Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الصحافة السودانية لا تزال عالقة في النمط المعتمد منذ النظام السابق

يستلزم التغيير الذي حدث في البلاد إبان الثورة تغييراً اجتماعياً واقتصادياً مصاحباً

لا تزال الصحافة السودانية تعاني من تدخلات في الطباعة والنشر وصعوبات في التمويل (حسن حامد)

لطالما دار الجدل طوال الـ 30 سنة الماضية حول القمع الممنهج لحرية الصحافة في السودان، وتحولها إلى صحافة تابعة للحزب الحاكم إبان النظام السابق، أو صحافة مدجّنة تنحصر مهمتها في اللعب على هامش الحريات المحدودة التي أتاحتها فترة الديمقراطية الثانية القصيرة بين عامَي 1986 و1989. أما الآن، ومنذ ثورة ديسمبر (كانون الأول) 2018، وعلى الرغم من صدور التشريعات المؤسسة للحريات المدنية، إلا أن الصحافة لم تستطع الخروج مما رسم لها سابقاً، أما الحريات فتمارس في فضاءات أخرى بأكثر مما توفره الصحافة الورقية، ويشير ذلك من اتجاهات عدة، إلى أن الصحافة السودانية لا تزال تقف عملياً عند محطة النظام السابق.

صحافة مقموعة

وأصدر النظام السابق قوانين عدة مقيدة لحرية الصحافة والتعبير، أبرزها قانون العام 2009 الذي تضمن مواد عقابية تنص إحداها على حظر الصحف لأيام عدة، أما قانون العام 2013 فنصّ على إمكان إغلاق دور الطباعة وفرض غرامات على الناشرين، في حين ظل بند مخالفة هذه القوانين غير واضح. وكانت تتم مصادرة الصحف من دون سابق إنذار ومن دون أن يعلم الناشرون السبب في ذلك، كما كان يتم استدعاء الصحافيين أمام النيابة العامة بلا إجراءات قانونية محددة، ومن غير علم بتهمتهم.

وفي غالبية الحالات يأتي التكهن بالسبب في وقت لاحق، ويكون انتقاد سياسات الحكومة أو الإشارة إلى بعض مواطن الفساد الحكومي وغيرها.
ووضعت المواد في قوانين الصحافة للتشهير بالصحافيين، وفرضت قيود قانونية بغرض قمع الحريات، ودعمت بمواد أخذت من القانون الجنائي لعام 1991، مثل المادة (21)، وهي "الاشتراك تنفيذاً لاتفاق جنائي"، والمادة (50)، وهي "تقويض النظام الدستوري"، والمادة (63) وهي "الدعوة لمعارضة السلطة العامة بالعنف أو القوة الجنائية"، والمادة (66) وهي "نشر الأخبار الكاذبة". كذلك أُخذت بعض المواد من قانون جرائم المعلوماتية للعام 2007، وقانون الصحافة والمطبوعات 2009، وقانون الأمن الوطني 2010.

وإضافة إلى الرقابة القبلية سيطرت عبارة "الأمن القومي" على المواجهات بين النظام السابق والصحافيين، وصادق مجلس الوزراء في يونيو (حزيران) 2018، على اقتراح تعديل "قانون الصحافة والمطبوعات للعام 2017، القاضي بمنح مجلس الصحافة والمطبوعات التابع للنظام السابق سلطات واسعة، كما شمل القانون إضافة إلى الصحف الورقية، الصحف الإلكترونية أيضاً. ونصت المادة (20) من التعديل المقترح على تحويل ملكية الصحف إلى شركات مساهمة عامة، في خطوة نحو تأميم الصحف، من مثل ما قام به الرئيس الأسبق جعفر النميري.

ومن ضمن ما جاء به التعديل وقف الصحيفة مدة 15 يوماً، وسحب ترخيصها لثلاثة أشهر، ووقف الصحافي عن الكتابة لمدة تقدر لاحقاً. كما ينصّ التعديل في بعض الحالات على إلغاء ترخيص الصحيفة نهائياً، وشطب الصحافي كلياً أو مؤقتاً من السجل الصحافي بلا إجراءات قانونية أو دستورية، ومن دون الحق في الرجوع إلى القضاء.

قانون بديل

من جهة أخرى، يبدو طبيعياً في سياق التحول الديمقراطي أن يبدأ انفراج الحريات من الصحف وحرية التعبير. لكن ذلك تأخر كثيراً، إلى أن أعلن وزير الثقافة والإعلام فيصل محمد صالح أخيراً، استبدال قانون الصحافة والمطبوعات لعام 2009 بقانون جديد يشمل الصحافة الإلكترونية، "لضمان حرية الصحافة وحماية الصحافيين". ولم يستطب كثيرون إشارة وزير الثقافة والإعلام الفائز بجائزة "بيتر ماكلر" للشجاعة والنزاهة المهنية في مجال الصحافة الإلكترونية، إذ أعادت إلى الأذهان مباشرة وضع الصحافة الإلكترونية موضع الشبهات، وتقييدها أيام النظام السابق بقصد قمعها، وهدم المساحة التي كان يهرب إليها الصحافيون من قيود الصحافة الورقية، إذ كانت المقالات والمواد المصادرة بسببها الصحيفة أو الممنوعة من النشر، تجد ملاذها في الصحافة الإلكترونية. أما في ظل الحكومة الانتقالية، فقد فسر قول الوزير صالح إن "الإعلام ليس مجالاً لممارسة النشاط السياسي بل لممارسة النشاط المهني بالقيم المهنية الصارمة"، بأنه "ضيق بالمواقع الإلكترونية".
ولم يحظ الوضع الصحافي السوداني بعد الثورة بقبول كبير، إذ لا تزال الحاجة إلى الدمج بين أبعاد التحول الديمقراطي وتطوير الصحافة قائمة، كما لم تأخذ الصحافة ملمحاً من التوجه نحو النموذج الديمقراطي، على الرغم من استعداد الصحافيين للاستفادة من مناخ الحريات. وهناك حقيقة أن الصحافة السودانية مثلها مثل نظيراتها في الدول الأفريقية، قد لا تحصل على نموذج الحريات المعياري، ولكن قد تحدث تطورات ولكنها بطيئة نسبة إلى آثار القوانين والقرارات السياسية السابقة، وتأثيرها في الأداء الصحافي والإعلامي بشكل عام.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)


فك ارتباط

أما في قضية تدهور أوضاع الصحافيين السودانيين، فتلقي الحكومة الانتقالية باللوم على الناشرين الذين طالبوا بإزالة العقبات أمام الطباعة والنشر، ومساعدتهم في التمويل أو على أقل تقدير الإعفاء من الضرائب أو تيسيرها، في تكرار لما كان الوضع عليه في ظل النظام السابق. وتعتمد الصحف مادياً في الغالب على عائدات الإعلانات، إضافة إلى نسبة قليلة من التوزيع، ولكن لوحظ أن الإعلانات تدور في فلك النظام السابق، إذ كانت هناك شركة تابعة لجهاز الأمن تحتكر الإعلانات الحكومية وإعلانات المؤسسات التابعة للدولة وأفراد النظام، وتعيد توزيعها على الصحف الموالية لها، بينما تحرم منها صحفاً أخرى، ولا زالت تلك الطريقة متبعة على الرغم من حلّ تلك الشركة، وانسحاب بعض الصحف الحكومية من الواجهة. ويعبر البعض عن السخط من الوضع الحالي، وأن يظل الارتباط قائماً بين الحكومة والمؤسسات الصحافية حتى لو تم تعديل قانون الصحافة، مما يعوق عملية ارتقائها.
وقبل أن تُحطم القيود المعنوية التي تشد الصحافة إلى النظام السابق، تم افتراض التوازن بين الصحافيين والحكومة الانتقالية، على الرغم من انقسام التكوينات الصحافية إلى جزر شتى، فمنها أجسام موالية للنظام السابق وأخرى كانت معارضة له. ونسبة إلى تبدل الأدوار، فإن المستبعدين قديماً والمقربين الآن إلى "قوى الحرية والتغيير"، كانوا يظنون أن بمقدورهم حل مشكلة الصحافة في ظل تيار سياسي حليف في الحكم، ولكن وكيل أول وزارة الثقافة والإعلام، الرشيد سعيد، دعاهم إلى تشكيل جمعيات تعاونية ومطابع تشاركية لحل مشكلة الطباعة وتسيير أعمالهم.

فقدان ثقة

إضافة إلى استمرار حال فقدان الثقة المتبادلة بين الحكومة والصحافيين، لا يزال سلوك الصحف والصحافيين يخضع للنقد واللوم، وهذا يعني أن المجتمع السوداني بحكومته وصحافييه لم يتطور سياسياً، وأن التغيير الذي حدث إثر الثورة يستلزم تغييراً اجتماعياً واقتصادياً مصاحباً، وتغييراً سياسياً للتقليد الراسخ للنظام السابق في تعامله مع الصحافة. وهنا يمكن لفت الانتباه إلى أن عملية التحول الديمقراطي التي كان يفترض أن تنتج استقراراً سياسياً، أدت مع توسع نطاق المشاركة السياسية، إلى ازدياد الصراع وتوسع دائرة عدم الثقة. أما بعض القوى السياسية التي كانت تتصدر المشهد مطالبة بالحريات، فعندما اطمأنت إلى وضعها الآن بفضل اتحادها مع القوى القادمة من المنافي والقوى التي كانت تعمل خلف ستار، باتت أقل حيوية، وخفتت النبرة المطالبة بالتعديلات لديها.
كما يلاحظ أن حلقة تكاد تكون مفقودة بين الحكومة الانتقالية والصحافة، وفي جزء من هذه السلسلة، يبدو أن "قوى الحرية والتغيير" هي التي تفرض على مركز القرار السياسي أن يتصرف تبعاً لتصوراتها، وليس لتوجهات الرأي العام.

المزيد من تقارير