دخلت قوات "حكومة الوفاق" الليبية مدينة ترهونة، شرق طرابلس، من بابها الشمالي، في الوقت الذي كانت فيه آخر القوات التابعة للجيش الوطني الليبي، بقيادة المشير خليفة حفتر، تخرج من بوابتها الجنوبية، متجهةً إلى قاعدة الجفرة العسكرية، متابعةً عملية انسحابها من مناطق سيطرتها في غرب ليبيا نحو مواقعها السابقة، قبل الرابع من أبريل (نيسان) 2019.
خسارة ترهونة تشكل ضربةً موجعةً للجيش الوطني، كونها المدينة المركزية له في المنطقة الغربية، وطالما كانت هدفاً رئيساً ومحورياً لقوات الوفاق، في معركتها مع القوات المسلحة الليبية.
إعلان "حكومة الوفاق" السيطرة على ترهونة، الجمعة 6 أبريل، جاء بعد يوم واحد من بسط سيطرتها الكاملة على مدينة طرابلس، ومحيطها الإداري الذي يعرف في ليبيا باسم "طرابلس الكبرى".
كشف الناطق باسم قوات الوفاق محمد قنونو، في تصريح لـ "اندبندنت عربية"، أن "وقوع مدينة ترهونة بالكامل في قبضة الوفاق، جاء إثر اقتحامها من أربعة محاور بعد تطويقها بالكامل".
وبعد ساعات، أطلقت الوفاق عملية باتجاه مدينة سرت، التي يسيطر عليها الجيش الليبي.
وقال قنونو في بيان صحافي "صدرت التعليمات لقواتنا ببدء الهجوم والتقدم والضرب بقوة كل بؤر المتمردين في سرت، حيث نفذ سلاح الجو خمس ضربات جوية في محيطها".
خوف من انتقام
ولم تكن عملية الانسحاب من ترهونة تراجع العناصر العسكرية فحسب، بل شهدت المدينة نزوحاً جماعياً لأهلها، هرباً من عملية انتقام، عقاباً للأهالي على جعل مدينتهم حاضنة الجيش الكبرى، في الغرب الليبي، ومقر قيادته العسكرية وإمداده اللوجستي.
فقد انتشرت في المدينة تحذيرات من وقوع مجزرة فيها. وتداول نشطاء صوراً على مواقع التواصل، تظهر حرق وسلب منازل، ومحال تجارية يملكها مناصرون للجيش، فروا من المدينة.
وهو ما أشار إليه رئيس مجلس النواب عقيلة صالح، في خطاب وجهه إلى الممثل الخاص للأمم المتحدة بالإنابة في ليبيا ستيفاني ويليامز، شدد فيه على "رفضه العقوبات الجماعية والانتقام التي قد تلجأ إليها قوات الوفاق في ترهونة"، داعياً إلى "العمل طبقاً للقوانين الدولية والمحلية، والتزام حسن معاملة الأسرى، الذين ينطبق عليهم هذا الوصف".
من جانبها، أدانت وزارة الخارجية في الحكومة الليبية المؤقتة، في بيان، "بأشد العبارات ما يحدث من انتهاكات جسيمة في ترهونة، تتمثل في إزهاق الأرواح، ونهب الممتلكات الخاصة، وسلب المرافق والمنشآت العامة، والأعمال الانتقامية، بما في ذلك قتل الجرحى في المستشفيات، وهو انتهاك صارخ، وواضح لأبسط المبادئ الإنسانية والأخلاقية، ومخالفة للقوانين والأعراف الدولية".
خريطة جديدة ومشهد قديم
مع خروج قوات الجيش من مدينة ترهونة، عادت الخريطة العسكرية الليبية إلى شكلها القديم، قبل أكثر من عام، حين توجهت القوات المسلحة الليبية إلى غرب البلاد، للسيطرة عليها وضمها إلى شرق ليبيا وجنوبها.
ولم يبقَ في يد قوات الجيش الوطني الليبي في غرب البلاد، سوى المواقع التي يسيطر عليها بامتداد 250 كيلو متراً، تبدأ من سِرت شرقاً، وتقف عند الحدود الإدارية لمدينة مِصراتة، في اتجاه الغرب.
يأتي ذلك، في الوقت الذي أعلنت فيه مصادر مقربة من "حكومة الوفاق" الليبية، دخولها في مفاوضات مع أعيان سِرت لتسليمها دون قتال، مع تواتر أنباء عن تراجع قوات الجيش التي تسيطر على المدينة، ناحية الشرق.
ونفى آمر إدارة الدعم المعنوي في الجيش الليبي خالد المحجوب، هذه الأنباء جملة وتفصيلاً، قائلاً لـ "اندبندنت عربية"، إن "القوات لم تتراجع خطوة واحدة عن مواقعها السابقة، على طول الخط الساحلي الممتد من سِرت حتى مِصراتة، في انتظار صدور الأوامر لها من القيادة العامة للجيش".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وقال الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة، أحمد المسماري، إن "القوات المسلحة بدأت في إعادة ترتيب صفوفها لتهيئة الأجواء للحوار"، كاشفاً خلال مؤتمر صحافي عقده في بنغازي، "تعرض الجيش لضغوط دولية، دفعته إلى الانسحاب إلى خارج العاصمة طرابلس، لمسافة 60 كيلو متراً، لتهيئة المجال أمام استئناف محادثات وقف إطلاق النار، برعاية الأمم المتحدة" .
وأوضح أن "القوات المسلحة تعرضت للقصف أثناء تراجعها من قبل تركيا، على الرغم من تلقيها ضمانات دولياً بعدم قصفها".
وأفاد المسماري بأن "انسحاب القوات المسلحة من ترهونة، جاء حفاظاً على حياة السكان وتجنيب المدينة ويلات الحرب"، موضحاً أن "ليس من أخلاق القوات المسلحة الاحتماء بالمدن والمدنيين وتعريض الجميع للدمار".
عين على القاهرة
وسط هذه التطورات المتسارعة، على مدار الأيام الماضية، تترقب الأوساط المقربة والموالية للجيش الوطني الليبي، نتائج الزيارة التي يقوم بها قائد الجيش إلى القاهرة، خصوصاً أن رئيس مجلس النواب الليبي عقيلة صالح قد وصل إلى العاصمة المصرية.
ويعتقد الصحافي الليبي مراد الرياني، في حديث لـ "اندبندنت عربية"، أن "زيارة للقيادتين العسكرية والسياسية في الشرق الليبي إلى مصر تصب في اتجاه واحد، وإن كانت متعددة الأهداف. فمن جهة، تهدف إلى التباحث مع المسؤولين المصريين في شأن سبل مواجهة التمدد التركي في ليبيا، الذي لم تخفِ القاهرة قلقها منه؛ ومن جهة ثانية، تسعى الزيارة إلى تقريب وجهات النظر التي تباعدت أخيراً بين رئيس مجلس النواب، والقائد العام للجيش الوطني".
خيبة أمل في موسكو
على الجهة المقابلة، يبدو أن الزيارة التي قام بها وفد من "حكومة الوفاق" إلى موسكو، يقوده النائب الأول لرئيس الحكومة أحمد معيتيق، ووزير الخارجية محمد سيالة، لم تؤت ثمارها، بالنظر إلى البيان الرسمي الروسي الذي صدر تعليقاً على ما دار فيها، وقد انتقد أطرافاً عدة في طرابلس.
وكانت الخارجية الروسية، قد أبدت في بيان قلقها "الشديد بشأن تطور الأحداث غرب ليبيا، خصوصاً مع ارتفاع معدل الجرائم من قبل المليشيات المسلحة، التي تضم في صفوفها مسلحين فارين من سوريا، بينهم أفراد من منظمة جبهة النصرة، التي صنفها مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، منظمةً إرهابية".
وأشارت الخارجية الروسية إلى أن "الجماعات المسلحة قد نفذت أعمالاً انتقامية في الأحياء السكنية، وهرب مسجونون متهمون بارتكاب جرائم فظيعة، وأفراد ينتمون إلى منظمات دولية إرهابية، حسب تصنيف الأمم المتحدة".
وأثار البيان الروسي موجة غضب لدى مقرّبين من "حكومة الوفاق"، إذ طالب عبد الرازق العرادي، القيادي في حزب العدالة والبناء الذراع السياسية لجماعة الإخوان المسلمين الموالية لحكومة الوفاق، نائب رئيسها أحمد معيتيق بتقديم استقالته، على خلفية بيان الخارجية الروسية.
وطالب العرادي "بالتحقيق في زيارة أحمد معيتيق إلى روسيا، وبالاستقالة فوراً بعد هذا التصريح، الذي جاء على خلفية الزيارة".