لم يكن الكاتب المصري عباس محمود العقاد حدثاً عادياً في تاريخ الثقافة العربية، لكن الطريف في أمر هذا العملاق الأسواني الذي لا تزال مدينة الجنوب المصري تعيش في أفياء ظلاله حتى اليوم بعد عشرات السنين من رحيله، أن من العبث البحث عنه لا في ثنايا كتبه، ولا دائماً بين سطور أو صفحات ما كتب ويكتب عنه. بل ولا حتى في أي نص تناوله وهو بعد على قيد الحياة. بل في كتاب هو غير مسؤول عنه على الإطلاق. وكتاب لا يدعي كتابة سيرته ولا تحليل أعماله، ولا حتى سبر مكانته الحقيقية في الحلقات الفكرية والإبداعية في مصر، ولا سيما خلال تلك المرحلة التي عاش فيها هذا البلد نحو خمسين أو أقل قليلاً من سنوات وصفت بأنها الأكثر ليبرالية وازدهاراً ثقافياً في تاريخ المنطقة العربية: المرحلة الممتدة بين نهاية عقد العشرينيات وبدايات عقد الخمسينيات من القرن العشرين، أي تقريباً بين ثورتي 1919 و1952، والتي لعب فيها العقاد كما عدد مهم آخر من الذين بنوا الإبداع الحقيقي في مصر، دوراً مهماً في تكوين الوجدان الشعبي حين كانت الحياة المصرية تسير على خطين صداميين، خط الصدام مع المحتلين الإنجليز بغية التخلص منهم؛ وخط المعارك التي كانت تخاض خاصة ضد الرجعية المصرية وأولئك الذين كانوا يشعرون بالحنين إلى الخلافة العثمانية فيختبئون وراء الدين لتحقيق مآربهم وعينهم على إسطنبول...
أبطال صادقون لمعارك حقيقية
في كل تلك المعارك لعب العقاد، كما طه حسين ومحمود عبد الرازق وأمين الخولي وأحمد لطفي السيد وأحمد زكي ودكاترة علم النفس في جامعة عين شمس والشعراء والمغنون والسينمائيون، وغيرهم من الفئات وصولاً إلى يحيى حقي ونجيب محفوظ وتوفيق الحكيم....، لعب دور أساسي في كل تلك المعارك، في كتاباته وفي عمله الصحافي ووفديته المشاكسة ولكن خاصة انطلاقاً من صالونه الذي كان محفلاً ونادياً ومقفزاً للفكر الغاضب المنفتح على العالم. وهذا الجانب الأخير هو في الحقيقة ما يستوقفنا هنا، ولكن من خلال الكتاب الذي أشرنا إليه والذي وضعه أنيس منصور فكان من أجمل كتب هذا الأخير على الإطلاق. وكما قلنا ليس الكتاب كتاب سيرة ولا كتاب تحليل، بل هو وصف متواصل للصالون العقادي الذي كان يجتمع فيه أسبوعياً عدد كبير من المفكرين والمبدعين المصريين والعرب وبعض الأجانب الفضوليين بين الحين والآخر، فتدور الأحاديث حول مختلف الشؤون ولكن دائماً من خلال الموقع الذي يحتله صاحب الصالون، وهو موقع عرف أنيس منصور كيف يستوعبه ويصف مقدماً من خلاله صوراً قلمية رائعة للعقاد ولكن للمحيطين بالعقاد في جلساته. صوراً تذهب بالقارئ إلى تلك الأيام السعيدة رغم صعوباتها والتي كانت الثقافة، بشتى تجلياتها، تنعكس في لقاءات وحوارات ومواقف تبدو اليوم أسطورية بكل ما فيها من تبادل لطيف أو متهكم، ومن حكايات غرام عابرة أو دائمة، ومن تحليلات للوقائع الاجتماعية أو السياسية. هو باختصار كتاب أشبه بأن يكون صورة لحياة لا تنضب، ولأفكار لا تتعب. كتاب يكاد يكون، بلغة أنيس منصور ذات الألوان الرائعة والمنحنيات اللامعة، صورة للشخصية المحورية في الكتاب: عباس محمود العقاد نفسه.
فهنا يبدو العقاد كما يصوره كتاب أنيس منصور شخصية درامية استثنائية، فهو انطلاقاً من حجمه العملاق، بكل معنى الكلمة، وانطلاقاً من كونه الوحيد- تقريباً - بين كافة مفكري العصر الليبرالي في مصر في النصف الأول من القرن العشرين، الذي عرف بكونه عصامياً علم نفسه بنفسه، وانطلاقاً من شخصيته ذات المراس الصعب وعمق الثقافة الحيوية التي كونها لنفسه، وأخيراً، انطلاقاً من شخصيته القيادية التي جعلت له عدداً كبيراً من التلامذة والحواريين، سواء أكان ذلك في الأدب، أو في الفكر أو في الفلسفة أو في السياسة، انتهى الأمر به لأن يصبح أشبه بالأسطورة، الأسطورة التي تصنع شخصية العقاد الحقيقية وتختفي خلفها.
صناعة أسطورة
ومن هنا يذكرنا أنيس منصور بأن أسطورة العقاد، مثل كل أسطورة تستحق هذا الاسم، انصنعت من حوله وعبر النظرة إليه، أكثر مما انصنعت في كتاباته وعمله. ولربما كان محقاً ذاك الذي قال يوماً، إننا إذا تفرسنا في جوانب إنتاج العقاد، لوجدنا أننا بالكاد قادرون على اعتبارها أفضل ما أنتج في مصر، في كل مجال من تلك المجالات، في الزمن العقادي. فلئن كان قد كتب الرواية («سارة»، مثلاً) فإن روايته لا يمكن اعتبارها من أفضل ما كتب، ولو أخذنا «العبقريات» لوجدنا فيها حشواً كثيراً، ولرأيناها حافلة بالتبريرات والأبعاد السيكولوجية المقحمة إقحاماً فيها. ولو تحرينا مواقفه الفكرية والفلسفية لوجدناها متخبطة كأنها لم تكن أكثر من نتف من هنا ونتف من هناك. ولو تبحرنا في مواقف العقاد الاجتماعية لوجدنا له مواقف في غاية الرجعية (مواقفه من المرأة، من الحداثة في الشعر...) تتجاور مع مواقف في غاية التقدم.
ولكن، بعد هذا كله، يمكن القول ولا سيما انطلاقاً من تصوير أنيس منصور له في كتابه، بأنه من الصعب تحليل العقاد وحياته وأدبه على هذه الشاكلة، العقاد إما أن تأخذه كله أو ترفضه كله. العقاد حالة وظاهرة، أكثر منه كاتباً، أدبياً أو فكرياً. العقاد صورة حقيقية لمصر التي كانت في ذلك الحين تعيش بداية نهضتها الحقيقية: له عصامية مصر، وجرأة مصر، وتطلع مصر إلى الأفضل، كما أن له نزعة «الكيفماكان» والنزعة التقريبية التي تطبع جزءاً من الإنتاج الثقافي والفكري في مصر، خلال بعض مراحل تاريخ ذلك الإنتاج.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
صور متنوعة في كتب كبيرة
ومن هنا، إذا شئنا أن نعرف عباس محمود العقاد كما ينبغي أن نعرفه، يجب أن نراه في مذكرات فاطمة اليوسف (روز اليوسف) وفدياً مشاكساً جريئاً لا يتورع عن التهديد، داخل قبة البرلمان، بقطع "أكبر رأس في الدولة"، ولكن خاصة بعد كل شيء في كتاب أنيس منصور «في صالون العقاد...» شخصية أسطورية وبطلاً تراجيدياً من النوع الذي يجيد أنيس منصور، عادة، رسمه. مهما يكن في كل الكتب التي وضعت عن العقاد أو من حول حياته يطالعنا نفس ذلك العملاق العنيد الصلب، الذي نشأ هكذا وحيداً وأتى من اللامكان. وفجأة- من دون أن يدري أحد كيف- صار نقطة الاستقطاب الرئيسة في حياة مصر والعالم العربي الفكرية، وعلى الأقل منذ عام 1906 الذي شهد بداياته الحقيقية، تلك البدايات التي كانت فاتحة حياة أدبية وفكرية تواصلت صاخبة مدهشة حتى رحيل العقاد عن عالمنا في عام 1964 وهو في قمة عطائه ومعاركه الفكرية. ولعل معارك العقاد الفكرية إلى جانب معاركه السياسية، أروع ما عرفته الحياة الثقافية المصرية طوال العقود الأولى من القرن العشرين. وحياة العقاد، سواء ككاتب أو كشاعر، كسياسي معارض، كعضو في مجلس النواب، كعضو في مجلس الشيوخ، كمفكر تنويري إسلامي (العبقريات) كناقد أدبي سيكولوجي النزعة (الديوان)، كانت حياة صاخبة، حياة صراعات لا تنتهي.
ابن ثورة 1919
ولد عباس العقاد عام 1889 في أسوان التي أمضى فيها طفولته، ثم انتقل إلى القاهرة، وتحول إلى الكتابة بين عامي 1906 و1907 ومن فوره صار يعتبر نفسه جزءاً من تلك الحياة الفكرية الصاخبة التي كانت تملأ مصر النهضوية في ذلك الحين. أما بدايته الحقيقية، فكانت مع اندلاع ثورة عام 1919 التي ارتبط بها منذ لحظاتها الأولى، حيث راح يكتب المقالات العنيفة التي يدافع فيها عن قيادة الثورة، كما أنه كان يكتب بيانات جماعة «اليد السوداء» المتطرفة. ومنذ ذلك الحين لم يكف العقاد عن الكتابة، وقف عليها كل حياته وكل نشاطه، وواصل ذلك حتى رحيله، فكان واحداً من أساطير الكتابة والسجال، وزاد من أسطوريته أنه كان من المفكرين القلائل الذين لم تكن لديهم مطالب في مال أو جاه. أو لعل مطلبه الحقيقي والوحيد كان المكانة الأسطورية التي كانت له، وأسهم هو في تنميتها حتى غلبت، أخيراً، على صورته الحقيقية لتشكل المحور الأساس في كتاب أنيس منصور البديع.