Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

شم النسيم... الفراعنة ينتصرون للهوية بأعياد الربيع

المصريون يحتفلون بالسمك المملح ويبتهجون بتلوين البيض رغم فتاوى التحريم وتحذيرات التسمم ولافتات الأسعار

أُسرٌ فرعونية بزغ نجمها، وأخرى ملكية انطفأ وهجها، وثالثة جمهورية، وبقي هو كما هو، غير قابل للتفاوض بشأنه. أبناء البلد حكموا، وفتوحات من الشرق قدمت، وحملات من الغرب أتت، واستعمار قصم الظهر، وتنوير أشرق بوجهه، وبقي هو على طقوسه المبهجة والمفرحة وغذائه المملح لم يتحرك قيد أنملة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

أعياد الربيع... الهوية الراسخة 

أنامل أتلفها الملح وخبرات أصقلتها خبرة ما يزيد على 50 قرناً تتألق وتتلألأ في مثل هذه الأيام من كل عام، حيث "فسخاني التوحيد يهنئ المصريين بشم النسيم"، و"عروض التوفير على البيض وألوان شم النسيم"، وعربة يجرها حمار يصيح صاحبها بعلو الصوت منادياً على "الملانة" و"الخس"، لزوم تهدئة ملوحة الفسيخ وتخفيف حدة عسر هضم الرنجة.

ورغم مخاوف عسر الهضم، وكوارث التسمم الناتج عن سوء التمليح أو إساءة التخزين، ينتظر المصريون عيد شم النسيم بفارغ الصبر كل عام على مدار 5 آلاف عام مضت. 5 آلاف عام والمصريون باقون على عهد عيد الربيع؛ مصري النكهة والمذاق والاحتفال، ومصرون على إقامة طقوسه والحفاظ على عاداته رغم الاستعمار الغربي والاحتلال العثماني ومحاولات الإسقاط على مدار التاريخ وجهود الإضعاف منذ أصبحت هناك قوى عظمى وأخرى صغرى. حتى المحاولات الحثيثة والجهود الخبيثة التي بذلها القائمون على جماعات الإسلام السياسي بأنواعه والمحتكرون لتفسير الدين بأشكاله باءت بفشل ذريع وسقطت بضربة قاضية أمام أول "فسيخة" غارقة في الليمون، وباقة خس وملانة مساعدة للهضم، ومهدئة من روع المعدة وهي تستقبل هذا الكم من العناصر الغذائية المتضاربة وهذه التشكيلة من الأكلات المصرية الحريفة.

الفسخاني سيد المشهد

بحرفية شديدة وتقنية فريدة، أخرج الحاج عبده، وعلى مقربة منه "ولده سيد"، فسيخة وصفها بـ"الزبدة" ووضعها في طبق مرصع بالليمون، وأضاف إلى جوارها سمكة من الرنجة مؤكداً للمشتري إنها "نقاوة النقاوة". النقاوة المتراوحة بين "فسخاني" وآخر تختلف باختلاف الحي، وتتراوح بحسب تاريخ عائلة الفسخاني. آلاف محال السوبر ماركت تفرد مساحات لبضائع شم النسيم من بيض وألوانه والأسماك المملحة وغيرها، لكن يبقى الفسخاني (المحل المتخصص في بيع الأسماك المملحة طيلة العام) هو سيد الموقف في شم النسيم.

شم النسيم، أحد الأعياد المصرية الخالصة، التي لا يعرف قيمتها أو يشعر بأثرها سوى كل مصري ومصرية بغض النظر عن المستوى الاقتصادي أو الدرجة العلمية أو المكانة الاقتصادية. شم النسيم عيد مصري احتفل به المصريون القدماء قبل 2700 عام من ميلاد السيد المسيح، أي قبل نحو خمسة آلاف عام. وكلمة "شم" مشتقة من كلمة "شمو" الهيروغليفية التي ترمز إلى عودة الحياة مرة أخرى بعد شتاء قاس. واعتبر المصريون القدماء الربيع عيداً للحصاد، وبداية لحياة جديدة بعد تلك التي انتهت في الشتاء.

الغريب في الأمر أن الطقوس التي مارسها المصريون القدماء في عيد شم النسيم أو الربيع قبل آلاف السنوات مازال أغلبها يمارس في العام الـ19 من الألفية الثالثة. وعلى الرغم أن "الفسخاني" لم يكن موجوداً لدى قدماء المصريين، كما أن الأحياء وحدهم من يستمتعون بأكل الأسماك المملحة هذه الآونة، فإن المصريين القدماء كانوا يملحون الأسماك يأكلون بعضها، ويضعون البعض الآخر مع موتاهم، لأنها الوسيلة الوحيدة التي كانت متاحة للحافظ على الطعام الذي يترك بجوار الميت ليكون متاحاً له وقتما يعود إلى الحياة، إيماناً منهم بالبعث.

سارة فهمي (30 عاماً) وخبيرة في صناعة الأسماك المملحة تصف نفسها بأنها بٌعِثت إلى الحياة من جديد قبل 5 سنواتن وذلك في أعقاب أكلة فسيخ وصفتها بـ"المميتة". تقول: "أعشق الأسماك المملحة بأنواعها، وأفرط في تناولها في شم النسيم. وقبل 5 سنوات، أصبت بحالة تسمم شديدة بسبب أكلة فاسدة في شم النسيم كدت أفقد حياتي بسببها. في العام التالي، لم أتناول الأسماك المملحة وأصابني ذلك باكتئاب شديد، لأنني لا أعشق الفسيخ والرنجة فقط، بل أعشق كل الطقوس المرتبطة بشم النسيم. يومها قررت أن أتعلم أصول تمليح الأسماك. وفي العام التالي، كنت قد أتقنت التمليح، ووزعت أسماكاً مملحة على معارفي وأسرتي ونصحني الجميع بالاستفادة مما تعلمت وأتقنت، واليوم أورد أسماكاً مملحة عبر "فيسبوك" لمن يرغب".

طقوس الاحتفال

الرغبة في الاحتفال والاحتفاء بشم النسيم عارمة في الغالبية المطلقة من البيوت المصرية. وعلى الرغم من عدم إلمام الجميع بأصل وتاريخ تفاصيل وطقوس الاحتفال، فإن الجميع يحتفل. خروج إلى الحدائق والمتنزهات، وتحضير الأطعمة لتناولها في الهواء الطلق وأهمها: البيض الذي يرمز إلى خلق الحياة عند الفراعنة، السمك المجفف والمملح المرتبط بالبعث والخس رمزاً للخصوبة، الحمص الأخضر (الملانة) والتي تمثل قدوم الربيع، والبصل رمزاً لإرادة الحياة والتغلب على الأمراض. أما المياه الغازية، فقد أضافتها الحداثة وأفرطت في استخدامها العولمة من باب المساعدة على الهضم.

المصريون يهزمون الإسلام السياسي

لكن ما لم تهضمه غالبية المصريين كانت محاولات حثيثة بذلت في العقود الأربعة الماضية لتحريم شم النسيم وتكفير المحتفلين به وترهيب من يبيعون بضائعه. تزامنت هذه الدعوات العجيبة وترك زمام الأمور لجماعات الإسلام السياسي ومجموعات المتشددين ترتع في أرجاء مصر، لا سيما في القرى والمناطق العشوائية والفقيرة البعيدة عن عين الدولة واهتمامها. وظلت دعوات التحريم وفتاوى التكفير تدور رحاها في السر ودون المجاهرة خوفاً من المعاقبة أو ربما ضماناً لانتشارها بين الطبقات الفقيرة والقواعد الشعبية موقتاً.

آلاف الأسئلة المرسلة إلى شيوخ غير مسموح لهم بالفتوى ومعها آلاف الإجابات حفلت بها زوايا غير مرخصة ومنها إلى مواقع عنبكوتية لا تمت للمؤسسات الدينية المعترف بها والرسمية بصلة حول حكم الاحتفال بشم النسيم. الغالبية المطلقة من الإجابات لم تخرج عن إطار أنه "لا يجوز للمسلم مشاركة الكفار الاحتفال بشم النسيم أو غيرها من الأعياد التي يحتفل بها غير المسلمين. كما لا يجوز تلوين البيض، أو تهنئة من يلونونه أو يحتفلون بشم النسيم. كما لا يجوز تعطيل الأعمال من أجل هذه الأشياء لأنه فيها مشابهة لأعداء الله"!

شم النسيم يوم عطلة رسمية لكل المصريين على مر السنين. وظلت الإجابات المحرمة للاحتفال والفتاوى المنددة بمن يحتقل بهذا العيد تسري بين طبقات بعينها إلى أن هبت رياح ربيعية في شتاء عام 2011، وتحديداً في شهر يناير (كانون الثاني) عام 2011. وقتها خرجت إجابات التحريم من السر إلى العلن، وبزغت فتاوى التكفير دون خوف من محاسب أو اتقاء عقاب مراقب.

 ففي شم النسيم عام 2011 خرج أحد أبرز الشيوخ المتشددين وهو الداعية أبو إسحاق الحويني ليعلن أن شم النسيم حرام. وبيع البيض والرنجة والفسيخ في يوم شم النسيم حرام. ومن يفعل ذلك فهو آثم ورزقه حرام. وأشار إلى أن "جميع العلماء حرموا مشاركة المشركين في أعيادهم، وأثموا فاعله، وحق على الله أن يضرب على الغافلين الذل والعار". وأضاف في هذا العام أنه "يحرم على كل بائع أن يبيع في هذا اليوم أي مطعوم يقوم به هذا العيد، فلا يجوز بيع البيض أو الفسيخ أو الرنجة ومن فعل ذلك فهو آثم وكسبه حرام".

حفلات النسيم... خصومة فنية

مصادر أخرى للكسب والانتشار في هذا اليوم هي من نصيب الأطباء والصحافيين والإعلاميين والفنانين الذين تروج بضاعتهم في هذه المناسبة. فقبل سنوات، كان الوجه الآخر لعيد شم النسيم لدى الغالبية المطلقة من المصريين هو حفلة الربيع للراحل فريد الأطرش، التي كان يتم بثها عبر الإذاعة ثم عبر التلفزيون لسنوات وسنوات تجمعت ملايين المصريين خلالها لمتابعة أغنية "الربيع". وحين عاد الأطرش إلى بيروت في منتصف الستينيات، انتقلت حفلات التلفزيون في شم النسيم إلى عبد الحليم حافظ.

وشهدت حفلات شم النسيم حربا شرسة غير معلنة بين النجمين حين قرر الأطرش العودة إلى مصر، وأصبحت حفلة شم النسيم موضع تجاذب وتناحر بين الاثنين. ورغم ذلك تظل أغنية "الربيع" (التي لحنها وغناها فريد الأطرش للمرة الأولى في شم النسيم عام 1970) هي أيقونة شم النسيم لدى كل مصري ومصرية.

لافتات حفلات شم النسيم تملأ الشوارع المصرية هذه الأيام. لم يعد الأمر حفلاً واحداً تلتف حوله بضع مئات في مسرح وتجلس أمامه الملايين حيث الشاشات التلفزيونية، بل أصبح في كل فندق وناد اجتماعي ومنتجه سياحي حفلاً نهارياً أو مسائياً.

تأهب طبي

نهار شم النسيم ومساؤه سمتهما تواتر تحذيرات الأطباء من مغبة تناول الأسماك الفاسدة، أو الإفراط في أكلها من قبل مرضى القلب والسكر والضغط والحوامل، أو عدم شرب الماء بالقدر الكافي مع تنويهات على مدار الساعة بمراكز علاج السموم ومستشفيات الطوارئ لدواعي التدخل الطبي وقت اللزوم.

لزوم أخرى فرضت نفسها في مصر تحت وطأة الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي يعانيها أغلب المصريين. فبعد ما كان كيلو غرام الفسيخ أو الرنجة أو السردين وغيرها من الأسماك المملحة في متناول يد الغالبية المطلقة، وشراء البيض أمر بديهي لا يحتاج إلى حسابات ومخططات، ألقت الأزمة الاقتصادية بظلال وخيمة على شم النسيم وطلباته. البعض رشد في الشراء، والبعض الآخر بدأ يملح الأسماك في البيت، وفريق ثالث أخذ على عاتقه مسح الأسواق لتقديم خدمة متوسطة الأسعار للمصريين في عيد شم النسيم.

المركز المصري لبحوث الرأي العام (بصيرة) أدهش متابعيه ممن يقرأون بياناته ودراساته السياسية والاقتصادية بصدور بيان هام عنوانه "متوسط أسعار الفسيخ والرنجة والملوحة في الأسواق".

وبحسب البيان فإن النتائج أظهرت أن أسعار الرنجة في الأسواق تتراوح  بين 25 و60 جنيهاً (1.5 إلى 3.5 دولار أميركي) للكيلوغرام بمتوسط 35.6 جنيه ( نحو 2 دولار) للجودة العادية، وبين 30 و70 جنيه (1.7 و 4.04 دولار) بمتوسط 49.5 جنيه  (2.8 دولار) للجودة المتوسطة، بينما وصلت الأسعار بين 39 و85 جنيهاً ( 2.25 و5 دولارات) بمتوسط 68.5 جنيه (نحو 4 دولارات) للكيلوغرام للجودة العالية.

وتنخفض الأسعار في الأسواق الشعبية مثل سوق الجمعة وسوق المنشية، بينما جاءت أسعار الفسيخ بين 100 و150 جنيها (6  و9 دولارات) للكيلوغرام بمتوسط 120 جنيها ( 7 دولارات) للجودة العادية، وبين 90 و170 جنيها (5 و10 دولارات) بمتوسط 135.5 جنيه (8 دولارات) للجودة المتوسطة، وجاءت أسعار الجودة العالية بين 130 و190 جنيها ( 7.5 و11 دولارا)  بمتوسط 160.7 جنيه (9 دولارات".

إنه شم النسيم الذي يجمع المصريين حول أسماك مملحة وبيضات ملونة وتحذيرات لا تجد إلا آذاناً مغلقة وأفواهاً مفتوحة.

اقرأ المزيد

المزيد من منوعات