اعتاد الأميركيون في السابق إذا انتابهم القلق في الأوقات العصيبة أن يتطلّعوا إلى رئيسهم بحثاً عمّا يهدّئ روعهم. فقد شكّل القائد الأعلى في مناسبات عدّة مصدراً للمعلومات المهمّة والوحدة والهدوء.
لكن ما يحدث اليوم من اقتران جائحة قاتلة ببيتٍ أبيض معادٍ للعلم، أدّى إلى نقل هذه المهمّة إلى يدَيْ رجل آخر.
وهكذا أصبح الدكتور أنتوني فاوتشي، مدير المعهد الوطني للحساسية والأمراض المعدية، أبرز الوجوه ربّما في استجابة الحكومة الأميركية لتفشّي وباء فيروس كورونا.
بات خبير المناعة المتواضع دائم الظهور خلال الإحاطات الإعلامية حول فيروس كورونا التي يقف فيها إلى جانب دونالد ترمب، الرجل الذي يكاد لا يشبهه في شيء. فالتفسير المفهوم والقائم على الدلائل العلمية الذي يقدّمه الرجل الهادئ ابن الـ79 سنة حول الجائحة، يتعارض تماماً مع مقاربة ترمب العشوائية.
ويمكن رؤيته في غالبية الأحيان يقف وراء الرئيس ويعلو وجهه تعبير جامد خلال الإحاطات التي تُبث عبر التلفزيون في أنحاء البلاد كافة، وبالكاد ينجح في إخفاء انزعاجه حين يخرج ترمب عن النص المتّفق عليه. وقد تدخّل أكثر من مرة لتصحيح تعليقات الرئيس. فأكسبته جهوده لقب "كبير المفسّرين".
ويقول الدكتور جون غالين، صديق الدكتور فاوتشي المقرّب منذ ما يزيد على 40 عاماً "لا يوتّره وقوفه إلى جانب الرئيس. لا أعرف أي شخص غيره يستطيع فعل ذلك بهذا القدر من الارتياح".
"فهو يكتفي بالنظر إلى الأمور بكثير من الموضوعية ويقول بهدوء: 'كلا، هذا ما عليك فعله'".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أما الدكتور غالن، الباحث الرائد في معاهد الصحة الوطنية، فالتقى الدكتور فاوتشي للمرة الأولى عام 1972، حين كانا زميلين في كلية كورنيل الطبية. ويقول إن صديقه يتمتّع بميزات فريدة تؤهله لقيادة البلاد خلال الأزمة الراهنة، مضيفاً "هو شخص تريده أن يصبح طبيبك. فكان يحافظ على رباطة جأشه حتى في ظل أكثر الأوضاع الطبية تعقيداً أو حتى إثارة للذعر برأي البعض. وكان متبحّراً ويعرف كيف يسخّر معرفته في تقديم رعاية استثنائية. وأعتقد أنّ هذا ما يوجّهه اليوم للشعب الأميركي".
وليست رباطة الجأش تحت الضغط، الأمر الوحيد الذي لاحظه الرأي العام. فمراقبة ردات فعل الطبيب على الإحاطات الإعلامية لترمب حول فيروس كورونا تحوّلت إلى نوع من الهواية الوطنية التي استبدلت الهوايات العادية. وشهد الأسبوع الماضي لحظة سخط وبَرم حرفياً، حين غطّى الدكتور فاوتشي عينيه فيما ألقى الرئيس دعابة عن الدولة العميقة خلال المؤتمر الصحافي حول "كوفيد-19".
ومع الارتفاع المتواصل في أعداد الإصابات المؤكدة بالفيروس في أنحاء الولايات المتحدة كافة، تظهر بعض الإشارات إلى أن التباين في أسلوب الرجلين قد بدأ يخلق توتراً. وغاب الدكتور فاوتشي عن المؤتمرات الصحافية خلال اليومين السابقين بعد عدد من اللحظات المحرجة على المنصة إلى جانب رئيس يُعرف بالتبجّح.
وخلال مقابلة نشرتها مجلة "ساينس" يوم الأحد، لمّح الدكتور فاوتشي للمرة الأولى علناً إلى الصعوبات التي واجهها في تنسيق استجابة البيت الأبيض لفيروس كورونا.
وفي إشارة إلى قول ترمب إنّ الصين تأخرت في إعلام العالم بوجود فيروس كورونا، قال فاوتشي "لا أستطيع أن أقفز أمام الميكروفون وأدفعه".
"حسناً لقد قال ذلك. فلنحاول أن نصحّح المعلومة في المرة المقبلة".
كما أضاف أنه لا يتّفق مع استخدام الرئيس تعبير "الفيروس الصيني" لوصف كوفيد-19 وردّ بـ"لا تعليق" خجول حين سُئل عن ستره وجهه في يديه على شاشة التلفزيون.
وفي مقابلة أخرى مع صحيفة "نيويورك" تايمز، نُشرت يوم الأحد كذلك، تكلّم بصراحة أكبر.
وأوضح "أقول للرئيس أموراً لا يريد أن يسمعها. واضطُّررت إلى إدلاء تصريحات علنية تناقض ما صرّح به. إنها مخاطرة، لكن هذا أسلوبي".
وتكشف تعليقات الدكتور فاوتشي عن التحدي الفريد الذي يواجهه: لكي ينقذ حياة الأشخاص، عليه أن يقدّم معلومات واضحة ومفيدة للشعب الأميركي. وفي هذه الأثناء، يواظب مديره -رئيس الولايات الأميركية المتحدة- على تقويض هذا الجهد.
ولحسن الحظّ أنّ هذا ليس أول عهد الدكتور فاوتشي بهذه المواقف. ففي جعبة الرجل الذي يتحدّر من نيويورك مسيرة مهنية امتدت على مدار ست ولايات رئاسية منذ حقبة رونالد ريغان وحتى حقبة دونالد ترمب. وهو يشغل الوظيفة ذاتها منذ عام 1984 وقد أشرف على عدد من الردود الفيدرالية على أزمات طبية وأوبئة عدّة، منها المتلازمة التنفسية الحادة الوخيمة (السارس) وجائحة إنفلونزا الخنازير عام 2009 ومتلازمة الشرق الأوسط التنفسية (ميرس) والإيبولا.
وطوال عقود من الزمن، احتل الرجل موقع الصدارة في عملية مكافحة الإيدز وكان مهندساً رائداً لخطة الرئيس جورج دبليو بوش الطارئة من أجل الإغاثة من الإيدز، وهي واحدة من أكبر مبادرات الصحة العالمية في التاريخ.
وحصل على أول عمل له في المجال الطبي حين كان يافعاً يوصل الوصفات الطبية على دراجته لزبائن صيدلية يمتلكها أهله في بروكلين، نيويورك. ثم أصبح تلميذاً لامعاً وكان الأول على دفعته في كلية كورنيل الطبية. وخلال حرب فيتنام، ورد اسمه في قوائم "تجنيد الأطباء" وخدم في المعاهد الصحية الوطنية.
وتخصّص في أمراض نقص المناعة وأصبح اليوم يُعتبر "الخبير الوطني الرائد في مجال الأمراض المعدية".
وفيما أهّلته خبرته وشهاداته للتعامل مع جائحة عالمية، لم تؤهّله للتعامل مع الرجل الذي يشغل البيت الأبيض حالياً.
إذ يُوجّه ترمب دفة واحدة من أكثر الإدارات المعادية للعلم منذ بدأ العلماء بمتابعة هذا النوع من المسائل. وطعن شخصياً بالتوافق العلمي على حقيقة تغيّر المناخ واللقاحات، كما روّج خلال الأيام الأخيرة الماضية لدواء لم يُختبر من أجل علاج فيروس كورونا.
وقال ترمب في سلسلة من التغريدات يوم السبت "هيدروكسي كلوروكين وأزيترومايسين، عقاران عندما يُؤخذان سوية، يعدان بفرصة حقيقية في أن يُشكّلا منعطفاً في تاريخ الطب" قبل أن يتابع "نأمل في أن يُستخدما فوراً. فالأفراد يموتون، تحرّكوا!".
وعندما سُئل عن مدى فعالية الدواء في علاج فيروس كورونا خلال مؤتمر صحافي لاحق، أجاب الدكتور فاوتشي بصراحة "الجواب هو لا… والإثبات الذي تتحدثون عنه، هو روايات لا سند لها".
لكن هذا لم يثنِ ترمب الذي التزم نصيحة الدكتور فاوتشي عبر إعادة الترويج لهذا الدواء.
والسؤال المطروح الآن مع تجذّر أزمة فيروس كورونا داخل الولايات المتحدة هو مدى قدرة الدكتور فاوتشي على الاستمرار بالجمع بين التصرف بفعالية في وظيفته وتحدّي الرئيس. ونجاحه في هذه المهمة قد تترتب عليه آثار عميقة خلال الأشهر المقبلة.
وأشار ترمب في الأيام القليلة الماضية إلى أنّ الحجر في الولايات المتحدة حالياً الرامي إلى إبطاء انتشار فيروس كورونا قد ينتهي في وقت أبكر من الذي ينصح به الخبراء. وقد ربط الرئيس أكثر من مرّة احتمالات إعادة انتخابه بمصير الاقتصاد الأميركي الذي يتلقّى ضربة قاسية جداً في هذه الأوقات جرّاء هذا الحجر.
وغرّد ترمب يوم الأحد "لا يسعنا أن نسمح للعلاج بأن يكون أسوأ من المشكلة بعينها. ففي نهاية مدة الـ15 يوماً، سنتّخذ قراراً بشأن وجهتنا المقبلة".
في المقابل، قال الدكتور فاوتشي مراراً وتكراراً إنّ الأمر سيستغرق طوال أسابيع أو أشهر كي تعود الحياة إلى مجراها السابق. والخطر المترتب على تجاهل هذه النصيحة هو استمرار الفيروس بالانتشار على غاربه وخسارة مئات الآلاف، بل ربما الملايين من الحيوات.
© The Independent