب وما بعدها، وعاد مرة ثانية إلى باريس في 1949 حيث استأنف عمله كمصور ورسام، وهو عمل تابعه حتى رحيله عام 1976، غير أن عصره الذهبي ككل كان قد أضحى وراءه، كما إن اهتمامه بالسوريالية كان قد تضاءل بشكل جعله يعيش أواخر حياته على هامش الحركة الثقافية كمجرد أثر متحفي من آثار زمن ولى.

المزيد من ثقافة