على الرغم من معارضة المرشح الرئاسي الديمقراطي جو بايدن والديمقراطيين بشكل عام، يتزايد الزخم بين الأعضاء الجمهوريين في مجلس الشيوخ للتصويت قبل موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية على اعتماد من سيختاره الرئيس دونالد ترمب في المحكمة العليا، خلفاً للقاضية روث بادير غينسبورغ، التي توفيت الجمعة. وهو ما يقول الإستراتيجيون في الحزب الجمهوري إنه سيؤدي إلى تحفيز الناخبين المحافظين وتحقيق إنجاز كبير للرئيس ترمب قبل أن يدلي الناخبون بأصواتهم في صناديق الاقتراع. ولكن ما سبب الصراع والخلاف حول تعيين قاض جديد، وهل يمكن أن يغير المزاج العام للناخبين، وما وضع المحكمة العليا بين السلطات في الولايات المتحدة الأميركية؟
الرئيس والمحكمة العليا
في الماضي، كان يقال إن مستقبل المحكمة العليا يعتمد على نتيجة الانتخابات الرئاسية، لأن الفائز بالبيت الأبيض، يكون أمامه أربع سنوات لملء المقاعد الشاغرة في المحكمة. لكن في الأيام القليلة المقبلة، قد يصبح للمحافظين القدرة على إغلاق المحكمة العليا أمام استقبال قادمين جدد لمدة جيل كامل، بصرف النظر عن نتيجة الانتخابات الرئاسية القادمة. إذ تضم المحكمة العليا الآن خمسة أعضاء من المحافظين الذين يميلون إلى اليمين مقابل ثلاثة ليبراليين، ولا يبدو أن أياً منهم سيتقاعد في أي وقت قريب، حيث أن أصغرهم القاضي نيل غورسيش، يبلغ من العمر 53 سنة، وأكبرهم القاضي كلارنس توماس ويبلغ 72 سنة.
وبعد مطالبة الرئيس ترمب بتعيين امرأة قاضية لتخلف غينسبورغ في المحكمة العليا، على الرغم من معارضة المرشح الديمقراطي جو بايدن، لاحت بوادر معركة حامية سوف تشهدها أروقة مجلس الشيوخ الأميركي خلال الأيام والأسابيع المقبلة، وتشعلها الحملات الانتخابية المتصاعدة على معايير أخلاقية وسياسية ومصلحية، بل إن الديمقراطيين يلمحون إلى رغبتهم في إحداث تغيير في عدد قضاة المحكمة العليا حتى لا تظل رهينة سيطرة اليمين، بخاصة أن الدستور الأميركي لم يحدد عدداً معيناً للمحكمة العليا، الذي ظل على عدده الحالي منذ ستينيات القرن التاسع عشر. ولكن كي يرى هذا التغيير النور فإنه سيولد على الأرجح أزمة كبيرة، بخاصة مع غياب شهية عامة لذلك حتى الآن.
وتعد المحكمة العليا أعلى سلطة قضائية في الولايات المتحدة، ولها سلطة الفصل في الاستئناف في جميع القضايا المرفوعة في محاكم فيدرالية، أو تلك المرفوعة في محاكم الولايات. كما تفصل في نزاعات تشريعية ودستورية وتلعب دوراً في حسم النزاعات المتعلقة بنتائج الانتخابات الرئاسية والتشريعية، لهذا فإن دورها حاسم في كثير من القضايا وفي الحياة السياسية للأميركيين.
هل تحسم المحكمة العليا الانتخابات؟
أحد أسباب النزاع ومصادر القلق هو احتمال أن تُرفع نتائج الانتخابات الرئاسية للعام 2020، وربما أيضاً نتائج بعض منافسات مجلس الشيوخ، إلى المحكمة العليا لحسم نتيجة التصويت في ولايات محددة تتقارب فيها النتائج، كما حدث عام 2000 عندما حكمت المحكمة لصالح جورج دبليو بوش ضد المرشح الديمقراطي آل جور، ما أدى إلى إنهاء الجدل حول إعادة فرز الأصوات في ولاية فلوريدا.
ويأخذ الجمهوريون احتمال إجراء انتخابات متنازع عليها على محمل الجد، بخاصة أن عديداً من الديمقراطيين أعلنوا بوضوح أنهم سوف يلجأون إلى القضاء في حال تقارب الأصوات، ما يعني أن الأمر برمته سيصل إلى المحكمة العليا في نهاية المطاف.
ولأن وفاة القاضية غينسبورغ أخلت مقعداً من المقاعد التسعة في المحكمة العليا، فإن السيناريو الأسوأ، هو أن تصل المحكمة إلى طريق مسدودة بتعادل الأصوات (4 مقابل 4) بشأن نتيجة الانتخابات المتنازع عليها، مع افتراض أن رئيس المحكمة جون روبرتس سيصوت إلى جانب الليبراليين، كما فعل أكثر من مرة خلال الأشهر الماضية. ولهذا فإن سعي الجمهوريين إلى تعيين قاضية محافظة جديدة، سيجعلهم في وضع أفضل داخل أهم سلطة قضائية في البلاد.
تحول بعيد المدى
يخشى الديمقراطيون من أن تسمح وفاة القاضية الليبرالية للقضاة المحافظين بالسيطرة الكاملة على المحكمة العليا لمدة عقد كامل أو أكثر، مما يفرض تحولاً تاريخياً نحو اليمين مع تداعيات هائلة على الفقه القانوني الأميركي والمجتمع ككل، فقد تستخدم هذه المحكمة، ذات الميول المحافظة، أغلبيتها لإلغاء حق المرأة في الإجهاض الذي يدعمه الديمقراطيون وتعارضه الجماعات المحافظة. وقد تلغي المحكمة العليا برنامج أوباماكير للرعاية الصحية لمحدودي الدخل الذي يستفيد منه الملايين، بما في ذلك أولئك الذين يعانون من حالات صحية معروفة مسبقاً.
ومن المتوقع كذلك أن تكون المحكمة العليا أكثر تحفظاً تجاه قضايا حمل السلاح في الولايات المتحدة، فتلغي لوائح مراقبة الأسلحة الحالية، بما في ذلك قوانين بعض الولايات التي تحد من حمل الأسلحة النارية في الأماكن العامة، أو تقيد بيع البنادق نصف الآلية.
تأثيرات تشريعية
لا يخفي المشرعون الديمقراطيون خشيتهم من أن وجود أغلبية محافظة حاسمة في المحكمة العليا قد يكون عائقاً أمام تشريعات ليبرالية يقرها الكونغرس في المستقبل.
وإذا حقق الديمقراطيون انتصارات كبيرة في انتخابات نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، وتمكنوا من السيطرة على مجلس الشيوخ، فمن المرجح أن يمضوا قدماً في الكونغرس بمقترحات لتوسيع البرامج الاجتماعية، وفرض ضرائب على الشركات والأثرياء، لكن ذلك سيواجه تحديات قانونية من اليمين.
وعلى الرغم من أن رئيس المحكمة جون روبرتس محسوب على اليمين المحافظ، إلا أنه انضم إلى غينسبورغ والليبراليين الآخرين في المحكمة لإلغاء قانون الإجهاض في ولاية لويزيانا. كما صوت لمنع ترمب من إلغاء برنامج العمل المؤجل للمهاجرين الصغار المعروف باسم "الحالمون". كما دعم حقوق الموظفين المثليين، وهو بذلك أطلق رسالة مفادها أنه يريد توجيه المحكمة في مسار وسطي، وتجنب الانعطاف الحاد إلى اليمين.
سباق مع الزمن
بعيداً عن الضجة التي يثيرها الديمقراطيون اعتراضاً على ترشيح خليفة لغينسبورغ، بدأ بالفعل عدد من المشرعين الجمهوريين يطرحون القضية بشكل علني وسري للتصويت قبل الثالث من نوفمبر، وهو موعد الانتخابات الرئاسية. بينما برز اسم آمي كوني باريت، قاضية محكمة الاستئناف الفيدرالية، على رأس قائمة اختيارات ترمب. لكن ذلك سيعتمد على مدى ارتياح الأعضاء الجمهوريين في مجلس الشيوخ لسجلها وخبرتها.
وتُعد الإجراءات الرسمية المطلوبة للانتهاء من اعتماد عضو جديد في المحكمة العليا عملية صعبة جداً وتقتضي سرعة بالغة. إذ إن القاضي الراحل في المحكمة العليا جون بول ستيفنز، اعتُمِد ترشيحه في غضون 19 يوماً فقط. كما أن غينسبورغ نفسها والقاضية السابقة ساندرا داي أوكونور اعتُمد ترشيحهما في مجلس الشيوخ خلال أقل من 45 يوماً. وهي المدة الزمنية نفسها المتبقية على موعد الانتخابات حالياً.
مُعارضات جمهورية
بينما يفضل بعض الجمهوريين في مجلس الشيوخ اتخاذ إجراء سريع بشأن المرشح، برزت بعض التحفظات التي قد تثير انقساماً بين صفوف الجمهوريين، حيث صرحت سوزان كولينز عضو مجلس الشيوخ عن الحزب الجمهوري، التي كان تصويتها محورياً في اعتماد قاضي المحكمة العليا الأخير بريت كافانو الذي رشحه ترمب، أن التصويت على اعتماد بديل يجب أن ينتظر إلى ما بعد يوم الانتخابات، وإنصافاً للشعب الأميركي فإن الرئيس الذي سينتخبه الشعب يوم 3 نوفمبر يجب أن يترك له ترشيح القاضي الجديد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولعل سبب تردد كولينز في مشاركة الجمهوريين، يعود إلى المأزق الذي تتعرض له الآن، حيث تخوض سباقاً حامياً على مقعدها في مجلس الشيوخ، وتتقدم عليها في استطلاعات الرأي منافستها الديمقراطية سارة جديون في ولاية ماين. وهي ولاية فازت بها هيلاري كلينتون عام 2016 وذات ميول ديمقراطية، لهذا فإنها في امتحان صعب قد يكلفها مقعدها في المجلس سواء أغضبت الناخبين الجمهوريين أو الناخبين ذوي الميول الليبرالية في الولاية من خلال دعم أو رفض التصويت على مرشح ترمب الجديد.
وليست كولينز وحدها التي عبرت عن معارضتها التصويت، فقد قالت السيناتور الجمهورية ليزا موركوفسكي عن ولاية ألاسكا، قبل الإعلان عن وفاة غينسبورغ، إنها لن تدعم ملء منصب شاغر في المحكمة العليا قبل الانتخابات الرئاسية مباشرة، أو في جلسة يكون فيها ترمب أشبه ببطة عرجاء إذا خسر الانتخابات، مؤكدة أن ذلك سيخلق ازدواجية في المعايير، بعدما أوقف الجمهوريون في مجلس الشيوخ ميريك جارلاند الذي رشحه الرئيس السابق باراك أوباما للمحكمة العليا عام 2016 قبل موعد الانتخابات بثمانية أشهر.
حسابات التصويت
على الرغم من أن كولينز وموركوفسكي، هما الوحيدتان في مجلس الشيوخ اللتان أعلنتا معارضتهما علانية لشغل مقعد غينسبورغ قبل الانتخابات، إلا أن هناك علامات استفهام أخرى حول الطريقة التي قد يصوت بها السناتور ميت رومني، وهو الجمهوري الوحيد الذي صوت لإدانة الرئيس ترمب خلال محاكمة عزله في مجلس الشيوخ. وهو لم يفصح بعد عن موقفه تجاه دعم أو رفض التصويت. كما أن السناتور الجمهوري كوري غاردنر، رفض الكشف عن موقفه من التصويت، حيث يخوض معركة ترشحه لإعادة انتخابه في مجلس الشيوخ في ولاية كولورادو التي فازت بها هيلاري كلينتون عام 2016، بينما تراجعت حظوظه ضد منافسه الديمقراطي في استطلاعات الرأي.
و مع ذلك يبدو الجمهوريون غير قلقين بشكل كبير كونهم يسيطرون حالياً في مجلس الشيوخ على 53 مقعداً من إجمالي 100 مقعد، ويمكنهم تحمل ثلاثة انشقاقات، حيث يستطيع نائب الرئيس مايك بنس، حسب الدستور، أن يصوت لصالح الجمهوريين ويكسر التعادل إذا كانت النتيجة 50-50. كما يطرح بعض الجمهوريين احتمال أن يصوت السناتور الديمقراطي المعتدل جو مانشين عن ولاية ويست فيرجينيا مع الجمهوريين بعدما صوت معهم قبل عامين لصالح اعتماد عضو المحكمة العليا بريت كافانو وسط ضجة واسعة صاحبت اعتماد تعيينه.
معركة فاصلة
يعتقد خبراء استراتيجيون في الحزب الجمهوري مثل برايان دارلنغ، أن خوض معركة جديدة حول مقعد في المحكمة العليا سوف يصب في مصلحة الرئيس ترمب، وربما أيضاً في مصلحة الأعضاء الجمهوريين في مجلسي الشيوخ والنواب، لأن إحراز النصر على الديمقراطيين في صراع مشابه لذلك الذي حدث وقت تعيين القاضي كافانو، من شأنه أن يلهب حماسة الناخبين ويدفعهم إلى الاصطفاف إلى جوار الرئيس ترمب والجمهوريين. أما إذا تراجع ميتش ماكونيل، زعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ وأجل التصويت إلى ما بعد الانتخابات، فسوف يعتبر المحافظون ذلك علامة ضعف.
ويشير هؤلاء إلى اثنين من أعضاء مجلس الشيوخ الديمقراطيين السابقين، وهما كلير ماكاسكيل وجو دونلي، اللذين كانا يتجهان للفوز وإعادة انتخابهما في خريف عام 2018، إلا أن القتال الشرس في مجلس الشيوخ حول تعيين كافانو، تسبب في إشعال صدمة حفزت الناخبين الجمهوريين والمتعاطفين مع الحزب من التيار المحافظ بشكل عام، مما أدى إلى خسارتهما الانتخابات. وهو ما قد يتكرر من جديد خلال الأيام القليلة المتبقية على الانتخابات الرئاسية والتشريعية.