أدب الرحلة قديم قِدَمَ الإنسان وتجواله وتسجيله مغامراته الغريبة ومشاهداته، منذ رحلات عوليس، في "إلياذة" هوميروس، مرورا برحلات ابن بطّوطة، ووصولا الى أدب الرحلة الحديث والمعاصر، لدى كتّاب عرب، منذ فجر النهضة الأولى، وبروز أدبائها والمتنوّرين فيها، والقاصدين ديار الغرب عن كثب، من أجل الاستبصار في الحضارة الحديثة التي أثرت عنه من خلال العلوم العصرية والأفكار الفلسفية والاجتماعية الحديثة نسبياً، ومدى مساهمتها في نهضة الشرق والشرقيين، ومن هؤلا أحمد فارس الشدياق، ومصطفى لطفي المنفلوطي، وجرجي زيدان، ومصطفى فرّوخ، وأمين الريحاني، وطه حسين، ولويس شيخو، وتوفيق الحكيم، ومحمد المويلحي وغيرهم، ممن كانوا لا يكفّون عن النظر في ما يميّز الشعوب والمجتمعات الغربية وما فيها من مظاهر عمرانية وحضارية، وما بين الشعوب العربية وما تفتقد له من نظيراتها الغربية، واستخلاص العبَر الاجتماعية والسياسية من تلك المقارنات.
وحتّى لا أستعجل الاستخلاص من الكلام على عمل الكاتب والشاعر العراقي فاروق يوسف وعنوانه "شاعر في نيويورك، على خطى فدريكو غارسيا لوركا" والصادر عن دار المتوسط، والحائز جائزة أدب الرحلة، أشير الى نقطة فارقة، أفصلها لاحقا، وهي أنّ الشاعر والناثر فاروق يوسف، شأن الكثير من الأدباء العرب المعاصرين، ممن باتوا يركّزون على نقل انطباعاتهم الأدبية والوجدانية والفكرية حيال المشاهد المنقولة في بلاد الغرب، من دون مقارنتها بما يناظرها في المشرق العربي، أو المغرب، أو أقله، من دون أن يوظّفوا وصفهم وسردهم لغايات المقارنة بين واقعين، وتراثين، ومكانين، وموقفين. وهذا منهج الشاعر فاروق يوسف لدى زيارته مدينة نيويورك، ووقوفه عند أهمّ صروحها الفنية، في مجال الرسم، والنحت، والموسيقى، والعمران، وسلوكها مع الغريب، كل غريب، وغيرها من الظواهر الموصوفة، يوشّحه الشاعر فاروق يوسف بقصائده، في مطلع المشهد وفي ختامه، على أسلوب "الف ليلة وليلة"، وهي قصائد نثرية في الغالب، منه ومقتبسة من سركون بولص وغيره.
أدب الرحلة
إذاً، يقع الكتاب في باب أدب الرحلة التي يكون فيها الرحّالة معنياً بالوصف والسرد، وبالتعليق والتأويل على المشاهد المنقولة. أما اليوميات التي تعدّ نوعاً رديفاً، فتتضّح محطاتها الزمنية متلاحقة، من دون ترتيب سوى بالأشهر، يعيّنها الكاتب عند كل محور أو عنوان من العناوين التسعة التي انطوى عليها الكتاب. وهذه العناوين هي الآتية على التوالي: أناس نيويورك، خفيفة العقل منهاتن، غربة الهندي الأحمر، معبد الروح، أسبوع الجنازة، مرحبا سيد بلدوين، قناع لمهرّج أعمى، أعثر على قاتل، برائحة العسل (بقشرة الذهب).
في التوطئة للكتاب تعريف عام بالكتاب على أنه "يوميات بديعة لشاعر عربي، يتجوّل على خطى شاعر عظيم هو فديريكو غارسيا لوركا، في مدينة عظيمة هي نيويورك". والكاتب الشاعر لا يكذّب خبراً، إذ يبسط وقفاته في معالم نيويورك على مواقيت زمنية معيّنة، وإن لم تكن متلاحقة يوماً بيوم، فإنها تؤرّخ لكلّ وقفة أو محطّة من محطّات نيويورك الفنية والفكرية والعمرانية والإنسانية وحتى الدينية. ولكن قبل المضي في الكلام على منهج الشاعر الانطباعي الشعري في تناول موضوعاته، أود الإشارة الى النص الأول الذي بنى الشاعر يوسف عمله الشعري الوصفي والغنائي الشعري على أساسه، عنيتُ القصائد التي كتبها الشاعر الاسباني فديريكو غارسيا لوركا لمدينة نيويورك، والتي أسماها "قصائد الى نيويورك"، كان قد كتبها في خلال إقامته بالمدينة الأميركية طالباً في جامعة كولومبيا طوال العام (1929-.1930). وربّ قائل إنّ ما أراده الشاعر فاروق يوسف من ربط عمله بالشاعر الاسباني، هو التركيز على المعالم التي سبق للشاعر لوركا أن زارها قبله، وتشديده على النبرة الانطباعية والغنائية الشعرية التي طبعت نظرته اليها، وليس على مجاراة الشاعرالإسباني في سوداويته، وسورياليته، ومرافعته عن الفقراء والأقليات المهمّشة في نيويورك، ولا على الضرب من جديد على وتري الوحدة واليأس اللذين اصطبغت بهما قصائده، من دون أن ننسى ظروف إقامة الشاعر لوركا، في عزّ الأزمة الاقتصادية الكبرى في أميركا.
ولكن من الأكيد أنّ كتاب الشاعر فاروق يوسف هو إضافة جديدة إلى تراث أدب الرحلة، في ما خصّ وصف المدن الكبرى في العالم الحديث، ولا سيّما مدينة نيويورك. وقد تصحّ إضافته الى تراث أدبي عالمي في صوغ صورة مثالية بل أسطورية لمدينة كبرى هي نيويورك. ولئن يترسّم يوسف سبل لوركا، ويزور تلك الأماكن العريقة والأحياء الشهيرة فيها، فإنّه لا يغفل لحظة عن استراتيجيته الفارقة التي تريه في كلّ ملمح أو زاوية، أو بناء، أو سلوك، دليلاً على فرادة نيويورك، ورفعة مقامها، واحتضانها الفرد وإبداعه وجنونه، ورعايتها الغرباء والمشرّدين في الدنيا، ودليلاً على اجتذابها خلاصات الفنون، في الرسم والشعر والرواية، والموسيقى، والمسرح، ودليلاً على عيشها زمناً مضاعفاً لما يحياه المرء في أي مدينة أخرى في العالم، حتى الغربية منها على حدّ معرفة الشاعر الشخصية.
إذاً، يمضي الشاعر السارد والواصف، فاروق يوسف، في تسع محطّات كبرى، هي فصول الكتاب، الى إخراج صور أسطورية ممجّدة لمدينة نيويورك؛ في مطلع الكتاب، يفهم من سياق الفصل أنّ الشاعر يتحدث عن "أناس نيويورك"، فيقول عنهم أنهم بشر أسوياء، وأنهم معذّبون شأن كلّ الناس البسطاء في أرجاء المعمورة، وأنهم في الغالب غرباء أتي بهم من كلّ أقطار الدنيا، ومن أعراقها وألوانها الكثيرة. حتّى يمكن الاستخلاص منه انّ الكاتب أراد أن يسبغ على المدينة صفة الكوزموبوليتية الشاملة من دون سائر المدن.
ولا يلبث أن ينتقل الى وصف "خفيفة العقل منهاتن"، فيشبّه الحيّ بفراشة غرقت في حجرة، بأزقته وأبنيته الشاهقة، وحدائقه المجاورة للنهر الشرقي لجهة بروكلين صباحاً، وتمثال الحرّية صاحب الصيت الذائع، وحيث البورصة، وراشد حسين، وروكفلر سنتر، وإمباير ستيت، ووالت ويتمان الذي كان قد ذكره لوركا في سياق نقده لأميركا، من الوجهة السياسية. ومن ثمّ نرى الشاعر يوسف ينتقل الى التفصيل الشعري المتأنّق، محاولاً إقناع القارىء بأنّ كلّ من أقام في المدينة، وإن يكن غريباً، أو ناجياً من إبادة، كذاك "الهنديّ الأحمر الأخير"، أو بطلاً سلبياً في أحد الأفلام، أو رسّاماً كأرشيل غوركي.
قصائد لوركا
أما الفصل المسمّى "معبد الروح" والذي ضمّنه الشاعر فاروق يوسف حديثاً مع رسّام في نيويورك، فيشكّل بظنّي نقطة افتراق بارزة بينه وبين لوركا. ففي حين سعى الأخير في "قصائد الى نيويورك" الى إيلاء قضية الزنوج والأقليات المضطهدة في المدينة أهمية قصوى وإبداء التعاطف معها، فإنّ الشاعر يوسف يذهب بعيداً في إعلاء مكانة المدينة وأميركا من خلالها؛ إذ تقول عناوين فقرات الفصل الداخلية الآتي: "أميركا تحبّني وأنا أحبّ أميركا" و"امبراطور من غير جسم"، و"مطر في نيويورك"، و"معبد الروح".
ولو شاء القارىء أن يوجز أغلب ما ورد في الفصول الثمانية الباقية، ما دامت المقالة تعجز عن تفصيلها لضيق المجال، لقال إنّه سلّط كاميرته الوصفية، في أيام إقامته المعدودة، حينًا على معالم الفنّ (لوحة بيكاسو، الآنسات الخمس، التي أعجب بها أندريه بريتون)، وحيناً آخر يلتفت إلى ظاهرة الزنوجة، والمشرّدين، ومجزرة لاس فيغاس، وأحياناً يستذكر "سيد بالدوين" أي الشاعر جايمس بلدوين من هارلم السوداء، والمرتبط بنشأة موسيقى البلوز، ويعرّج على الرسم والمسرح، وموسيقى لويس أرمسترونغ، ورواية توني موريسون، ثم ينتقل بعدها، على صهوة لغته الشعرية العالية، وسجلّه اللغوي البليغ والمتين، وقصائده النثرية التي تقيم حدوداً بين الفصل والآخر، والمشهد واللاحق به، الى الكلام على القناع (قناع لمهرّج أعمى) في الحياة النيويوركية المدينية، باعتباره حافظا حدود الفرد من تقلّبات الزمن السريع وشخوصه المتغيّرين على الدوام.
وفيما نعجز عن الإحاطة بكلّ ما أتى على ذكره الشاعر العراقي فاروق يوسف، على الرغم من صفحاته القليلة نسبياً (128صفحة)، لدى إقامته في نيويورك، عن المدينة جاعلاً منها درّة المدن، وتاج العواصم، وقبلة الغرباء والمبدعين، والناجين من المهالك والإبادات، حتّى وإن كان بعضُ الأجداد شركاء في صنعها، والفنّانين، والشعراء، والتائهين وغيرهم، نختم في أنّ وصف هذه المدينة، وكلّ مدينة عريقة، يستحيل "اختزالها برمز من رموزها"، وأنّ هذا الوصف إنما يندرج في باب تمجيد المدينة، وإنجاز عمل أدبي عربي، في شعر نثري، ينتمي الى أدب الرحلة بالعموم، وموضوعه صوَر مدينة أميركية عظمى.