Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الكتب سرقت فان غوخ وكانت عونه في الأزمات

كتاب أميركي يلقي ضوءا على علاقة الرسام الهولندي بالقراءة

فان غوخ كما رسم نفسه بعد قطع أذنه (موقع فان غوخ)

عُرف فنّ فنسنت فان غوخ حتى في المناطق النائية من العالم، غير أنّ حياته الدرامية غالباً ما حجبت ثراء عمله وتعقيده، وجعلت الناس ينعتونه بـ"المجنون الأشهب"، متجنّبين التعامل معه جراء أسلوبه الحادّ اللاذع واقتناعه الدائم بأنه على صواب. أسهمت كذلك قصة قطع أذنه ليرسلها هدية إلى فتاة ليل، مع حادث انتحاره، في ترسيخ  تلك الفكرة الشائهة عنه ورفض الكنيسة الكاثولوكية دفنه في نهاية المطاف.

في معرض الدفاع عن نفسه، كتب فان غوخ في إحدى رسائله: "يضحكني جداً اتهام الناس لي بتصرفات حمقاء وشريرة لم أكن لأتخيّلها، ولكني في الحقيقة مجرد صديق للطبيعة والتعلم، وللناس قبل أي شيء".

وبالفعل، كان ابن الريف الهولندي أبعد ما يكون عن تلك الصورة المبتذلة، وهو الذي تشبّع بحبّ الطبيعة. وعلى الرغم من بوادر تحقّقه في باريس، لم يقوَ على ضجيج المدينة وصخبها، وراح يبحث عن الحياة الوادعة البسيطة في أرياف إنجلترا وفرنسا وبلجيكا، مستعيضاً عن التواصل الاجتماعي الذي بدا فيه أخرقَ تماماً، برصيد هائل من الرسائل، تُعدُّ الأسبق في مساره الفني، وحتى لو لم يكن يقصد نشرها مطلقاً، فقد استحقّت بجدارة أن تُدرج ضمن الأعمال الكبرى في الأدب العالمي.

القارئ النهم

الحقيقة التي لا مراء فيها، هي أن فان غوخ كان قارئاً نهماً وبلغات عدّة. كان حقاً رجلاً لا يستطيع الاستغناء عن الكتب. فعبر حياته القصيرة، التهم مئات الكتب بأربع لغات تمتدّ لقرون من الفن والأدب. كما عكست عاداته في القراءة شخصيته المتنوعة - تاجر الأعمال الفنية، الواعظ، الرسام - وأطلعتنا على رغبته في التعلّم والمناقشة والعثور على طريقته الخاصة لخدمة الإنسانية.

في "كتب فنسنت فان غوخ والكتّاب الذين ألهموه"، الصادر عن دار نشر جامعة شيكاغو في فبراير (شباط) هذا العام، تسكشف ماريلا جوزوني جوانب مهمة في حياة الرجل الذي وصفته بـ"دودة كتب شرهة"، مشيرةً إلى ما قرأه وما كتب عنه وكيف أثر حبه للقراءة في فنه، في دعوة إلى القارئ قبل كل شيء بعبارتها: "هذا هو فنسنت البعيد كل البعد عن الفنان المندفع الذي تم تصويره على نحو متكرّر. دعونا نتجوّل في هذه الكتب كتمرين على محاربة الأساطير".

طريق الحزن

حزيران (يونيو) 1880: "رائع - الآن لم تعد تلك البيئة تحيط بي - ومع ذلك، فثمة شيء يُسمّى الروح، يزعمون أنه لا يموت مطلقاً وأنه يعيش إلى الأبد ويسعى أبداً وأبداً وأبداً. لذلك، بدلاً من الاستسلام إلى مشاعر الحنين إلى الوطن، قلتُ لنفسي، بلد المرء أو موطنه الأصلي في كل مكان. وعوضاً عن أن أفسح المجال لليأس، اتّبعت الطريق الفعال للحزن، ما دام بوسعي الحركة والعمل، أو بعبارة أخرى، لقد فضّلتُ الحزن الذي يأمل ويطمح ويبحث عن المرء اليائس والمخذول. لذا قرأتُ الكتب التي كان علي أن أتعامل معها بجدية، كـ"الكتاب المقدس" و"الثورة الفرنسية "La révolution Française، لجول ميشليه، وفي الشتاء الماضي، قرأتُ شكسبير وقليلاً من فيكتور هوغو وديكنز وبيتشر ستو".

هكذا يعتزل فنسنت العالم ويُغرق نفسه في القراءة بعد أن عمل واعظاً لعمال المناجم سعياً منه لمواساة العالم السفلي ووجد أنه في طريق مسدود. وهناك كتابان حاسمان في فترة ولادته كفنان كما ورد في رسائله: "تاريخ الثورة الفرنسية"، (في 9 مجلدات) للمؤرخ الفرنسي العظيم جول ميشليه، و"كوخ العم توم" لهارييت بيتشر ستو، الرواية التي أسهمت في إثارة الرأي المعادي للعبودية في الولايات المتحدة وخارجها.

نقطة لقاء

ماريلا جوزوني باحثة ومترجمة مستقلة تعيش في بيرغامو. ظلّت تجمع نسخاً من الكتب التي قرأها فان غوخ وأحبها لسنوات عدّة. في كتابها "كتب فنسنت"، تتطرّق جوزوني إلى أوجه القرب بين ميشليه وفان غوخ، فالأول كان يطمح بنهجه الجديد في كتابة التاريخ، إلى منح الناس القوة وموضعتهم بحسم في مركز ثوري فعال. بينما الأخير، وضع بفرشاته وجوه الناس في مركز ثورته في رسم البورتريه. أما بيتشر ستو، فقد وصفها ميشليه نفسه بأنها "المرأة التي كتبت أعظم نجاح في ذلك الوقت، وتُرجمت إلى كل اللغات وقُرئت في جميع أنحاء العالم، بعد أن أصبحت إنجيل الحرية للعرق". ما هي المواضيع المشتركة؟ الكفاح من أجل الحرية والاستقلال؛ الأهمية المعنوية للأدب؛ محنة الفقراء والمحرومين. كان كلا الكتابين بمثابة إنجيلين حديثين لفان جغوخ في لحظة من الشكّ الكبير، عندما رفض "النظام الديني القائم".

"خذ عندك ميشليه وبيتشر ستو، إنهما لا يقولان إنّ الإنجيل لم يعد صالحاً، لكنهما يساعداننا على فهم مدى قابليته للتطبيق في هذا اليوم وهذا العصر، في حياتنا هذه، بالنسبة إليك، على سبيل المثال، وبالنسبة لي…".

الفن معركة

مارس (آذار) 1882: "إسمع يا  ثيو، أي رجل هذا كان ميليه! لقد ألهمني عملاً كبيراً حين قرأت "الدخن" الذي استعرته من دي بوك. إنه يشغلني جداً حتى إني أستيقظ في الليل وأشعل المصباح وأستأنف القراءة. (…) إليك بعض الكلمات التي أدهشتني وأثارتني عند جان فرانسوا ميليه: الفن معركة - عليك أن تفني حياتك كلها في الفن".

عاش فان غوخ في لاهاي تحت تأثير كلمات جان فرانسوا ميليه، كما ورد في السيرة التي كتبها الناقد والمؤرخ للفن الفرنسي ألفريد سينسيير.

 تحتل رواية "الصديق الوسيم" للكاتب والروائي الفرنسي غي دي موباسان، مركز الصدارة في حياة فان غوخ، في أكتوبر (تشرين الأول) 1887 كتب: "بوسعي أن أحسب سنوات عدّة في حياتي فقدتُ فيها تماماً كل رغبة في الضحك، وتخلّيتُ عن نفسي، سواء ما إذا كان هذا خطئي أو لا، فأنا بحاجة قبل كل شيء إلى مجرد الحصول على ضحكة حقيقية. لقد وجدتُ ذلك في غي دي موباسان... ".

كما كتب فان غوخ إلى ويليمين من باريس، مقترحاً على أخته "الصغيرة" في ما يخصّ القراءة، بعض أبرز كتّاب الطبيعة الفرنسيين مثل إميل زولا وإدمون دو غونكور وغي دو موباسان الذين جمعهم في لوحته "أكوام من الروايات الفرنسية Piles of French Novels". أما "الصديق الوسيم" لموباسان، فهو لقب بطل الرواية، الذي يحظى بشعبية كبيرة بين النساء الجميلات في باريس، ويستخدم نجاحه في تسلّق السلم الاجتماعي. هنا يكتب فان غوخ من مدينة آرل، لشقيقه ثيو مازحاً: "أنا لا أكتفي من "الصديق الوسيم" لأجل ذلك"، مشيراً إلى كفاحه لإقناع نساء بروفانس بالجلوس أمامه.

في يونيو(خزيران) 1888: "لقد قرأتُ للتو "مدام كريزانتيم" (السيدة أقحوانة) لبيار لوتي. إنها تقدم ملاحظات مثيرة للاهتمام عن اليابان..."، يكتب فينسنت من بروفانس إلى إميل برنار، صديقه الذي تركه في باريس، حيث كانت موجة من الهوس الياباني تجتاح الأوساط الفنية. وتدور أحداث قصة لوتي الرومانسية الدرامية (التي ألهمت بوتشيني بكتابة أوبرا "مدام فراشة" Madama Butterfly) في ناغازاكي وتروي قصة مسؤول فرنسي يتزوج من امرأة يابانية. بالنسبة إلى فان غوخ، كانت مدينة بروفانس "يابانه" الخاص وألهمته "مدام كريزانتيم" بعمق - على المرء فقط أن ينظر إلى أكثر صوره الذاتية اللافتة للنظر، الصورة الذاتية لبول غوغان (1888)، إذ تأخذ عيون الفنان الشكل اللوزي، ويرسم نفسه مثل راهب ياباني، "عابد بسيط لبوذا الخالد".

ديكنز في اللحظات الحالكة

في أحلك لحظات حياته، كان فان غوخ يجد عزاءه في تشارلز ديكنز، مؤلفه البريطاني المفضل، "أحد أولئك الذين كانت شخصياتهم بمثابة إحياء للأدب...". في ربيع عام 1889، يعود إلى كتابيه اللّذين يقدمان له مشاعر إنسانية إيجابية، وهما ترنيمة عيد الميلاد لديكنز ورواية بيتشر ستو. هذان الصديقان القديمان، يضافر فان غوخ ملامح أعمالهما في إحدى لوحاته.

أبريل (نيسان) 1889: "في هذه الأيام القليلة الماضية، كنتُ أقرأ رواية لديكنز عنوانها "حكايات عيد الميلاد Contes de Noël"، ثمة أشياء عميقة جداً في هذه الرواية تحتّم على المرء إعادة قراءتها مراراً...".

لقد كُتب الكثير عن التطوّر الفني المذهل لفان غوخ، على مدى عشر سنوات فقط. ولكن في شغفه بالكتب، يكمن جزء من الطاقة والتوتّر الخلاق المتدفّقَيْن من خلال أعماله. الأصدقاء المخلصون ومصادر الإلهام والعزاء، والملاذ الآمن في البحار الهائجة - بالنسبة إليه كانت الكتب كل هذا وأكثر. إنه درس عظيم لنا أيضاً، لنستجلب الفرح في هذه الأوقات العصيبة.

المزيد من ثقافة