Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هل تستطيع الصين الرد على العقوبات الأميركية بمثلها؟

الدولار والمجلس الاحتياطي الفيدرالي تحولا إلى أداة أمن قومي للولايات المتحدة

يعتبر منتقدو العقوبات أنها تعاني أحياناً من قصور في الرؤية (أ ف ب)

لم تكن العقوبات الدبلوماسية والمالية الأميركية المفروضة على عدد من المسؤولين الصينيين على خلفية انتهاك حقوق الإنسان ضد الأقليات سوى حلقة جديدة من سلسلة عقوبات اعتادتها الولايات المتحدة خلال السنوات الأخيرة كأداة فعالة من أدوات السياسة الخارجية ضد خصومها. فما السبب وراء تصاعد سياسة العقوبات؟ وهل تقتصر على طرف دون آخر؟ ولماذا لا تتساوى مع عقوبات الدول الأخرى والأمم المتحدة من حيث التأثير؟ وإلى أي مدى زمني يمكن لواشنطن أن تمارس هذا الدور من دون ردّ فعل يؤثر في نفوذها الدولي؟

أصبحت العقوبات الاقتصادية الأداة المفضّلة لكثيرين من صانعي السياسات بهدف مواجهة التحديات الجيوسياسية الكبرى مثل الإرهاب والصراعات السياسية والتنافس التجاري، فتفرض حكومات بعض الدول الكبرى وكذلك الهيئات الدولية المتعددة الجنسيات، عقوبات اقتصادية أو دبلوماسية في محاولة لتغيير القرارات الاستراتيجية للدولة المستهدفة أو الجهات الفاعلة غير الحكومية التي تهدّد مصالحها أو تنتهك المعايير الدولية للسلوك.

لماذا العقوبات؟

يعتبر منتقدو العقوبات أنها تعاني أحياناً من قصور في الرؤية، وقليلاً ما تنجح في تغيير سلوك الجهة المستهدفة، لكن المؤيدين يرون أنها أصبحت أكثر فعالية في السنوات الأخيرة ولا تزال أداة أساسية للسياسة الخارجية. فقد كانت العقوبات السمة المميزة للردّ الغربي والأميركي تحديداً على تحديات جيوسياسية عدّة، بما في ذلك البرنامج النووي لكوريا الشمالية وتدخل روسيا في أوكرانيا. وفي السنوات الماضية، وسّعت الولايات المتحدة استخدام العقوبات وتطبيقها وتكثيفها ضد الخصوم في إيران وروسيا وسوريا وفنزويلا، كما تصاعدت بشكل ملحوظ العقوبات الأميركية ضد الصين ومسؤوليها وشركاتها مثل شركة هواوي للاتصالات وكيانات أخرى.

استخدم صنّاع السياسة في الولايات المتحدة هذه الأداة منذ عقود بعيدة، ولعل أبرز مثال عليها الحصار الذي فرضته واشنطن على كوبا عام 1962. فالعقوبات الاقتصادية تُعدُّ جذابة باعتبارها هراوة أكثر حدّة من الكلام وألطف من العمل العسكري، ومناسبة للتأثير في الناس، ليس من خلال توجيه ضربات مؤلمة، ولكن من خلال التهديد بتقييد تدفّق أموالهم.

ومنذ أحداث 11 سبتمبر (أيلول) 2001، حوّلت الولايات المتحدة الدولار إلى أداة رئيسة للأمن القومي للبلاد، حيث فصّلت وزارتَيْ الخزانة والخارجية 14200 عقوبة ضد الأشخاص والكيانات والدول حتى عام 2019، ووقّعت الخزانة الأميركية غرامات على منتهكي برامج العقوبات بلغت قيمتها 5.7 مليار دولار. وخلال السنوات الثلاث الأولى من حكم الرئيس دونالد ترمب، أصدرت الخزانة الأميركية أكثر من 3000 عقوبة منها 1400 عقوبة عام 2018 وحده، وهو أعلى معدّل للعقوبات منذ 20 عاماً وفقاً للبيانات التي تنشرها الوزارة.

ويقدم مجلس الاحتياط الفيدرالي، وهو البنك المركزي في الولايات المتحدة، خدمات مصرفية ومالية لأكثر من 180 بنكاً مركزياً أجنبياً حول العالم، بما يمكّنه من توفير السيولة المالية والنقدية خلال الأزمات مثل أزمة وباء كورونا حالياً، ويجعل الحسابات المصرفية مصدراً يسمح للاستخبارات المالية بمتابعة المنافسين الاستراتيجيين لأميركا.

قدرات الصين محدودة

وفيما تحاول الصين تعزيز قدراتها التجارية والاقتصادية والعسكرية، إلّا أنّ قوّتها في مواجهة الولايات المتحدة باستخدام سلاح العقوبات ذاته لا تزال محدودة، إذ إنّها لا تمتلك المقومات المالية نفسها المتاحة لأميركا، ولا تسيطر على عملة الاحتياط الدولية الدولار وإن كانت تسعى إلى تعظيم معاملاتها المالية والتجارية مع دول العالم بعملات وطنية أخرى.

ولهذا السبب اقتصرت المواجهات التجارية بين بكين وواشنطن على توقيع تعريفات جمركية متبادلة نهاية العام الماضي قبل أن تتوصّلا إلى اتفاق. واقتصرت العقوبات التي فرضتها الصين على الولايات المتحدة في ديسمبر (كانون الأول) الماضي على ثلاث منظمات أميركية معنيّة بحقوق الإنسان، ووقف مراجعة الطلبات الخاصة بزيارات سفن حربية أميركية إلى هونغ كونغ.

وما يسري على الصين، ينطبق كذلك على روسيا وأوروبا وغيرها من القوى الاقتصادية العالمية التي فشلت حتى عبر تعاونها المشترك في بعض الظروف في تطبيق عقوبات اقتصادية مؤثرة ضد الولايات المتحدة. 

ما هي العقوبات الاقتصادية؟

تُعرّف العقوبات الاقتصادية بأنها وقف العلاقات التجارية والمالية لتحقيق أغراض تتعلّق بالسياسة الخارجية والأمنية. وقد تكون العقوبات شاملة، بمعنى أنها تحظّر النشاط التجاري مع دولة بأكملها، مثل الحظر الذي تفرضه الولايات المتحدة على كوبا منذ فترة طويلة، وقد تستهدف الإجراءات كذلك أنشطة تجارية أو اقتصادية محدّدة أو تحظّر المعاملات مع شركات أو مجموعات أو أفراد معينين.

منذ هجمات 11 سبتمبر 2001 في الولايات المتحدة، حدث تحوّل واضح نحو ابتكار ما وُصف بـ"العقوبات الذكية"، التي تهدف إلى تقليل معاناة المدنيين الأبرياء.

وتتّخذ التدابير العقابية مجموعة متنوّعة من الأشكال، بما في ذلك حظر السفر وتجميد الأصول وحظر تصدير الأسلحة وفرض قيود على رأس المال وتخفيض المساعدات الخارجية والقيود التجارية.

متى تُفرض العقوبات؟

تفرض حكومات الدول والهيئات الدولية مثل الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، عقوبات اقتصادية من أجل ردع أو معاقبة أو إحراج الدول أو الكيانات الأخرى التي تعرّض مصالحها للخطر أو تنتهك المعايير والأعراف الدولية أو لمنعها من القيام بسلوك ما.

وقد فُرضت العقوبات في الماضي من أجل تحقيق عدد من أهداف السياسة الخارجية، بما في ذلك محاربة الإرهاب ومكافحة المخدرات وعدم انتشار الأسلحة النووية والمُحرّمة دولياً وتعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان وحلّ النزاعات وأمن المعلومات على شبكة الإنترنت.

وبينما تُعدُّ العقوبات شكلاً من أشكال التدخل، إلّا أنّها تُعتبر بشكل عام أسلوب عمل منخفض التكلفة وقليل المخاطر، كونها تتأرجح بين الدبلوماسية والحرب، إذ ينظر صانعو السياسة إلى هذه الإجراءات بوصفها منهجاً ملائماً للتعاطي والرد على أزمات خارجية لا تكون فيها المصلحة الوطنية للبلاد في وضع حرج أو خطير أو عندما يكون العمل العسكري غير ممكن أو غير مضمون العواقب.

ويُصدر القادة وصُنّاع القرار في بعض الأحيان عقوبات في أثناء تقييمهم لإجراءات عقابية أخرى قد تصل إلى حدّ الحرب، إذ فرض مجلس الأمن الدولي عقوبات شاملة ضد العراق بعد أربعة أيام فقط من غزو صدام حسين للكويت في أغسطس (آب) 1990، بينما لم يفوّض مجلس الأمن باستخدام القوة العسكرية إلّا بعد أشهر عدّة.

آلية العقوبات الأممية

تختلف آلية فرض العقوبات وتنفيذها بحسب الجهة التي تقرّها. ففي الأمم المتحدة، يتولّى مجلس الأمن الردّ على التهديدات العالمية باتّخاذ قرارات قطع العلاقات الاقتصادية مع دول أو جماعات مثل تنظيم "القاعدة" أو حركة "طالبان" أو أي جهات أخرى، فيتعيّن الموافقة على القرارات بغالبية أعضاء المجلس من دون أي استعمال للفيتو من قبل الدول الخمس دائمة العضوية.

ومن بين الأشكال الأكثر شيوعاً للعقوبات الأممية المُلزمة لجميع الدول الأعضاء في المنظمة الدولية، تجميد الأصول ومنع السفر وحظر تصدير الأسلحة.

ولأنّ المنظمة الدولية لا تمتلك وسائل مُستقلّة للتحقّق من تطبيق العقوبات، فإنها تعتمد على الدول الأعضاء التي يفتقر عددٌ كبيرٌ منها إلى المصادر المالية الكافية لذلك، فضلاً عن الرغبة السياسية في مقاضاة غير الملتزمين، ما جعل تطبيق العقوبات يتّسم بالضعف في كثير من الحالات.

وقبل عام 1990، فرض المجلس عقوبات على دولتين فقط هما روديسيا الجنوبية عام 1966 وجنوب أفريقيا عام 1977، لكن منذ نهاية الحرب الباردة، استخدمت الأمم المتحدة العقوبات أكثر من 20 مرة، واستهدفت في الغالب الأطراف المنخرطة في صراع داخلي كما كانت الحال في الصومال وليبيريا ويوغوسلافيا خلال التسعينيات. ولكن على الرغم من هذا التعاون الظاهر داخل أروقة الأمم المتحدة، إلّا أنّ العقوبات كانت في بعض الأحيان تثير الانقسام وفقاً لمصالح القوى العالمية المتنافسة. فعلى سبيل المثال، اعترضت روسيا والصين على عددٍ من قرارات مجلس الأمن المتعلّقة بالصراع في سوريا منذ عام 2011، التي كانت تستهدف فرض عقوبات على نظام الرئيس بشار الأسد.

آلية عقوبات الاتحاد الأوروبي

يفرض الاتحاد الأوروبي المكوّن من 28 دولة عقوبات تُعرف بأنها إجراءات تقييدية ضمن سياسته الخارجية والأمنية المشتركة، ونظراً إلى أنه يفتقر إلى قوة عسكرية مشتركة، فإنّ قادة أوروبيين عدّة يعتبرون العقوبات أقوى أداة للسياسة الخارجية الأوروبية، غير أن سياسة العقوبات يجب أن تحظى بموافقة بالإجماع من الدول الأعضاء في مجلس الاتحاد الأوروبي.

وفرض الاتحاد منذ إنشائه عام 1992 عقوبات أكثر من 30 مرة، إلّا أنّ الشاملة منها التي فرضها على إيران عام 2012، والتي رفعها لاحقاً عام 2015 بسبب الاتفاقية النووية، شكّلت نقطة تحوّل بالنسبة إلى الاتحاد، الذي كان يقتصر في عقوباته على أفراد أو شركات محدّدة.

آلية العقوبات الأميركية

تستخدم الولايات المتحدة العقوبات الاقتصادية والمالية أكثر من أي دولة أخرى حول العالم، حيث تصدُر العقوبات إما من الكونغرس وهو السلطة التشريعية، أو من السلطة التنفيذية (الإدارة الأميركية). وعادة ما يستهلّ الرؤساء الأميركيون هذه العملية بأمر تنفيذي يعلن خلاله الرئيس حالة الطوارئ الوطنية ردّاً على تهديد أجنبي طارئ، مثل اتّخاذ روسيا إجراءات في أوكرانيا تهدّد المصالح الحيوية الأميركية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ويمنح قانون الصلاحيات الاقتصادية الدولية الطارئة في الولايات المتحدة، الرئيس الأميركي سُلطة تنظيم التجارة أو تعديل العقوبات في ما يتعلّق بتهديد ما لمدة عام واحد، ما لم يمدّده الرئيس أو يقرّر الكونغرس إلغاءه.

وبالمثل، فإنّ من حق الكونغرس تمرير تشريع يفرض عقوبات جديدة أو تعديل العقوبات القائمة، وهو ما فعله في كثير من الحالات، لكن في بعض الأحيان تتصادم السلطتان التنفيذية والتشريعية حول هذه السياسة.

ويدير مكتب مراقبة الأصول الأجنبية "أوفاك" التابع لوزارة الخزانة أكثر من 20 برنامجاً للعقوبات الأميركية الحالية، وقد تلعب وزارات أخرى مثل وزارة الخارجية والتجارة والأمن الداخلي والعدل أيضاً أدواراً أساسية في مجال العقوبات، إذ يمكن لوزير الخارجية أن يحدّد منظمة إرهابية أجنبية أو يصف دولة بأنها "دولة راعية للإرهاب"، ومن ثم تخضع للعقوبات، كما يتم التعامل مع حظر السفر من قبل وزارة الخارجية.

وخلال العامين الماضيين، فرضت الولايات المتحدة عقوبات شاملة على كوبا وكوريا الشمالية وإيران والسودان وسوريا، إضافةً إلى أكثر من 12 برنامجاً آخر يستهدف الأفراد والكيانات المرتبطة بأزمات سياسية معينة أو أنواع محدّدة من السلوك الإجرامي المشتبه فيه مثل الإتجار بالمخدرات. ويضيف مكتب مراقبة الأصول الأجنبية بشكل مستمر ويحذف من قائمته السوداء التي تضمّ أكثر من ستة آلاف من الأفراد والشركات والمجموعات.

خطورة عقوبات واشنطن

يقول خبراء المال والاقتصاد إن العقوبات الأميركية أعادت تشكيل البيئة التنظيمية المالية بشكل أساسي حول العالم، ما زاد بشكل كبير المخاطر على البنوك والمؤسسات الأخرى المشاركة في نشاط مشبوه، حتى لو كان من دون قصد. كما أن مركزية الدولار كعملة احتياط أساسية في النظام المالي العالمي، ومركزية نيويورك حيث مجلس الاحتياط الفيدرالي (البنك المركزي الأميركي)، جعلتا العقوبات الأميركية مؤثرة جداً في المستوى العالمي.

وتتمثّل خطورة عدم الانصياع للعقوبات الأميركية في التداعيات الناتجة منها، مثل غرامات باهظة وخسارة الأعمال التجارية والضرر الناجم عن السمعة. فعلى سبيل المثال، كانت السلطات الفيدرالية وسلطات الولايات صارمة في مقاضاة 15 من البنوك المخالفة للعقوبات خلال السنوات الأخيرة، وانتهت بغرامات بمليارات الدولارات منذ عام 2009.

ويُعدُّ بنك "بي إن بي باريبا"، وهو أكبر بنك فرنسي، مثالاً حيّاً على حجم الخسارة التي يمكن أن تصيب المؤسسات المالية الدولية جراء مخالفتها العقوبات الأميركية. ففي عام 2014 اعترف البنك بذنبه، إذ أجرى معاملات بمليارات الدولارات مع مؤسسات وأشخاص في إيران وكوبا والسودان على القائمة السوداء لوزارة الخزانة الأميركية. ونتيجة لذلك، تحمّل البنك دفع غرامة قدرها 9 مليارات دولار وهي أكبر عقوبة من نوعها في التاريخ، كما فقد أحقيته في تحويل العملات الأجنبية إلى دولارات لأنواع معينة من المعاملات لمدة عام واحد.

تأثير العقوبات الثانوية

تمنع العقوبات شركات ومؤسسات ومواطني دولة أو منطقة ما من التعامل تجارياً مع كيان مدرج في القائمة السوداء، لكن العقوبات الثانوية، تتجاوز هذه الحدود الإقليمية، وهي مصمّمة لتقييد النشاط الاقتصادي من أطراف ثالثة للحكومات أو الشركات أو مواطني الدول الأخرى. ولهذا، تعتبر حكومات عدّة، العقوبات الثانوية بمثابة انتهاك لسيادتها والقانون الدولي.

وتسبّب توسيع نطاق العقوبات الأميركية من خلال الثانوية منها في إثارة غضب بعض الحلفاء المقرّبين للولايات المتحدة، حيث انتقدت القيادة الفرنسية مقاضاة أميركا "بنك بي إن بي باريبا" ووصفتها بأنها "غير عادلة". وحذّرت من عواقب سلبية على العلاقات الثنائية، وكذلك على العلاقات بين واشنطن والاتحاد الأوروبي. واعتبر وزير المالية الفرنسي أن توسيع العقوبات الأميركية لاستخدام الدولار خارج الحدود الإقليمية، يجب أن يدفع أوروبا إلى تعبئة نفسها من أجل تعزيز استخدام اليورو كعملة للتجارة الدولية.

وبلغت الإحباطات الأوروبية ذروتها بعد انسحاب الولايات المتحدة من اتفاق إيران النووي وتعهّدها بإعادة فرض عقوبات خارج الحدود الإقليمية على الشركات الأوروبية التي تتعامل مع طهران. وردّاً على ذلك، أعلن الاتحاد الأوروبي إنشاء آلية خاصة تسمح نظرياً للشركات الأوروبية التعامل مع الإيرانيين والتحايل على نظام العقوبات الأميركية. لكن هذا الحلّ البديل ظلّ مجرد إشارة دبلوماسية إلى مدى الحنق الأوروبي من دون أن يكون للآلية الأوروبية وجود حقيقي على أرض الواقع.

شروط نجاح العقوبات

يعتبر عددٌ من الباحثين أن العقوبات يمكن أن تكون ناجحة جزئياً، وأنه ينبغي أن تبقى ضمن أدوات صانعي السياسة الخارجية مع مراعاة اعتبارات عدّة لكي تحقّق النجاح المنشود منها، وأن ظروف وديناميات كل حالة تختلف عن الأخرى، ولهذا قد تحقّق العقوبات هدفها في مكان لكنها تفشل في مكان آخر استناداً إلى عوامل ومتغيرات كثيرة. كما أن برامج العقوبات ذات الأهداف المحدودة تكون أكثر نجاحاً من البرامج ذات الطموحات السياسية الكبيرة، فقد تُحقّق العقوبات الأثر الاقتصادي المنشود لكنها لا تغيّر سلوك الجهة المستهدفة، إذ تسبّبت العقوبات التي فرضتها الأمم المتحدة على أفغانستان عامَيْ 2000 و2001 في خسائر فادحة لكنها لم تجبر نظام "طالبان" على تسليم أسامة بن لادن.

وينبغي أيضاً مراعاة أن العقوبات تتطوّر بمرور الزمن. فعلى سبيل المثال، فرضت واشنطن عقوبات على طهران منذ أزمة الرهائن الأميركيين عام 1979، لكن نطاق هذه الإجراءات والمنطق وراءها تغيّرا بشكل كبير.

وقد لا تنجح العقوبات في تحقيق هدفها، لكنها في الوقت ذاته تمثّل فائدة نسبية كالتعبير عن ازدراء تصرّف دولة ما، إذ لم تنجح العقوبات الأميركية الأوروبية ضد روسيا في إنهاء الأزمة في أوكرانيا، لكن مسارات العمل الأخرى بما في ذلك التقاعس عن اتّخاذ موقف حاسم، ربما كانت أسوأ.

ولا ينصح خبراء السياسة الخارجية بالاعتماد فقط على العقوبات الاقتصادية، إذ غالباً ما تؤثر الاستراتيجيات الشاملة التي تجمع بين العقوبات والتهديد بعمل عسكري وتقديم مساعدات مالية ومحفّزات اقتصادية، بشكل أكثر فاعلية. ويشير هؤلاء إلى نجاح الاستراتيجية التي اعتمدتها الولايات المتحدة وحلفاؤها مع ليبيا في أواخر التسعينيات وأوائل العقد الأول من القرن الحالي.

ولكي تنجح العقوبات، ينبغي أن تكون أهدافها قابلة للتحقيق، فقد فشل الحظر الأميركي المفروض على نظام فيدل كاسترو في كوبا على مدى عقود، لأن هدف العقوبات كان تغيير النظام وليس تقديم محفّزات أو فرصة لتغيير طريقة أو مسار الحكم، وهو ما اعتبرته الحكومة الكوبية انتحاراً سياسياً.

وقد تنجح دولة واحدة في تحقيق نجاحات من فرض العقوبات، غير أنه كلّما توفّر الدعم من دول أخرى مؤثرة وزاد عدد الحكومات التي تشارك في فرضها، كلّما كان ذلك أفضل، بخاصة في الحالات التي يكون فيها الهدف يتمتع بعلاقات اقتصادية متنوعة حول العالم. فالعقوبات ضد نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا خلال الثمانينيات، أو عراق صدام حسين في التسعينيات، أو العقوبات الأميركية على إيران وروسيا اليوم، لن تكون بالقوة ذاتها من دون دعم متعدّد الأطراف.

سلاح ذو حدّين

ومع تزايد اعتماد عددٍ من الدول الكبرى، خصوصاً الولايات المتحدة، على سلاح العقوبات، ينبّه مسؤولون سابقون وخبراء إلى ضرورة النظر إلى هذه الإجراءات على أنها سلاح ذو حدين، سلاح يمكن أن يساعد الولايات المتحدة على تحقيق أهدافها السياسة على المدى القصير. ولكن في الوقت ذاته، فإن استخدام هذا السلاح بكثرة وعلى مدى زمني بعيد قد يعرّض النفوذ المالي للولايات المتحدة للخطر على المدى الطويل.

ويحذّر وزير الخزانة الأميركي السابق جاكوب ليو، والمسؤول السابق في وزارة الخارجية ريتشارد نيبو، من أن الولايات المتحدة تعتمد على حقيقة عدم وجود بديل للدولار الأميركي كعملة احتياط يتعامل بها العالم، وأنه لا توجد سوق تصديرية جذابة مثل الولايات المتحدة، ولكن إذا استمرت واشنطن في إجبار الدول الأخرى على اتّباع السياسات التي تعتبرها غير قانونية وغير حكيمة، فمن المرجح خلال فترة تتراوح بين 20 إلى 30 عاماً أن تتحوّل الدول الأخرى عن الاقتصاد والنظام المالي للولايات المتحدة، وحينها ستفقد واشنطن نفوذها المالي ولن يكون للعقوبات تأثيرها الحالي، فضلاً عن خسارتها وضعها الدبلوماسي القيادي حول العالم.

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير