خلال زيارته قبل بضعة أيام خط إنتاج أقنعة واقية في مدينة فينيكس بولاية أريزونا الأميركية، وصف الرئيس دونالد ترمب وباء كورونا بأنه أسوأ اعتداء على الولايات المتحدة، معتبراً إياه أسوأ من الهجوم على بيرل هاربر، وبرجي مركز التجارة العالمي ومضيفاً: "لم يسبق أن تعرضنا لاعتداء مماثل، غير أنه ما كان يجب أن يحصل، كان يمكن إيقافه في مكان نشأته، في الصين، كان يجب إيقافه في مصدره الرئيسي، لكن ذلك لم يحدث".
والناظر إلى كلمات ترمب ولفظة "اعتداء" بنوع خاص، يخلص إلى أن الولايات المتحدة قد تكون في حالة حرب ودفاع عن النفس، لكنها حرب من نوع آخر، إنها حرب الاستخبارات، وعالم الأحصنة الطروادية والتي هدفها الرئيس اختراق لوجستيات الأعداء، لاسيما إذا كان لهولاء باع طويل في سرقة أسرار علمية وعسكرية وهذه هي فحوى قصتنا هذه المرة.
حصان طروادة نظرة على الماضي
حين استعصت طروادة على اليونانيين قبل أكثر من ألفي عام، تفتق ذهن البحار اليوناني المبدع المدعو "إيبوس"، عن صناعة حصان خشبي مجوف من الداخل، بهدف استخدامه في دخول واحتلال مدينة طروادة.
وضع الحصان حداً للحرب التي دامت عشر سنوات، وكانت فكرة هذا البناء العظيم تقوم على إخفاء مجموعة من المحاربين داخله، وقد اعتقد أهل طروادة بأن هذا الحصان هو هدية من الإله، فأدخلوه إلى وسط المدينة ليخرج المحاربون منه ليلاً، ويفتحوا أبواب المدينة لبقية المحاربين لتكون نهاية طروادة.
ومع التقدم التكنولوجي في العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية بنوع خاص، أضحى حصان طروادة، شفرات إلكترونية أو ذبذبات سيبرانية، يتم تحميلها مع برامج كمبيوترية وإنترنتية عالية الشعبوية، تقوم بالكثير من المهام الخفية، والعمل بذلك على إضعاف العدو ـ الضحية، واختراق أنظمته وسرقة بياناته.
هل كان ظهور فيروس كورونا دافعاً رئيساً لاستدعاء آلهة الحرب من زمن الإغريق إلى حاضرات أيامنا؟
من الواضح أن العالم دخل بالفعل في عمق صراع استخباراتي معلوماتي شرس للغاية، لاسيما في ضوء الاتهامات التي توفرها واشنطن لبكين، حول تسببها في كارثه العالم، الأمر الذي استدعى إيقاظ أجهزة استخباراتية غربية، لم يكن العالم ربما قد استمع إليها من قبل.
"العيون الخمس" آذان الكون الكبرى
منذ بضعة أيام خرجت علينا صحيفة "ساترداي تليغراف" الأوسترالية، بأخبار قاطعة تحمل الصين مسؤولية كارثة كورونا، ومرد الاتهام هنا ملف يقع في (15) صفحة صدر عن أحد أهم الأجهزة الاإستخبارية الدولية، استخبارات "العيون الخمس"، والذي أشار إلى أن الصين قد عمدت وبنية كاملة إلى إخفاء أو تدمير أدلة عن جائحة كورونا، وأن ما جرى يعد تكتماً مقصوداً من بكين تجاه تفشي الفيروس، الأمر الذي يرقى إلى الاعتداء المباشر، والحرب الموجهة بيولوجياً تجاه أوروبا وأميركا وبخاصة بعد انعدام أي مستوى من الشفافية، من قبل الحكومة الشمولية في الصين.
لم يكن الاتهام في واقع الحال هو المثير كثيراً للقراء، وللقراءة عينها إنما كان حديث ظهور "تحالف العيون الخمس" في هذا التوقيت، ذلك النظام الاستخباراتي المغرق في السرية هو السبب، إذ يكاد حتى المتخصصون، لا يستمعون إلى أصداء أعماله إلا نادراً جداً، وربما المرة الأولى، التي عرف فيها الناس نذراً يسيراً من أعماله، كانت في العام 2003 ومع الغزو الأميركي للعراق.
أفضل من يشرح قصة "العيون الخمس" المؤلف النيوزيلندي الجنسية "نيكي هاجر"، عبر كتابه الشهير "الآذان المترصدة كيف يتجسسون عليك"، وفيه أنه في أواخر الأربعينيات من القرن المنصرم، وقعت الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا إحدى أهم الاتفاقيات الدولية التي أبرمت طوال الخمسين عاماً التي تلت الحرب العالمية الثانية، هذه الاتفاقية هي اتفاقية "يوكوزا" والتي تعادل اتفاقية "بريتون وودز" التي عقدت عام 1944 لتشكل ملامح التجارة الدولية، والاقتصاد العالمي طوال الحقبة من 1945 وحتى يومنا هذا.
كانت إتفاقية "يوكوزا" منطلقاً لتنظيم أنشطة استخبارات الإشارات الغربية التي عاشت طوال الحقبة التي تلت الحرب الكونية الثانية، هذه الاتفاقية بين الولايات المتحدة المنتصرة وبريطانيا المرهقة بفعل الحرب، وضعت أميركا في موقع المهيمن.
أدت الاتفاقية إلى تأسيس تحالف بين أميركا وبريطانيا وكندا وأستراليا ونيوزيلندا، وقام هذا التحالف بالتقاط وتحليل اتصالات الراديو الدولية بشكل سري، وتطور ليصبح قوة دائمة متمثلة في نظام تجسس إلكتروني عالمي، باتت تعتبره الولايات المتحدة وبريطانيا سبباً رئيساً في انتصاراتهما بعد الحرب العالمية الثانية.
وفي تسعينيات القرن العشرين، حلت أنشطة التجسس على الأقمار الصناعية ومنظومة "إيشلون" ذات القدرات الهائلة محل ضباط الاتصالات الذين كانوا يستعينون بطرق بدائية كسماعات الآذان للتنصت على اتصالات الراديو، وبات حلف "العيون الخمس" قادراً على التقاط الشاردة والواردة في الفضاء الكوني.
ولأن نيوزيلندا، تدور في فلك الكومنولث، وبالقرب جغرافياً من أوستراليا، لذا فإنها الأقدر والأقرب للصين، لمراقبة ما يجري هناك، ومعرفة ماحدث على وجه الدقة بين الصينيين وكيف انتشر كورونا، وعبر أي مسار تمضي.
السؤال الجوهري: هل كل ماعرفته "العيون الخمس" تم الإعلان عنه؟
هجمات الهاكرز وأدوية كورونا
حكماً ليس كل ما يعرف يقال في عالم الأمن والجاسوسية، وأزمنة الاستخبارات السيبرانية، وحتى نظام "العيون الخمس" ذاته تبقى المعلومات عنه شحيحة للغاية، إلا أن أعماله تتجلى في تصريحات الأجهزة الأميركية الأمنية الشهيرة وفي المقدمة جهاز المباحث الأتحادية FBI.
قبل نحو أسبوعين نظم معهد "أسبن الأميركي" حلقة نقاشية على الشبكة العنكبوتية، تحدثت فيها "توينا أوجورتيز" نائبة مساعد مدير مكتب التحقيقات الأميركي الشهير، عما يجري من محاولات في الأشهر الثلاثة الماضية، بهدف اختراق الشركات التي تجري أبحاثاً على علاجات فيروس كورونا.
تصريحات السيدة "أوجورتيز" أشارت إلى أن قراصنة مدعومين من قبل بعض الدول الأجنبية يحاولون اختراق سلسلة من مؤسسات الرعاية الصحية والبحثية.
ليس سراً أن يقال الآن وهنا أن "العيون الخمس"، هذا التحالف الجبار بات يلعب دور حائط الصد، أمام الأحصنة الطروادية الصينية، بخاصة ذات التاريخ الطويل في التجسس وسرقة الأبحاث العلمية الأميركية، أما كيف يحدث ذلك، فهو على النحو التالي وبتبسيط غير مخل:
بموجب منظومة "إيشلون"، قلب "العيون الخمس النابض"، فإن القاموس الخاص بجواسيس محطة معينة لا يحتوي على الكلمات المختارة من قبل وكالة الاستخبارات الأم فحسب، بل يحتوي أيضاً على قائمة الكلمات الموجودة في قواميس الوكالات الاستخباراتية الأربع الأخرى الأميركية، البريطانية، الكندية، الأوسترالية.
على سبيل المثال يحتوي الحاسوب الموجود في محطة "إيهوباي" في نيوزيلندا على قوائم بحث مطابقة لتلك الموجودة بكل من وكالة الأمن القومي الأميركي، وقيادة الاتصالات الحكومية البريطانية، والمؤسسات الأمنية الكندية للاتصالات، ودائرة استخبارات الإشارات في وزارة الدفاع الأوسترالية وبالإضافة إلى القائمة الخاصة بها، وبناء على ذلك تقوم كل محطة بجمع المكالمات الهاتفية ورسائل الفاكسات والتلكسات والبريد الإلكتروني والاتصالات المبرمجة مسبقاً على حواسيبها، وفقاً لرغبات الحلفاء ثم يتم إرسال هذه التقارير الاستخباراتية أوتوماتيكياً.
هل تعرضت الصين في الأشهر القليلة التي واكبت انتشار كورونا إلى أعمال طروادية مكثفة من "العيون الخمس"؟
يبدو أن هناك على الجانب الآخر من الكرة الأرضية نظاماً آخر يمثل خيالاً علمياً للإنسان العادي، كان حاضراً في المشهد الكوروني، وإن تحت غطاء البحث العلمي الدفاعي، إلا أنه وفي كل الأحوال بحث طروادي تجسسي هجومي من الدرجة الأولى.
غير أنه وقبل الولوج في عمق هذه الجزئية ربما يتعين علينا التوقف أمام الصين بنوع خاص، والتساؤل: لماذا ينشط الغرب برمته، وأميركا بلا شك في المقدمة، من أجل المواجهة والمجابهة لمشروعاتها الاختراقية والتي تستلهم روح القرصان الأميركي الكابتن مورجان؟
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الصين والسرقات العلمية والطبية
منذ ثلاثة عقود وديدن الصين هو سرقة آخر الأبحاث الغربية، المدنية والعسكرية على حد سواء، هذا ما يذهب إليه "كريستوفر وراي" مدير مكتب المباحث الاتحادية في الولايات المتحدة الأميركية، وعنده أن الصين تسعى إلى سرقة طريقها نحو السلم الاقتصادي على حساب الابتكارات الغربية. هنا تبدو الصين مستلهمة قصة أميركية بامتياز، إنها قصة القرصان الأميركي الشهير الكابتن مورجان، الرجل الذي اتبع أسلوباً في القرصنة بطريقة مثيرة، إذ لم يكن ليمضي إلى عمق البحار ليغير على السفن في عرض البحر، بل ينتظر السفن الخاصة بالقراصنة العائدة من المحيط محملة بالغنائم ليغير عليها موفراً الجهد والمال.
كانت الصين ولاتزال رائدة في النهج الاجتماعي لسرقة الابتكارات بأي طريقة ممكنة من الشركات والجامعات والمنظمات، وهم يفعلون ذلك من خلال أجهزة الاستخبارات الصينية الطروادية عطفاً على شركات مملوكة للدولة، وشركات خاصة بشكل ظاهري، ومن خلال الباحثين وطلاب الدراسات العليا عن طريق عجهات دة تعمل لصالح الصين.
ومن عينة ذلك أنه في أواخر العام 1999 كانت صحيفة "الواشنطن بوست" تشير إلى اختراق صيني لمعامل لوس آلاموس النووية، حيث كانت تجري هناك تجارب تقنية للحصول على رؤوس حربية نووية متقدمة ومعقدة.
كان هناك أميركي من أصل صيني يدعى "وون هو" يعمل في تلك المعامل وقد طرد من عمله، لاختراقه الإجراءات الأمنية ولاتزال أبعاد القصة مثيرة وغير معروفة.
في يناير (كانون الثاني) الماضي، كان وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، خلال مشاركته في مؤتمر "مبتكري وادي السليكون" يؤكد أن الحزب الشيوعي الصيني، ومن خلال إستراتيجيته التي تسمى "الدمج العسكري المدني" يستفيد من الحريات التي تشجع الابتكار ويقوم بسرقة تكنولوجيا الآخرين، مضيفاً أن جميع تحقيقات مكتب المباحث الاتحادية المفتوحة البالغ عددها 1000 وتتعلق بسرقة الملكية الفكرية مرتبطة بالصين.
هل من جزئية مزعجة للأميركيين بنحو خاص في سرقات الصين؟
المعروف أنه بموجب القانون الصيني، يتعين على الشركات والباحثين الصينيين، تبادل التكنولوجيا مع جيش بلادهم.
تمارس الصين نوعاً من الاختراق الطروادي البشري غير المسبوق في تاريخ الأمم الحديثة، واستخباراتها في واقع الأمر بارعة جداً في زرع عملاء، بعضهم يترك نائماً مدة تصل إلى ربع قرن، حتى تكون أعين الرقابة الأمنية قد أغفلتهم، ثم تصدر لهم تكليفات معينة تصب في صالح المشروع القطبي الصيني.
من الذين درسوا السلوك الصيني الاستخباراتي في هذا الإطار، معهد السياسات الإستراتيجية الأوسترالي، في مدينة كانبيرا، والذي لاحظ توجه عشرات العلماء من جيش التحرير الصيني للسفر إلى أوستراليا وكندا ونيوزيلندا وأميركا وبريطانيا، أي دول تحالف "العيون الخمس"، إضافة إلى دول الاتحاد الأوروبي وقد قاموا بإخفاء هويتهم العسكرية واستطاعوا العمل في مراكز بحثية غربية حساسة، مثل معامل الصواريخ التي تفوق سرعتها سرعة الصوت وتكنولوجيا الملاحة... ومن الملاحظ أنه لا تكاد تمر فترة زمنية قصيرة إلا وتدور تحقيقات أمنية حول عناصر صينية كما جرى في أوائل فبراير (شباط) الماضي مع طالبين صينيين في بوسطن وبعض العلماء من جامعة هارفارد بتهمة التجسس لصالح الصين. فهل كان كورونا داعياً لاستدعاء "درابا" من عالم الجاسوسية العميق؟.
"داربا" عقل الاستخبارات الأميركية المستقبلي
وسط الضجيج الهادر في الداخل الأميركي، والسباق الذي يجري مع عقارب الساعة في محاولة لاستباقها، لاستنقاذ الأميركيين من خطر كورونا المتوحش الذي أسقط من الأميركيين ضحايا أكثر مما خسرته الإمبراطورية الأميركية خلال 12 سنة ويزيد في الحرب مع فييتنام... وخلال الأيام الأولى من مايو (أيار) الجاري، كانت الأخبار الواردة من الولايات المتحدة تشير إلى أن علماء عسكريين أميركيين يطورون نوعاً جديداً من اختبارات الدم لفيروس كورونا، يمكن أن يكتشف العدوى خلال 24 ساعة من الإصابة وقبل أن تبدأ الأعراض، وهذا يعني أن الاختبار يمكنه اكتشاف الشخص ناقل العدوى مبكراً قبل أن يصيب غيره في صمت، وذلك وفقاً لتقرير جريدة "الغارديان" البريطانية.
كان الخبر لافتاً للنظر، لاسيما الحديث عن "علماء عسكريين" الأمر الذي يخلط الأوراق في أذهان البعض، غير أن الحقيقة تنجلي حين يدرك القارئ أن هناك علاقة قوية قائمة بين علماء العديد من الجامعات الأميركية المدنية، وبين جهة تعرف باسم "وكالة مشاريع الأبحاث المتقدمة الدفاعية" DARPA والتي تعتبر عقل البنتاغون وقلب الاستخبارات ومؤشرها والساعي في خدمة مشروعاتها الاستقبالية.
والملاحظ أن رؤية علماء "داربا" جاءت سريعة وقاطعة ومثيرة في نتائجها، لاسيما بعد أن تقدمت وشركاءها للحصول على إذن استخدام طارئ للاختبار من إدارة الغذاء والدواء، ويعدون بأن بإمكانهم البدء في اختبار نصف مليون شخص يومياً في النصف الأخير من مايو الجاري.
السرية الفائقة عند علماء "داربا" تشير إلى أننا أمام كيان طروادي مضاد، ضد الكائنات المجهرية قبل أن تكون ضد الصينيين كذلك، والمسؤول عن الدراسة الخاصة بفيروس كورونا البروفيسور "فان جيسون" يؤكد أن لديهم أدلة تثبت أن الاختبار الذي هم في شأنه يرصد الإنفلونزا والفيروسات الغذائية خلال 24 ساعة من الإصابة، وأنهم يعملون على إثبات ذلك مع كورونا وستظهر النتائج قريباً.
أطر السرية في تعاون "درابا" مع علماء وجامعات أميركا يتضح من خلال رفض كلية طب "ماونت سيناء" وهي إحدى شركاء "داربا" في البحث الثوري المضاد لكورونا، تحديد نوع الاختبار الذي تقوم على تطويره، وإن أشارت إلى أن هذا النوع الفائق الأهمية من الاختبارات لديه القدرة على تشخيص الفيروس التاجي في غضون 24 ساعة من الإصابة... فمن "داربا" هذه؟
"داربا" حصان أميركا الطروادي
تطفو "داربا" على سطح الأحداث بوصفها وكالة علمية دفاعية أميركية، غير أن الواقع يقطع بأنها تشكل ماهو أبعد من ذلك بكثير، إنها وعن حق حصان أميركا الطروادي الذي أنشاه العام 1958 الرئيس "داويت إيزنهاور" بغرض مواجهة صعود الاتحاد السوفياتي إلى الفضاء، ولهذا تفتق ذهن الأميركيين عن إنشاء وكالة حكومية يتم من خلالها التعاون بين الأكاديميين والصناعيين والعلماء والخبراء، ويكفي المرء كي يدرك الأهمية الفائقة لهذه الوكالة الإشارة إلى أن شبكات الحاسوب وأساس الإنترنت الحديث وواجهة التكنولوجيا الأميركية الظاهرة للعيان، بخلاف الأدوات الخفية، ليست إلا جزءاً يسيراً معلناً عنه من بنات أفكار "داربا"، التي تقدم تقاريرها مباشرة إلى الإدارة العليا لوزارة الدفاع.
في كتابها المعنونPENTAGON’S BRAIN لمؤلفته الكاتبة الأميركية ANNIE JACOBSEN يلمس القارئ أنه أمام ما هو أبعد من الحلم الإغريقي البسيط للغاية المتمثل في ذلك الحصان الخشبي الذي اختبأ فيه الجنود ليفتحوا ليلاً أبواب طروادة.
القارئ لكتاب "آني جاكوبسون" يدرك أنه أمام وكالة بمثابة لغز، وإن كانت رسمياً مخصصة لمشروعات الأبحاث المتقدمة التابعة لوزارة الدفاع الأميركية، وهي في الوقت ذاته أكثر الهيئات العلمية العسكرية نفوذاً وإنتاجية في العالم، عطفاً على أن ملامحها ومعالمها غير واضحة لأحد من جراء السرية من حولها، ربما باستثناء أن مهمتها الأساسية هي أن تحدث "ثورات" في مجال العلوم العسكرية، وأن تحرص على أن تفرض الولايات المتحدة نوعاً من الهيمنة التكنولوجية على بقية العالم.
هل كانت وكالة "داربا" بأدواتها الاستخبارية فائقة التطور والسرية، والتي يربط البعض بين الأطباق الطائرة وبينها على دراية ما بكورونا، ومنذ الخريف الماضي 2019؟
في سبتمبر (أيلول) المنصرم، فؤجئ الأميركيون بنداء على موقع "داربا" على شبكة التواصل الاجتماعي "تويتر" جاء نصه كالتالي: "انتباه إلى سكان المدينة، إننا مهتمون بإيجاد أنفاق ومرافق حضرية تحت الأرض مملوكة لإحدى الجامعات أو المراكز البحثية، حيث يمكننا استضافة الأبحاث والتجارب وأن المرفق المطلوب هو بيئة من صنع الإنسان تحت الأرض، وتمتد على مناطق عدة من المدينة مع تخطيطات معقدة وأنفاق وسلالم، ونأمل في العثور على مثل هذا الموقع الجغرافي بحلول يوم الجمعة عند الساعة 9 مساء بتوقيت غرينتش".
كان هذا النداء وحتى الساعة غامضاً وإن حمل على توقع حدث غير اعتيادي في البلاد فسره البعض بتحول فكرة "الزومبي" من خيال علمي إلى واقع، فيما البعض الآخر أشار إلى إمكانية حدوث حرب كبرى، وقيام الأعداء بغزو أميركا، بينما ذهب التيار اليميني الديني الأميركي إلى أن المشهد برمته ينبئ بالاستعداد ليوم القيامة.
ما الذي كانت تسعى إليه "داربا" من تغريدتها تلك؟
لا يزال الأمر سراً، لكن ظهور "داربا" المفاجئ في سياق أزمة كورونا يعني شيئاً واحداً، وهو أن الولايات المتحدة قد استدعت كل قواها الخشنة، الجهرية والسرية، من أجل مواجهة خطر الفيروس، والذي لا تنفك إدارة الرئيس ترمب تعتبره نوعاً من الاعتداء الكارثي عليها، والذي يفوق في كارثيته بيرل هاربر، والحادي عشر من سبتمبر(أيلول)2001.
هل نتوقع رداً أميركياً يتخذ من "داربا" ذراعاً طويلة إلى الداخل الصيني انتقاماً مما جرى للولايات المتحدة، وعلى غرار ما جرى في هيروشيما ونغازاكي، وإن بشكل غير مباشر، وغير نووي؟
ربما تكون أوقاتنا الحاضرة هي المجال الزمني الاصطناعي الموجه، لا سيما ضد الصين وروسيا، من أجل تعميق المسافة القطبية بين واشنطن وبكين، ومن خلال أدوات استخبارية أميركية قادرة على إفشال مشروعات الصين، والقراءة في المعكوس في كل الأحوال، تنبئ بأن الصين فقدت الكثير مؤخراً، والأسوأ لم يأتِ بعد.
العالم والمجال الاستخباري الرابع
هل كان فيروس كورونا سبباً مباشراً في ما يمكن أن نسميه "المجال الاستخباري الرابع"، حول الكرة الأرضية؟
المؤكد أن الحقبة الزمنية الاستخبارية قبل الحرب العالمية الثانية كانت لها أدواتها، والتي تعد اليوم ضئيلة جداً بالمقارنة بأدوات التجسس المعاصرة، فجلّ ما كان حاضراً في ذلك الوقت، هو العنصر البشري، والقليل جداً من أدوات التكنولوجيا، وبنهاية تلك الفترة وخوض المعسكرين الكبيرين، وارسو والناتو، ولأكثر من أربعة عقود حرباً باردة، تطورت مجالات الصراع الاستخباري بصورة واضحة، وإن لم تبلغ ما بلغه العالم في العقود الثلاثة الماضية، تلك التي أعقبت سقوط الاتحاد السوفياتي، حيث المجال الاستخباري الثالث، وقد كان مزيجاً من الأمني العسكري، والأمني الاقتصادي، وقد رأينا كيف أن برامج استخباراتية تجسسية أميركية تحديداً، قامت بالتنصت على الحلفاء الفرنسيين والألمان في أوروبا، على غرار برنامج "بريسم" الأميركي، الذي تم اكتشافه خلال ولاية باراك أوباما الثانية، واستطاع اختراق هاتف المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل.
هنا يقول قائل: لقد دخلنا إذن وفي عصر كورونا، المجال الاستخباري الرابع، وهذا صحيح بالفعل، لاسيما أن آفاق هذا المجال ستكون أبعد من مجرد ملاحقة التجارب النووية أو الصورايخ الباليستية، إذ سوف تمتد إلى الحروب البيولوجية، والموجات الوبائية، وسرقات الوصفات الطبية، ما يعني أن أولويات أجهزة الاستخبارات العالمية سوف تتغير، وسوف يعاد رسمها، كي تتسق والتهديدات الجديدة، علماً أن العلماء يتحدثون عن موجات فيروسية متلاحقة، قد تكون هي أداة الصراع البشري الجديد على سطح الكرة الأرضية.
من تحالف "العيون الخمس"، إلى "وكالة داربا"، يبدو المجال الاستخباري الرابع أكثر تعقيداً لجهة تحديد العدو غير المرئي، وهذا ما أشار إليه أخيراً "غريغ باركيا"، خبير الاستخبارات المضادة الأميركي في تقرير نشرته مجلة "ذا ناشيونال إنترست" الأميركية الذائعة الصيت بقوله: "إن الولايات المتحدة ومعظم الدول الغربية تدرس عوامل مختلفة عندما تقوم بتحديد عدو ما"، وإنه قضى معظم وقته كمستشار للخدمات المتعلقة بالاستخبارات والأمن من خلال شركته المتخصصة في هذا المجال، في مساعدة عملائه في تحديد أعدائه، إذ إنه "من دون تحديد الأعداء وإمكانياتهم بشكل واضح، من المستحيل تنفيذ الإجراءات المضادة الفعالة".
هل ستولد من رحم وباء كورونا أنساق استخباراتية عالمية تعيد تشكيل التوظيف البشري والآلي في السنوات المقبلة؟
ربما لن يجهد ضباط الاستخبارات من خلفية عسكرية أو أمنية في أن يجدوا لهم موقعاً في صفوف الأجهزة الاستخبارية الوليدة من جراء "المجال الرابع"، لكن المؤكد أن الطريق سوف يكون معبداً جداً للأطباء والعلماء والباحثين في علوم الأحياء بمختلف تخصصاتها للانضمام بقوة وفاعلية إلى صفوف الطراودة الجدد إن جاز التعبير.
في المجال الاستخباري الرابع سيكون الإنسان، وليس الآلة، هو محور التركيز، والذين عندهم علم من كتاب "داربا" يدركون أن العمل جار على بسرعة للتحكم في عقول البشر وعن مسافات بعيدة، الأمر قريب الشبه من فكرة توارد الخواطر أو"التلباثي"، وهناك خلفية من هذه التجارب الاستخبارية من زمن الحرب الباردة.
وفي الخلاصة، سيشهد عالمنا المعاصر معارك طروادية شرسة، سوف يلعب الذكاء الاصطناعي فيها دوراً شديد الأهمية في مواجهة الكوارث المحدقة بالبشر، وسبق الفوز سيكون لمن يمتلك المقدرة على تفعيل الآذان الكبرى والعيون الواسعة، وهذا ما فعلته الاستخبارات الألمانية بالفعل، والتي استطاعت التنصت المبكر على ما يجري في الصين، وأدركت مبكرا أن هناك كارثة بعينها. وحصلت على تفاصيل حول الفيروس، وقامت بإبلأغ المؤسسات الصحية في البلاد، ما يفسر كثيراً من شفرة انتصار ألمانيا وقدرتها على مجابهة كورونا وقلة الإصابات والوفيات بالنسبة إلى إيطاليا وفرنسا.