Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

المصريون يراوغون الحكومة من أجل فك حظر "شم النسيم"

تسابق الأهالي على الذهاب إلى الشواطئ فاصطدموا بقرارات رسمية قيدتهم بأماكنهم

إقبال كبير على محال بيع الفسيخ في "شم النسيم" (حسام علي. اندبندنت عربية)

عمليات الدخول والخروج تؤمَّن تأميناً احترافياً، السكونُ غير المعتاد سمة الأجواء، والحرصُ غير المألوف يهيمنُ على الأجساد المتباعدة بمسافات ذات مقاييس محلية غير تلك المنصوص عليها في منظمة الصحة العالمية.

"إنها الخصوصية!"، يفتي أحد الواقفين، وتردّ عليه سيدة بلهجة العارفين ونبرة المطّلعين: "ربنا هوّ الحامي". ويعترضُ أحدهم مستنكراً: "وما دخل الخصوصية هنا؟"، فيردُّ صاحب الفتوى: "إنها خصوصية المجتمعات يا أخي. مسافة المترين لا تصلح لنا. أقصاها 70 سم. من أين نأتي بالمترين لكل فرد من المئة مليون؟ قليلٌ من المنطق يا سادة".

جرعة السمك المقدسة

المنطقُ المنتحرُ على باب "الفسخاني" الشهير في حي شبرا الشعبي الشهير بالقاهرة لم يجد من يرأف لحاله أو يُرثي مآله. المتجمهرون والمتجمهرات انتظاراً للحصول على الجرعة السمكية السنوية شبه المقدسة لا يهابون الفيروس أو يخشون خطر العدوى. كماماتهم على وجوههم، وقفازاتهم على أكفهم، والحصول على مبتغاهم المملح أسمى أمانيهم.

وعلى بعد أمتار قليلة منهم، وفي داخل المحل نصف المغلق، لتنظيم عملية الدخول والخروج، تبدو تلك الأعين الصغيرة المستديرة المحدقة في اللا شيء، وتطل خياشيم هنا وتبزغ ذيول هناك. والجميع ينتظرُ بفارغ الصبر أملاً في إنهاء المهمة قبل حلول الحظر.

حظر نزول المصريين من بيوتهم في ساعات الحظر المقررة من الثامنة مساءً وإلى الخامسة صباح اليوم التالي في كفة، وحظر نزولهم في "شم النسيم" في كفة أخرى تماماً. وإذا كانت ساعات الحظر تمضي في البيوت المصرية بين قزقزة البذور والتهام الفول السوداني، وما تيسّر من محتويات الثلاجة مع البقاء على الآرائك أمام شاشات التلفزيون أو المحمول أو اللاب توب، فإنّ الحظر غير المباشر والتضييق غير المعلن والعقاب الموقّع بشكل يحفظ ماء وجه الملايين التي بيّتت نية استثناء "شم النسيم" من قواعد الحظر وأساسيات الوقاية من الفيروس القاتل في انتظارهم.

الرائحة القاتلة، سلباً أو إيجاباً حسب الذوق والشهية، لأسماك شم النسيم المملحة من "رنجة" و"فسيخ" و"ملوحة" وغيرها تنضح من شوارع مصر التجارية وأحيائها السكنية. الوجبة المصرية الموثقة على جدران المعابد منذ 2700 عام قبل الميلاد حيث البصل والخس والسمك المملح المقدمة إلى الآلهة في تلك المناسبة التي ترمز إلى خلق الحياة والخصب والنماء، والمُحتَفل بها على ضفاف النيل على مدار آلاف السنوات تجد نفسها هذا العام في موقف غير مسبوق.

كوليرا وكورونا

سبق وضرب وباء الكوليرا مصر، وكان أحدثها "الكوليرا الهندية" في عام 1947 واستمرّت إلى العام التالي، وهو ما أدّى إلى "تأجيل شم النسيم" في ذلك العام حسبما أشارت عناوين الصحف المصرية في ذلك الوقت. لكن في عام 2020، ومع تفشي وباء كورونا المستجد أو (كوفيد 19) وجد مئة مليون مصري ومصرية أنفسهم في مواجهة قاسية مع مفهوم الشمّ. فإمّا شم النسيم عن بعد، أو شمِّه ومعه كورونا عن قرب.

"قريباً جداً ستُعلن أخبار جديدة تهز العالم في ملف كورونا. الفسيخ مع الرنجة مع الملوحة مع البيض مع كعك عيد المسيحيين ستتفاعل، وتخرج علينا بمركب فيروسي جديد قادر على إبادة الأخضر واليابس. فإمَّا أن يتفاعل مع الفيروس ويطوِّره ويخرج بفيروس يقضي على الكوكب بمن فيه، أو يتغلّب عليه بضربة قاضية، لا سيما لو كان مصحوباً بحزمة بصل أخضر"، هكذا تنبأ أحد المغردين.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

حزمة البصل الأخضر المترعرعة الفتية سمة كل ناصية من نواصي مصر المحروسة الآن عبر "مشنة" خوص، مرتكزة على الرصيف تدغدغ رغبات الاحتفال بأقدم وأعرق عيد مصري، وتضعف مراكز التذوق والتخيُّل المرتبطة بأسماك شم النسيم المملحة وبَيضاته الملوّنة على إيقاع البصل الأخضر رغم أنف الفيروس.

"أنف الفيروس لن تصمد دقيقة أمام ذلك الفيض العارم من روائح الفسيخ. المصريون أقوى من كورونا، والفسيخ أقوى من الاثنين"، "للردّ على الشعب الصيني الذي أطلق Covid 19 المصريون يستعدون لإطلاق Covid 20+ pr في شم النسيم".

وبينما تتواتر تغريدات المصريين التي تعكس منهجاً وفكراً يضع الفسيخ وكورونا في مواجهة حاسمة، حيث استعراض عضلات كليهما، والتنابز بأيهما أكثر قدرة على الفتك، تتواتر كذلك إجراءات حكومية وقرارات رسمية فريدة من نوعها واستثنائية في تعاملها مع جموع المصريين المتربصين خلف أبواب البيوت وشرفات الشقق السكنية انتظاراً للحظة قد تكون حاسمة أو فرصة قد تكون ذهبية لكسر الحظر وخرق العزل واجتياح الشوارع وغزو الحدائق وشم النسيم.

مراوغات ومغامرات

لكن، في شم نسيم 2020، تتألق قواعد كرّ الحكومة المُصرّة على تطبيق إجراءات الحماية والوقاية، وفرّ الشعب المُصرّ أيضاً على استثناء شم النسيم من الحظر المفروض. سلسلة قرارات وقوائم إجراءات أقل ما توصف بها هي الحنكة البالغة والحصافة الطاغية والفطنة المتناهية. قرارات حكومية نزلت كالسهام على رؤوس المترصدين فرصة الفرار من البيوت والمتربصين المنتظرين فجوة يهربون منها إلى شاطئ هنا أو حديقة هناك.

رئيس الوزراء مصطفى مدبولي، أصدر قرارات خاصة بيوم شم النسيم تنصّ على إغلاق كامل وشامل وحاسم للمراكز والمحالات التجارية، مع إقفال كلي للمتنزهات والحدائق العامة والشواطئ، وإمعاناً في إغلاق كل الثغرات وسدّ جميع الفجوات، تقرر كذلك إيقاف كل وسائل النقل العام والخاص في هذا اليوم، بما في ذلك القطارات ومترو الأنفاق، إضافة إلى باصات النقل النهري.

كما تقرر إيقاف جميع أوتوبيسات الرحلات المتنقّلة بين المحافظات والمدن وإلى الشواطئ. ولأولئك الذين خططوا ودبروا وتكتكتوا للهروب المدروس واللجوء الآمن للشواطئ قبل تطبيق الحظر الشامل، صدر قرار بغلق جميع الطرق المؤدية إلى المناطق الأكثر شيوعاً بين المصريين لقضاء شم النسيم، مثل العين السخنة وجمصة وبلطيم والإسماعيلية والعلمين ومداخل الإسكندرية (جميعها يحتوي على شواطئ) بدءاً من السادسة مساء يوم الأحد الـ19 إلى السادسة صباح الثلاثاء 21 أبريل (نيسان) الحالي.

ويبدو أنّ الحكومة المصرية استشعرت أن يحاول أحدهم اختراق الصحراء أو اجتياز التلال للوصول إلى مآربه الشاطئية، فثبتت أكمنة شرطية وغرست لجاناً أمنية على طول الطرق الرئيسة مثل القاهرة - الإسكندرية الصحراوي، والإسماعيلية والسويس والكريمات.

لكن، مراوغات "توم وجيري" ومغامرات الكرّ والفرّ لا تنتهي. وكأنّ قطاعات من الشعب تعتبر كسر الحظر وخرق العزل وضرب عرض الحائط بقواعد الحماية من الفيروس جهاداً أو كفاحاً أو حرباً مقدسة، شهد طريق العين السخنة (المدينة الشاطئية الأقرب إلى القاهرة) ازدحاماً رهيباً على مدى الأيام الثلاثة السابقة لشم النسيم.

يقول أحد ضباط المرور المكلفين تأمين الطريق، إنه فوجئ منذ أيام بجحافل السيارات الملاكي تتواتر على الطريق محمّلة بالعائلات والأطفال والعتاد من مأكولات ومشروبات وحلويات ودراجات وأدوات البحر، وكأنّ المصريين في حالة نزوح كلي من المدن إلى الشواطئ بغرض الترفيه والتصييف.

مئات الأمتار من السيارات التي تنتظر اجتياز الطريق، وتضمن وصولها إلى مواقع الاحتفال بشم النسيم في تجمهرات وتجمعات لم يشهدها شم النسيم في زمن ما قبل كورونا. ويقف الفيروس ومعه المسؤولون لمتابعة جولة الكرّ والفرّ المرتقبة. فالقرارات الصادرة تنصّ كذلك على إغلاق كامل للشواطئ، بمعنى أنّ من يقرر الإقامة في شقة أو شاليه يملكه على البحر حق أصيل له. لكن أن يبرح وحدته السكنية ويتوجّه للجلوس على البحر فهذا غير مسموح.

الطريفُ أنّ المحافظين وكبار المسؤولين يجولون الشوارع والميادين، ويقتربون من الشواطئ، لتتبع الهاربين المتسللين خارج بيوتهم. وقبل يومين، أعلنها محافظ البحر الأحمر اللواء عمرو حنفي صريحة: "ما فيش تجمّعات. ما فيش رحلات. ما فيش حفلات. ما فيش شم نسيم من الآخر". (مافيش: غير مسموح). وقال المتحدّث باسم مجلس الوزراء نادر سعد، موجهاً حديثه إلى المصريين: "لأي أحد بيفكّر يسافر يوم شم النسيم وفّر فلوسك، ولن يُسمح لك بالسفر".

 

تمييز إيجابي للفسيخ

المسموح في هذا اليوم المهيب يقتصر على "بتوع الفسيخ" (تجّار الأسماك المملحة)، وهو نوعٌ من التمييز الإيجابي. لكن في التمييز الإيجابي سم قاتل كامن يعتقدُ البعض أنه دعابة وسخرية، لكن ينتهجه آخرون ظناً منهم أنه واقع لا ريب فيه.

إحدى السيدات المتجمهرات أمام محل الفسيخ الشهير في "ميدان الجامع" بحي مصر الجديدة أفتت بأن "حزمة بصل أخضر مع قدرٍ من الفسيخ والخس كفيلة بدرء بلاء كورونا ووأد خطر العدوى!" تفجّرت ينابيع النقاش ومصادر الجدال بين الواقفين والواقفات، إذ بفريقٍ مؤيدٍ مدافعٍ عن وصفة تقوية المناعة المنصوص عليها في شم النسيم، وآخر معارض مندد محذر من الاستهانة بالفيروس، حتى وإن كان البصل والفسيخ والرنجة تحمل فوائد صحية.

الفوائد الصحية والأخطار الطبية لأكلات شمّ النسيم، التي جرى عرف الإعلام المصري على إفراد الأثير والصفحات لها في مثل هذه الأيام من كل عام تحوّلت إلى موروث معرفي شعبي مصري يهدد بنتائج غير مرجوّة هذه الأيام. عقودٌ طويلة من خروج متخصصي الطب وجهابذة الصحة ليمطروا الملايين بنصائح موسمية عن فوائد أكلات شم النسيم في تقوية المناعة، وتعضيد الصحة مع تحذيرات بعدم الإفراط جعلت البعض يعتقدُ هذه الأيام أنّ أكلات شم النسيم "قادرة على درء خطر كورونا".

البصل والفسيخ قنبلة موقوتة

يبدو الأمر لغير المصريين وكأنه دعابة. لكنه في حقيقة الأمر "قنبلة موقوتة" في زمن كورونا. ويدلل على ذلك خروج منظمة أممية بثقل وأهمية منظمة الصحة العالمية لتحذِّر المصريين من مغبة التناول غير المسؤول للفسيخ، والتجمّع غير المشروط في شم النسيم.

ممثل الصحة العالمية في مصر جون جبور، أطلّ على ملايين المصريين في رسالة مصوَّرة ليشدد على أهمية تناول الفسيخ من "مصادر موثوقة وسليمة"، وذلك لدرء خطورة تحميل النظام الصحي بالبلاد ضغطاً إضافياً، إضافة إلى ضغط كورونا، حاثاً إياهم على "عدم التجمهر والازدحام" بما في ذلك على المستوى العائلي، ودعاهم إلى الاكتفاء بالتجمّهر على مواقع التواصل الاجتماعي.

مرتادو السوشيال ميديا وجدوا في ما يجري على أرض مصر من تحدٍّ للفيروس ومجابهة له بأسلوب "داويها بالتي كانت هي الداء"، حيث محاولات التجمهر والاحتشاد في شم النسيم مع العلم أنّ الفيروس ينتعش ويزدهر في التجمّعات فرصة لإطلاق العنان للكوميديا السوداء.

 

غزو شعبي وتسليم فيروسي

كوميكسات مليونية متداولة تشرح الخطط الشعبية الجاري رسمها. "المسيحيون يغزون الأسواق لشراء مستلزمات عيد القيامة وشم النسيم، والمسلمون يجتاحون المحلات لتبضّع حاجات رمضان، ثم يتقابل الفريقان في مستشفى العزل لمباراة النهائي". خطة أخرى يُجرى تداولها "المسيحيون ينزلون الشوارع بالملايين في مناسبة العيد، والمسلمون يلحقون بهم بالملايين أيضاً ليحتفي عنصرا الأمة بالمناسبة. وأمام هذا المشهد المهيب سيخشى كورونا من مجرد التفكير في النزول في هذا اليوم الحاشد".

المتابع مجموعات وصفحات الأصدقاء والمعارف والأقارب على "واتسآب" و"فيسبوك"، حيث ترتيبات اللقاءات والتجمّعات والاحتفالات في البيوت وما تيسّر من حدائق بعيداً عن أعين الأمن يهيئ له أنه لم يتبقَ أمام الحكومة سوى تسيير منادين يصيحون في المكبرات "جميع الطرق إلى الشواطئ والمولات والحدائق مقفولة. عودوا إلى رشدكم والزموا بيوتكم" مع مناشدات تستعطف المصريين "فسيخك في طبقك. رنجتك في ساندوتشك. بصلك في يدك، وبلكونتك (شرفتك) أولى بك".

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات