"سيداتي، سادتي، أقدم لكم السيدة فاطمة اليوسف التي عرفتموها دائماً باسم روز اليوسف، أقدمها لكم وقد ملأت أسماعكم على مدى ثلاثين عاماً، أقدمها لكم وقد أعجبتم بها كفنانة اعتلت خشبة المسرح، وصعدت سلمه في خطى ثابتة، حتى أصبحت كبيرة فنانات الشرق في العصر الذهبي للمسرح. أقدمها لكم وقد أعجبتم بها كصحافية أخرجت للعالم العربي جريدة باسمها كانت نواة النهضة الصحافية العربية وما زالت حتى اليوم، مدرسة يتخرج منها كل كاتب وصحافي ناجح، وأقدمها لكم كسياسية، درست السياسة العربية وجاهدت وقاست مع كل وطني حرّ يعمل على رفعة شأن بلاده".
بهذه العبارات قدم الكاتب إحسان عبد القدوس في برنامج إذاعي له عام 1957 تلك السيدة التي كان وجودها حدثاً استثنائياً في الحياة الاجتماعية المصرية حينها. والحقيقة أن كثراً من الناس فوجئوا يومها بذلك التقديم، حتى وإن كان كثر منهم يعرفون أن الاسم نفسه يعني شيئاً ما في الحياة الثقافية، كما السياسة المصرية. لكن الحقيقة أنه لو أن صاحب "لا أنام" و"أنا حرة" وغيرهما من الروايات العاطفية، قدّم السيدة باسم آخر هو روز اليوسف، لكان الغموض أقل بكثير. فاسم روز اليوسف كان في ذلك الحين على كل شفة ولسان. "روز اليوسف" لم يكن سوى اسم واحدة من أشهر المجلات السياسية الأسبوعية القاهرية. بل المجلة الأشهر منذ كان إحسان عبد القدوس نفسه قد نشر فيها قبل فترة من اندلاع الثورة المصرية سلسلة مقالات تفضح صفقات الأسلحة الفاسدة التي تسببت في هزيمة الجيش المصري في فلسطين.
تفكيك الكلمات المتقاطعة
ماذا؟ هل نحن أمام تشابه أو خلط في الأسماء. وما لنا نجد إحسان عبد القدوس هنا وهناك؟ هل في الأمر مصادفة؟ على الإطلاق فروز اليوسف هو بالفعل الاسم الفني الذي اختارته لنفسها فاطمة اليوسف أم إحسان عبد القدوس نفسه، ثم أطلقته على مجلتها حين أسستها أول الأمر تحت رعاية حزب الوفد ثم في انفصال عنه بل في صراع معه، في مغامرة انتقال من الفن المسرحي إلى الصحافة والسياسة ندر أن خاضتها امرأة في الحياة العامة العربية. بالتأكيد كانت فاطمة روز اليوسف واحدة من أهم السيدات اللواتي عرفتهنّ الحياة الفنية والصحافية والسياسية في مصر خلال النصف الأول من القرن العشرين، بل لعلها الوحيدة في تاريخ العرب الحديث التي عرفت كيف تجمع الفن والسياسة والثقافة في بوتقة واحدة، مضيفة إلى ذلك كله إنجابها لواحد من أكبر وأشهر كتّاب الرواية العرب: إحسان عبدالقدوس.
من هنا إذاً كان ذلك التقديم الذي خصّها إحسان به في ذلك البرنامج الإذاعي الذي تحدثنا عنه أعلاه. والآن إذا أضفنا إلى ذلك التراكم المعلوماتي كله أن السيدة المصرية التي قدمها الكاتب على تلك الشاكلة كانت... لبنانية في الأصل لا مصرية، ستصبح المسألة جديرة بأن ننصح القراء بمحاولة العثور على كتاب مذكراتها الذي أصدرته السيدة نفسها يوماً راوية فيه سيرة حياتها المدهشة حقاً، حيث أنها تصور فيه من خلال سيرتها جزءاً أساسياً من الحياة الفنية ثم الصحافية والسياسية في مصر خلال النصف الأول من القرن العشرين. ومن خلال ذلك يكتشف القارئ حكاية حياة وصراعات وتطورات لا يمكن تصورها. ولئن كنا نعرف أن العثور على مثل هذا الكتاب ليس بالأمر السهل في أيامنا هذه، سيكون من المفيد هنا، وفي انتظار وصول الكتاب إلى القراء أن نشير إلى أنه لم يكن ثمة شيء في طفولة فاطمة اليوسف يقول إنها ستكون ذات يوم، كل هذا.
فالطفلة ذات الأصل اللبناني السوري الطرابلسي، كانت مجرد طفلة يتيمة حطت رحالها مصادفة في القاهرة عند أوائل القرن العشرين وهناك، ولسبب لن يبدو لنا واضحاً لا هو ولا ظروفه ولم يحدث أن فصّلته هي لا في كتابها ولا في تصريحاتها الصحافية، كما أن ابنها إحسان لم يفِ أبداً بوعود منه كانت تتعلق برواية حكاية بدايات أمه، لسبب غامض إذاً، أولعت المراهقة الحسناء بعالم المسرح وأضوائه الباهرة، ولا سيما حين كانت تتسلل للتفرج على مسرح يقع وسط العاصمة المصرية. وهناك، كما تقول الحكاية، اكتشفها الفنان عزيز عيد ذات يوم فدهش بمثابرتها على التسلل لمشاهدة العروض، ولم يلبث أن جعل منها ممثلة.
مراهقة في دور الجدّة
والطريف أن أول دور مثلته فاطمة، وهي في سن المراهقة، كان دور جدة في مسرحية عنوانها "عواطف الأبناء". وكانت تلك خطوة أولى قادتها إلى احتراف التمثيل المسرحي، اولاً تحت رعاية عزيز عيد ثم تحت رعاية جورج أبيض وأمين الريحاني. أما العمل الأكبر الذي أطلق شهرتها في ذلك الحين فكان توليها بطولة أوبريت "العشرة الطيبة" التي لحنها سيد درويش ليخرجها عزيز عيد. بعد ذلك، وفي عالم يوسف وهبي، عادت فاطمة اليوسف لتعرف مزيداً من الشهرة حيث سرعان ما أصبحت بطلة فرقته "رمسيس"، وراحت ترافق الفرقة من نجاح إلى نجاح، حتى بدأ التدهور يصيب ذلك المشروع فقررت فاطمة اليوسف - وقد باتت تحمل اسمها الفني الذي ستعرف به قبل أن يخلّد كعنوان لمجلتها روز اليوسف - أن تعتزل المسرح قائلة: "إن الفنان يجب أن يترك المسرح قبل أن يتركه المسرح" واعتزلت وسافرت إلى باريس. ولقد ظلت على اعتزالها تسع سنوات، ولم تعد إلى المسرح إلا لمناسبة وطنية حين احترقت قرية "محلة زيادة" فقررت مع رفاقها القدامى أن تقدم مسرحية "غادة الكاميليا" لليلتين تبرعاً من أجل إعادة بناء القرية. والحال أن إقامتها فترة في باريس ثم أداءها في القاهرة لدور غادة الكاميليا قد جعلا الجمهور والصحافة في ذلك الحين يطلقان عليها لقب "سارة برنار الشرق" بالنظر إلى أن الفنانة الفرنسية الشهيرة كانت قد عُرفت بالدور نفسه.
وعي وطني من المسرح إلى الصحافة
ولقد أيقظها حريق تلك القرية ومساهمتها الفنية في إعادة إعمارها على الواقع الاجتماعي والسياسي في مصر، فإذا بها في تلك الفترة بالذات تقرر إصدار تلك المجلة التي فاجأت الجميع بأن أعطتها اسم شهرتها "روز اليوسف"، عنواناً لها وأعلنت لرفاقها، وفي مقدمهم محمد التابعي أنها مستعدة لبيع كل ما عندها من أجل تدبير مبلغ الإثني عشر جنيهاً التي يتكلفها إصدار مجلة في 3000 نسخة. وهكذا كان وصدرت "روز اليوسف" التي اتجهت منذ البداية لتأييد حزب الوفد، غير أن تأييدها للوفد كان محدوداً وناقداً، وهكذا سرعان ما وجدت السيدة نفسها تخوض أعنف المعارك ضد ورثة سعد زغلول في ذلك الحزب، لا سيما منهم مصطفى النحاس ومكرم عبيد. وهنا انفتحت معركة الوفد ضد روز اليوسف، لكن السيدة لم تكن وحدها، إذ وقف إلى جانبها عباس محمود العقاد ومحمود عزمي اللذان راحا يكتبان المقالات العنيفة ضد الوفد وحكومته، فما كان من الوفد إلا أن جمع أنصاره وهاجم مبنى المجلة حيث راح المتظاهرون يقذفون المبنى بالحجارة، فما كان من فاطمة اليوسف إلا أن جابهت الجمهور شارحة وجهة نظرها في أسلوب ممارسة مصطفى النحاس للحكم.
صراع ضدّ الجميع
ولكن لئن كانت السيدة قد انتصرت في تلك اللحظة، فسرعان ما خسرت على المدى الأبعد، حيث أدت مقاطعة الوفد والحكومة لها إلى خسائر مالية ضخمة أوردتها مورد الإفلاس فأودعت السجن، لكنها خرجت منه أكثر تصميماً وراحت تخوض معركتها الصحافية والسياسية، ضد الوفد والإنجليز والقصر وصارت "روز اليوسف" مدرسة في الوطنية وكتب فيها معظم الصحافيين الكبار، وراحت تكشف الفضائح (مثل فضيحة الأسلحة الفاسدة التي أشرنا إليها والتي يقال إن مقالات عبد القدوس فيها هي التي أطلقت شرارة ثورة 1952) وبقيت السيدة تشاكس، وظلت المجلة قائمة تحمل اسم مؤسستها بعد رحيل فاطمة اليوسف في أبريل (نيسان) 1957 وبعد رحيل الوفد نفسه وزعاماته.