Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

استعادة عالم بوريس باسترناك على ضوء"بيريسترويكا" غورباتشوف

"دكتور جيفاغو" ساهمت في اتهامه بالخيانة العظمى والتهديد بالطرد من الوطن

الشاعر والكاتب الروسي بوريس باسترناك (غيتي)

ثمة خطأ يقع فيه كثيرون من القراء وهواة متابعة أدب من يسمونهم "المنشقين"، ممن ينسبون إليهم بوريس باسترناك، وهو قصر نشاط هذا الشاعر والأديب السوفياتي الذائع الصيت، على رواية "دكتور جيفاغو" التي كانت في مقدمة أسانيد منحه "جائزة نوبل" للآداب عام 1958، وأدرجته السلطات السوفياتية بسببها ضمن المناوئين لسياساتها. ولعل المتابع لسيرة حياة أو نشاط باسترناك يكتشف أبعاداً هائلة من الثراء الروحي والمعنوي، وقدرات هائلة ساعدت على تمكينه من استيعاب كثير من المفردات والثوابت في عوالم الأدب والموسيقى والترجمة والفنون بمختلف أطيافها، وحملته إلى مصاف أبرز أدباء وشعراء العصر.

عاش بوريس باسترناك أولى سنوات نضجه الإنساني والأدبي مواكباً لكثير من الأحداث المأساوية العاصفة ومنها ثورة أكتوبر (تشرين الأول) الاشتراكية، وما نجم عنها من تبعات درامية شملت انهيار كثير من مفاهيم العصر، وما تضمن ذلك من سقوط للمعايير وانحسار للقيم والتقديرات وتراجع للطموحات وتكسر للآمال والأحلام. وعن مراحل حياته وسنوات الصبا والشباب كتب باسترناك، يقول، إنه ولد في العاشر من فبراير (شباط) 1890 لأبوين يهوديين يملكان كثيراً من نواصي الفنون والموسيقى. فبينما كان الأب فناناً محترفاً يقوم بتدريس الرسم وتحول لاحقاً إلى المسيحية الأرثوذكسية، كانت الأم عازفة بيانو ذات شهرة طاغية أسهمت في ولوجه عالم الموسيقى منذ صغره، وقبوله الدراسة في كونسرفتوار موسكو. وفي عام 1909 ولم يكن تجاوز التاسعة عشرة من العمر التحق باسترناك بكلية الآداب جامعة موسكو لدراسة الفلسفة التي انطلق منها إلى عالم الشعر والأدب. وقد أسهم كل ذلك في تنشئته نشأة فنية وأدبية متميزة، دعمها وساندها ما عاشه من أجواء اختلاط ذويه بنجوم العصر من فنانين وأدباء وموسيقيين وعلماء، وفي مقدمتهم الأديب الروسي الكبير ليف تولستوي، والموسيقي صاحب الشهرة المحلية والعالمية سيرغي رحمانينوف، وعالم الكيمياء الشهير ميندلييف.

وفي هذا الصدد كتب عام 1927 في مقدمة سيرته الذاتية: "إنني ابن للفن والفنانين، عاصرت واختلطت منذ الصغر مع أبرز نجوم المجتمع، فيما نشأت متشرباً بأسمى وأجمل المفاهيم والعادات التي غرست في نفسي حب الطبيعة على مختلف أطيافها الطبيعية منها، والاجتماعية وبما جعلها من ثوابت دنياي".

ولذا لم يكن غريباً أن يختتم باسترناك تسجيله مفردات سيرته الذاتية، بالاعتراف بسعادته بما جادت بها عليه الأقدار من قدرة على التعبير عن الذات في أقصى صورها، وعلى التضحية لبلوغ كل ما أحسن اكتنازه لرحلة الصمود، بعيداً عن عوالم الضياع والفناء.

الموسيقى والرسم

ولعل ما استهل به باسترناك طفولته من حب للطبيعة وما تجود به من نباتات، سرعان ما فارقه ليفسح مكاناً لهواية الرسم، التي تراجعت أمام حبه الموسيقى التي درسها في كونسرفتوار موسكو، أسهم في تطوره شاباً متعدد المواهب، التي لم يمض من الوقت كثير حتى اتسعت قائمتها وتعددت أوجهها لتشمل نظم الشعر والأدب. ومن هنا يمكن القول إنه تأثر في ذلك بكثير من مقولات وأحكام الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط، خلال السنوات الأولى من فترة إقامته في مدينة ماربورغ الألمانية، التي سرعان ما غادرها في عام 1914 إلى إيطاليا سعياً وراء تأصيل ما اكتسبه من معارف ومعلومات عن الفنون الإيطالية، وهو ما قال عنه لاحقاً: "إن إيطاليا بلورت في ذاتي ما تربيت عليه منذ سنوات المهد والطفولة".

ولم يقتصر الأمر على ما اكتسبه خلال سنيّ طفولته من خبرات ومعارف، حيث اعترف لاحقاً بأنه تأثر أيضاً بما وجد عليه أباه من حب للمسيحية التي تحول إليها من اليهودية، وما تبع ذلك من اهتمام بالإنجيل الذي قال عنه إنه: "ليس مجرد كتاب، بقدر ما هو ناموس للبشرية".

وفي سنوات الشباب والدراسة الجامعية تشكلت وجهات نظره وأحكامه وما تربى عليه من قيم وقدرات أسهمت في تحمل ما واجهه أبناء جيله من مصاعب وصعوبات خلال سنوات الحرب والثورة. وجاءت سنوات الشعر والأدب التي سجل خلالها كثير من دواوينه الأولى لتؤكد أنه في سبيله إلى امتهان نظم الشعر واحتراف الأدب. ويضيف باسترناك: "إن كثيراً من دواوينه الأولى التي كتبها قبل اندلاع الثورة في عام 1917 ضاعت، ولم يحتفظ منها إلا بالقليل الذي لم يلتفت إليه النقاد والقراء".

غير أن تعارفه في عام 1914 مع فلاديمير ماياكوفسكي الذي حظي لاحقاً بكنية "شاعر الثورة"، أسهم وإلى حد كبير، في تكوين كثير من توجهاته الأدبية وأحكامه الفنية. واعترف باتساع مساحات التقارب مع ماياكوفسكي. وتمر السنون لتظهر مجموعته الشعرية الأولى "شقيقتي حياتي" في عام 1922 التي استطاع بين ثناياها تجسيد كل ما كان يمكن معرفته عن الثورة بكل دقائقها وأسرارها، وكانت في مقدمة أسباب ذيوع صيته وشهرته، ولقيت اهتمام وتقريظ كثيرين من نجوم العصر، وفي مقدمتهم أوسيب ماندلشتام، ومارينا تسفيتايفا وهما من أبرز شعراء ذلك الزمان.

وتضم قائمة إنتاجه، ما أبدعه من أحكام وأقوال أودعها بين دفتي كتابه الرائع الذي أصدره في عام 1918 تحت عنوان "بضعة أحكام" ويستحق الوقوف عنده بالمزيد من الاهتمام، وقال فيه: "إن كل ما في مقدورنا، هو العمل من أجل عدم تشويه صوت الحياة الذي ابتلت به جوانحنا". 

الشاعر المترجم

وينتقل باسترناك إلى جورجيا المجاورة ليبدأ مرحلة جديدة من حياته شهدت أفضل إبداعاته في عالم الترجمة التي نشير منها إلى تراجمه لكثير من روائع شكسبير وجوته وفريدريك شيللر. وفيها أيضاً كتب ديوانه الذي اختار له "أمواج" عنواناً. ولم يمض من الوقت كثير حتى شرع باسترناك في كتابة رائعته "دكتور جيفاجو" التي كان اختار لها عنواناً مبدئياً هو "الصبية والفتيات"، وقال عنها إنها تعكس رؤيته للفن والحياة، وجمع فيها بين أفكار الروائيين البريطاني تشارلز ديكنز والروسي فيدور ودوستوفسكي. وتناول باسترناك في هذه الرواية التي جرت عليه كثيراً من الشهرة والمآسي في آن، أحداث السنوات الخمسة والأربعين الأولى من القرن العشرين بكل أفراحها وأتراحها، وجمع فيها بين السيرة الذاتية وما شهدته روسيا من حروب وثورات. وعلى الرغم من أن باسترناك فرغ من كتابة رائعته في غضون ما يقرب من ثلاث سنوات، فإنه تردد كثيراً في الدفع بها إلى المطبعة، ولم يفعل ذلك إلا بعد وفاة ستالين في عام 1953، وإعلان خليفته نيكيتا خروشوف عن إدانة عبادة الفرد وفضح ممارسات ستالين "الدموية" في تقريره الشهير الذي ألقاه في المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفياتي في عام 1956.

تقدم باسترناك برائعته "دكتور جيفاغو" في عام 1956 إلى مجلتي "نوفي مير" (العالم الجديد)، و"زناميا" (الراية) وهما من أبرز المجلات الأدبية السوفياتية. ترددت هيئتا تحرير المجلتين في قبولها، ليتخذ باسترناك قراره بتسليمها إلى أحد أصدقائه من أعضاء الحزب الشيوعي الإيطالي الذي استطاع نشرها في روما عام 1957.

وعن هذه الواقعة يقول باسترناك في مذكراته: "ينتظرني شتاء عاصف حافل على ما يبدو بكثير من المحن والمآسي. لقد كتبت في روايتي عن الانفصام الفكري للبشر، ممن يواجهون كثيراً من الاتهامات". (....) ولعلني يمكن أن أواجه ذات الاتهامات، في الوقت الذي لن أستطيع فيه وفي ظل ما نعيشه من واقع، تغيير أي شيء. فلست قادراً على إتيان المعجزات، ولن أستطيع وقف تدفق الأفكار ومواجهة المصالح وما يدور في الأذهان من تخيلات".

وكان الشيوعي الإيطالي سيرغيو دانغيلو كتب يقول عن لقائه مع الروائي السوفياتي في ضيعة بريديلكينو للأدباء في ضواحي العاصمة موسكو: "قصدت بريديلكينو. استقبلني الكاتب بترحاب غير مبالغ فيه. وما إن وصلت إلى الهدف الذي جئت من أجله، حتى اعترته الدهشة (فلم يكن يتوقع على ما يبدو، أن يلتقي مع ناشر أجنبي). واتسمت كثير من تصرفاته بقدر من التردد، مواكباً لما أغرق فيه من أفكار. وأشرت على نحو غير مباشر إلى أنه جرى رسمياً الإعلان عن نشر الرواية، وأن الأجواء السياسية تغيرت، وأنه ليس هناك ما يدعوه إلى عدم الثقة، وأن تردده الذي يعكس عدم الثقة، لا أساس له، وهو ما أسهم في تبديد بعض مخاوفه. أعرب باسترناك عن أسفه ليختفي لبعض الوقت وليعود بعده حاملاً مخطوطة روايته. وحين خرج لوداعي حتى بوابة المنزل، عاد ليعرب عن مخاوفه مازحاً بقوله"، لقد دعوتني إلى "الإعدام الذاتي".          

بينه وبين شولوخوف

وثمة من يقول بتدخل الإستخبارات الغربية لنشر هذه الرواية المثيرة للجدل، والتي سرعان ما جرى ترشيح مؤلفها باسترناك للحصول على جائزة نوبل للآداب في عام 1958. وتقول المصادر الأدبية إن باسترناك سبق وجرى ترشيحه لنيل الجائزة في عام 1954، لكن القائمين على الجائزة طلبوا من المؤسسة التي تولت ترشيحه استبداله بالروائي السوفياتي ميخائيل شولوخوف بديلاً، لتعلن لجنة جائزة نوبل عن منحها الروائي الأميركي أرنست هيمنغواي صاحب روايات "وداعاً للسلاح"، و"لمن تدق الأجراس" وغيرهما من روائع الأدب العالمي. أما ميخائيل شولوخوف فقد حصل على الجائزة في عام 1965 عن روايته "الدون الهادئ".

وكان باسترناك كتب في خريف عام 1954، حين علم بترشيحه لجائزة نوبل للأدب عن هذه الرواية: "إنني أخشى أن تتحول كل الشائعات التي تتردد حول ذلك إلى حقيقة، أكثر مما أرغب. (...) يبدو أن الله رأف بحالتنا، وتجاوزنا حالة الخطر. لقد جرى ترشيح الشخصية التي تحظى بكثير من التأييد على نطاق واسع.... هكذا يقولون. هناك من استمع عبر إذاعة "بي بي سي" (وأنقلها كما سمعتها) من يقول إنه جرى ترشيحي، لكنهم واستناداً إلى ما يعرفونه عن قيمنا وأوضاعنا، طلبوا موافقة المؤسسة التي تولت ترشيحي على استبدال اسمي باسم شولوخوف. ومع ذلك فإنني سعيد بأن أقف في مصاف جامسون وبونين (إيفان بونين الروائي السوفياتي فاز بجائزة نوبل للأدب في عام 1933)، وإلى جانب هيمنغواي، ولو بمحض الصدفة". 

وكان باسترناك كتب قبل ذلك في مجلة "زناميا" (الراية) الأدبية السوفياتية في أبريل (نيسان) 1954: "إنني سوف أنتهي من الرواية (دكتور جيفاجو) تقريباً في صيف هذا العام. إنها تتناول أحداث الفترة من 1903 وحتى 1929، بمقدمة تستمد مفرداتها من أحداث الحرب الوطنية العظمي (الحرب العالمية الأولى 1914 -1918). البطل هو يوري أندرييفيتش جيفاغو الطبيب والمفكر والباحث وصاحب التوجهات الأدبية الخلاقة، يموت في عام 1929، تاركاً خلفه كثيراً من الرسائل والأوراق التي كتبها إبان سنوات شبابه، ومنها ما نظمه شعراً نستقي منه بعضاً مما نودعه نصوص هذه الرواية وما ننشره في الخاتمة. المؤلف".   

ورغماً عن كل مخاوف باسترناك من ارتباط اسمه بهيئات أجنبية، أعلن القائمون على "جائزة نوبل" عن فوز باسترناك بالجائزة في عام 1958، مما أثار كثيراً من الجدل داخل الأوساط الحزبية والأدبية في الاتحاد السوفياتي، وما دفع باسترناك إلى إعلان رفضه تسلم الجائزة.

وكان باسترناك كشف في مذكراته بعضاً من فقرات الرد الذي تسلمه من هيئة تحرير مجلة "نوفي مير" حول رفضها نشر "دكتور جيفاغو" ومنها:"أن روح روايتكم توحي برفض قبول الثورة الاشتراكية، كما أن فكرة الرواية تقوم على أن ثورة أكتوبر، وما تلى ذلك من أحداث الحرب الأهلية، وما أسفرت عنه من تغييرات اجتماعية لم تأت للشعب بشيء، سوى المحن والمعاناة، إلى جانب تدمير الانتليجنتسيا، إما معنوياً أو فسيولوجياً. كما أن صفحات روايتكم تقول إن وجهات نظر المؤلف تجاه ماضي بلادنا، ولا سيما السنوات العشر الأولى بعد ثورة أكتوبر، تقول إن الثورة الاشتراكية كانت خطأً، وإن مشاركة الانتليجنتسيا التي شاركت فيها كانت بمثابة الكارثة غير القابلة للإصلاح، بل وتعد شراً لحق بها. إننا وبحكم مواقعنا التي تقف وبطبيعة الحال، على النقيض من مواقفكم، نرفض نشر روايتكم على صفحات (نوفي مير)".

ولم تقتصر المصائب التي لا تأتي فرادى، على رفض المجلات الأدبية السوفياتية لنشر "دكتور جيفاغو"، حيث سرعان ما توالت ردود الفعل الغاضبة التي زاد من حدتها، صدور الرواية عن دار نشر إيطالية باللغة الروسية، وما تلى ذلك من منح باسترناك جائز نوبل للآداب، في 23 أكتوبر 1958.  

غير أن باسترناك لم ينتظر طويلاً ليباغت أعضاء اللجنة السويدية، ببرقية مقتضبة إلى سكرتير الأكاديمية السويدية في اليوم التالي 24 أكتوبر 1958 قال فيها: "أشكركم بلا حدود، تأثرت كثيراً، فخور، مندهش، مرتبك. باسترناك".

حصار وضغوط

وعلى الرغم من ذلك لم تكتف الأوساط الأدبية الرسمية بكل ما اتخذه بوريس باسترناك من خطوات وإجراءات يستجيب فيها للخط الرسمي للدولة، وراحت تواصل حصارها وضغوطها ضده، ومن ذلك ما اتخذته هيئة رئاسة اتحاد الكتاب السوفيات، ومكتب اتحاد كتاب روسيا الاتحادية من قرار حول طرده من الاتحاد وإلغاء عضويته في 27 أكتوبر 1958، ونعته بخيانة الوطن والسقوط الأخلاقي. وقالتا في قرارهما بهذا الصدد: "إن مثل هذه التصرفات تستهدف النيل من تقاليد الأدب الروسي، ومن الشعب ومن السلام والاشتراكية. لقد غدا بوريس باسترناك أداة للدعاية البورجوازية، فيما كشفت (دكتور جيفاجو) عن غرور منقطع النظير للمؤلف في ظل فقر الفكر وضيق الأفق. (...) لقد مزق باسترناك آخر أواصر صلاته بوطنه وشعبه. ولذا وإزاء سقوطه السياسي والمعنوي وخيانته للشعب السوفياتي ولقضية الاشتراكية والسلام والتقدم وهو ما حصل على جائزة نوبل كمقابل له لصالح تأجيج الحرب الباردة، نقرر إسقاط عضويته من اتحاد الكتاب وطرده من صفوفه، وهو ما جرى التصويت عليه بالإجماع".

ولم يجد باسترناك إزاء ذلك كله إلا أن يعود ليرسل في 29 أكتوبر إلى سكرتير الأكاديمية السويدية برقيته التالية:"بمناسبة ما تعنيه جائزتكم للمجتمع الذي أنتمي إليه، أجد نفسي ملزماً برفض ما منحتموني إياه من تميز لا أستحقه. أرجوكم ألا تعتبروا رفضي الطوعي للجائزة إساءة لكم".

ومضت أوساط الأدباء والكتاب إلى ما هو أبعد، حيث عقدت اجتماعاً لجموع الكتاب والأدباء تدعو فيه الحكومة السوفياتية إلى إسقاط الجنسية عنه وطرده من البلاد. وذلك ما دفع باسترناك إلى التوجه إلى نيكيتا خروشوف بصفته الشخصية وإلى اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفياتي والحكومة السوفياتية برسالة قال فيها: "إنه فهم من تقرير الرفيق سيميتشاستني رئيس جهاز «كي جي بي» (لجنة أمن الدولة) أن الحكومة السوفياتية لا ترى مانعاً من خروجه من الاتحاد السوفياتي، وهو ما يعني الموت بالنسبة له، وما يرجو إلا أن تتخذ الحكومة تجاهه مثل هذا الإجراء".

هكذا توالت الضربات التي كالتها مختلف الأوساط الاجتماعية والأدبية والحزبية، والتي بلغت حد توجيه النائب العام للاتحاد السوفياتي تهمة الخيانة العظمي لبوريس باسترناك، لتكون المقدمة الطبيعية لما لحق به من مآس نفسية وأمراض أسفرت في نهاية المطاف عن وفاته في 30 مايو (أيار) 1960 عن سبعين عاماً.

هكذا فارق باسترناك وطنه ومحبيه ومريديه، من دون وداع يليق بمواهبه ومآثره في عوالم الأدب والفنون التي لم تجد طريقها إلى النور إلا بعد وفاته بقرابة عشرين سنة مع إعلان ميخائيل غورباتشوف لسياسات "البيريسترويكا والغلاسنوست"، وبموجب قرار اتحاد الأدباء السوفيات حول صدور الطبعة السوفياتية لروايته "دكتور جيفاغو" بين أحضان الوطن، بعد سنوات من القهر والاضطهاد والملاحقة التي لقيها مؤلفها قبل أن يعكف المخرج البريطاني ديفيد لين على دراسة إخراجها في فيلم حمل نفس الاسم من بطولة الفنان المصري عمر الشريف والنجمة البريطانية جولي كريستي في عام 1965، وهو الفيلم الذي حصد كثيراً من جوائز "أوسكار"، قبل أن يعود عمر الشريف وبقية أبطال الفيلم ليقصد موسكو في عام 1986 لإعادة تصويره في ضواحي تولا، قريباً من العاصمة السوفياتية، وكان ديفيد لين قام بتصويره في نسخته الأولى في إسبانيا.

المزيد من ثقافة