Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

احذروا هذا القارئ العربي والمغاربي أيضاً

تراجع مستوى تعليم اللغات الأجنبية في جامعاتنا ومدارسنا مؤامرة تربوية وسياسية

هناك فارق بين القارئ باللغة العربية والقارئ باللغات الأخرى (رويترز)

القراءة الإبداعية عملية معقدة، ليست بريئة ولا منزهة ولا معلقة في الهواء ولا هي حصيلة الأهواء. فهي فعل مركب تتحكم فيه آليات متقاطعة أيديولوجية ودينية وحضارية وتجارية وتربوية وفنية ولغوية.

القراءة الإبداعية لا يمكنها أن تكون متوازنة وإبداعية في مجتمع عربي ومغاربي غير متوازن، حيث تمنع وتراقب الكتب والمنشورات والصحف، ولا يصل إلى القارئ سوى ما يرضي السلطان أو الزعيم، وما يرضى عنه هو والتابعون له. لن تكون القراءة متعافية في مجتمع يقمع الاختلاط ويحاربه باسم المحافظة على الأخلاق التي هي أخلاقهم. لا يختلف اثنان في أن المجتمع الذي لا تحضر فيه المرأة حضوراً اجتماعياً واقتصادياً وثقافياً يفرز حال توحش شهواني حيواني مرضي خطر، إذ تتميز المجتمعات التي لا اختلاط فيها بطغيان الهوس الجنسي على الخيال العام والفردي. بالتالي، يفسر كل وجود للمرأة في الفضاء العام تفسيراً جنسياً، ويختصر جسدها في أعضائها الحميمة وفي معادلة السرير. في وضع كهذا يكون القارئ ضحية الهوس بشكل واع أو غير واع. والقراءة لا يمكنها أن تكون صحية في غياب حضور الفن المرافق للكتاب كالسينما والفن التشكيلي والمسرح والموسيقى الراقية. والقراءة لن تكون سليمة متوازنة في ظل واقع جامعي متردٍ. فجامعاتنا بشكل عام تقودها جيوش من الأساتذة الذين لا يختلفون في خطاباتهم عن "الأئمة" النازلين من القرون الوسطى، الذين أخطأوا زمنهم. والقراءة لا يمكنها أن تكون منتجة ومتفتحة في مجتمع يهيمن فيه الصوت الديني الزائف على الصوت الثقافي والفني المسائل. لقد أصبحت مجتمعاتنا الثقافية موقتة على الديني في اللغة والكلام والملبس والأكل والشرب والرحلة. لقد تحولت الحياة بهذا الحضور الضاغط للديني إلى ما يشبه قاعة انتظار للموت.

وحين يكون القارئ العربي المفترض محاصراً بكل هذا القصف البوليسي والديني والجنسي والأخلاقي الآتي من كل الجهات، مؤسسات وأفراداً، من المسجد والمخفر والجامعة، وهي موجودة في كل مكان تحت تسميات عدة، فإنه لن يكون سوى قارئ على صورة هذا الوضع ومنه وله، حتى وإن كان يعمل على مقاومته في الظاهر.

وأمام تفشي "الوباء" الثقافي لوسائل التواصل الاجتماعي، واختلاط الحابل بالنابل، إذ أصبح كل من هبّ ودبّ يكتب وينقد وينتقد بالطريقة نفسها وعلى الصفحة ذاتها والوقت عينه، إلى جانب أسماء أخرى ذات قيمة وازنة، أمام هذا تعددت خطورة القارئ وأصبح كالأفعى الأسطورية ذات الرؤوس المتعددة.

أمام وضع تكنولوجي ثقافي كهذا يتحوّل القارئ الذي تشكل في وضع اجتماعي وسيكولوجي وسياسي وديني وتربوي مختل، إلى مخبر يتلصص على حياة الكاتب في تفاصيلها الثقافية والاجتماعية وألبوماته، وطريقة لبسه ولحيته وتصفيف شعره ولون قميصه وشربه وأكله وأصدقائه وصديقاته، ويشتغل في الحفر الخبيث في النيات، ويصدر أحكاماً من خلال النيات والتأويلات كي يحرك ضد الكاتب فقهاء السياسة والأمن والدين والأخلاق.

أصبح القارئ العربي والمغاربي فقيهاً يفتي في الحداثة والأدب الروائي، ويستعير من إمام لا يحفظ سوى دعاء الميت والقبور أحكاماً منبرية خطابية هوجاء، ويطلق ناره على نصوص لا يقرؤها بل يتوجس منها، فهو بذلك ملحق بالإمام أو الخطيب أو المفتي. وقد وصل هذا المرض إلى البحث العلمي، إذ نجد كثيراً من الأطروحات الجامعية والنقود الأكاديمية شبيهة بالفتاوى والمقاربات الأيديولوجية الأخلاقية وهي تقرأ، أو هكذا من المفترض، نصوصاً تعرضت للدين أو التدين أو الجنس أو...

أخلاقياً، أصبح القارئ العربي والمغاربي ممثلاً رسمياً لجمعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المنتشرة في المجتمعات كلها تحت مسميات مختلفة لجمعيات خيرية أو دينية. يمشي القارئ ممتشقاً سيفه في النصوص، يحاكمها بحد السيف وضربات السوط، يضرب ذات اليمين وذات الشمال، ويصرخ أن الأخلاق انتهكت، وأن أمة الإسلام باتت على وشك الاندثار والاندحار، لا لشيء إلا لأنه قرأ في رواية ما عن علاقة حب أو علاقة جنسية أو عن المثلية، وكأنه يعيش في جمهورية أفلاطون الإسلامية!

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وبقدر ما يغرق القارئ العربي والمغاربي في مهمة مراقبة الكاتب المبدع المتفتح، ويحاصره على مستويات عدة متأثراً بهذا المحيط المختل الذي عرضنا خصائصه أعلاه، يمارس القراءة بنية الوصول إلى التكفير والتخوين. وتلك غايته التي يرجوها كي يكون وفياً وصورة لهذا المجتمع المختل.   

في ظل هذا الوضع، ترتاح الأنظمة السياسية الديكتاتورية، إذ تجد في تصرفات هذا القارئ من يقوم مقامها في القمع والتخويف والترهيب. وهي تتستر به حين تقمع الكاتب وتمنع الكتاب، وتتستر به حين الفك عن الكاتب.

وأعتقد أن أخطر أنواع الرقابات القامعة هي رقابة القارئ العربي والمغاربي، لأنها رقابة فوضوية، رقابة الغوغاء، ولعل أكبر القمع الممارس ضد حرية الكاتب هو قمع القارئ له، لأنه قمع ارتجالي فوضوي جمعي، قبلي، أسري وعنصري.

أمام هذا، يخاف الكاتب المتحرر من رقابة وجاهلية وتوحش الرقابة الفوضوية التي هي رقابة القارئ صنيع مجتمع متوحش أكثر من رقابة المؤسسات القمعية المنظمة.

لذلك، نلاحظ أن كثيراً من الأنظمة العربية والمغاربية لا تملك قانوناً ثابتاً واضحاً منشوراً ومعلناً لمراقبة المنشورات والكتب أو معارض الفن التشكيلي أو... لأنها تستأنس وتستهدي برأي الغوغاء في إدارة آلة قمع الإبداع والمبدعين، فكلما صرخ الشارع ضد كاتب، تمّ منعه، وكلما شنّت الميلشيات المدربة ككلاب الصيد في وسائل التواصل الاجتماعي هجوماً على كاتب أو كتاب تمّ توقيفه، وكلما خطب فقيه أو إمام ضد كاتب أو منشور تمّ منعه، وتلك هي الخدمة التي يقدمها القارئ العربي والمغاربي الغبي في مجتمع مختل ثقافياً وسياسياً. 

أمام ذلك يتبادل القارئ والأنظمة الديكتاتورية لعبة الأدوار، لمحاصرة الكاتب ومحاصرة التنوير والجمال والحرية.

اللغة فخ الرقابة

تلعب طبيعة اللغة أيضاً دوراً بارزاً في توجيه عملية الرقابة التي يمثلها القارئ. فاللغة هي العامل الذي يحدد درجة خطورة رقابة القارئ على الكاتب وعنفها. والقارئ الرقيب العربي والمغاربي يكون متعصباً وغير متسامح حين يكون متمنطقاً باللغة العربية. والاستثناء يؤكد القاعدة. والوصول إلى مثل هذه الحال من "البولسة" لدى القارئ باللغة العربية، هو نتيجة لوضع سيكو- ثقافي تمليه عليه عوامل كثيرة، أولها المتون التي تأسست عليها وفيها شخصيته في القراءة، منذ المدرسة وحتى الجامعة. فسيطرة الكتاب المحافظ والديني المتزمت والدروشي على القارئ بالعربية حال دارجة بشكل طبيعي جداً في مجتمعنا التربوي والثقافي. والاستثناء لا يقاس عليه وعليها، ومن خلالها تتشكل عين الرقيب عنده، وتلك المراجع الثابتة التي تجاوزها الزمن تشكل جاهزيته للانتحار الدائم، وطريقة للاستقالة من الحياة المعاصرة.

أما القارئ باللغة الأجنبية على نصوص عربية أو مغاربية كتبت بلغة أجنبية كالفرنسية أو الإنجليزية، فهو قارئ متحرر إلى حد ما من فكر التخوين والتكفير. وهذا راجع إلى أنه قارئ تشكّل خياله داخل متون ومراجع إنسانية متعددة الرؤى ومختلفة المشارب، تتحقق فيها الحرية الفردية ويُحْتَفى فيها بالاختلاف والتنوع والتعدد. لذلك، فالقارئ باللغة الأجنبية لا يخيف الكاتب، والاستثناء لا يقاس عليه. وهذا القارئ لا يقدم خدمة للأنظمة الديكتاتورية لأنه يقف عادة إلى جانب الكاتب التنويري.

ولعل سبب تراجع مستوى تعليم اللغات الأجنبية في جامعاتنا ومدارسنا العليا ومدارسنا وثانوياتنا، وهي مؤامرة تربوية وسياسية مخطط لها في العالم العربي وشمال أفريقيا، الغرض منها الإبقاء على مجتمع "القارئ المُخبِر"، مجتمع القراء كتبة التقارير والفتاوى ضد كتاب بعينهم، وضد نصوص جمالية روائية أو سينمائية أو تشكيلية أو موسيقية أو استعراضية. 

اقرأ المزيد

المزيد من آراء